القرن الحادى والعشرون من الميلاد أو الخامس عشر من الهجرة، هو نقطة تحول تاريخى فى مسيرة الأسرة البشرية، إنها نقطة نهاية العصور الماضية القديمة والمتوسطة والحديثة، وهو نقطة بداية عصر ما بعد الحداثة، إن التاريخ نهر جارف لا يتوقف ولا يتجمد، يحرك أمواجه الإنسان فى إطار قوانين الكون والوجود والطبيعة وهذه أمور دوماً فى مخاض وتطور وتجدد. أولاً: سيكون هذا القرن عصر علم جديد وإبداع جديد، والعلوم التى سبقته هى التى تمتد فيها جذوره، ستظهر علوم لم تكن تخطر على قلب إنسان، وأعطى بعض الأمثلة طلع علينا يوم 24/ ديسمبر/ 2014 عالم إيطالى اسمه سرجيو كنافيرى على صفحة مجلة بارى ماتش وكتب مقالاً يؤكد فيه أننا سنتمكن من نقل رأس إنسان إلى جسد إنسان آخر وأضاف فى كبرياء هذه خطوة لخلق إنسان لا يموت، لا تسخر فقد صرح فيلسوف فرنسى سنة 2010 اسمه أدجاربو أننى لن اتحمل وجود كائن أسمى من الإنسان فى هذا الوجود، وفى الواقع لم تأت الحضارات الثلاثون التى أحصاها توينبى إلا من أجل هدف واحد، البحث عن سر الخلود، وكيف يخلد الإنسان، فلماذا لا يخلد الإنسان؟ إن فى أعماق كل شخص بشرى رغبة فى عدم الموت أو يحلم بالخلود، إن الاحساس بالكبرياء والتمرد مازال مسيطراً على كيان الإنسان، يريد أن يلغى الله. تبلورت هذه الأفكار ليحملها القرن الحادى والعشرون إلى معامل التحليل لينقل رأس إنسان على جسد إنسان آخر. والآثار التاريخية خاصة حضارة الفراعنة واليونان والهند ليست إلا محاولة لتخليد إنسان وما معنى اختراع قطع غيار للجسد البشري، نقل قلب بدل قلب، أو عضو بدل عضو، أو صنع أعضاء بديلة، أليست كلها لمحاربة الموت أو لتأخيره أليست تعبيراً عن رغبة الإنسان فى عدم الفناء!. وأعطى مثلا آخر، لقد تأسست شركة أمريكية لها مراكز فى أماكن متعددة، أعلنت قبول الأموال للاشتراك فيما يسمى إحياء العظام وهى رميم، وهذه الشركة يمدها بالمال جوجل ومركزها الرئيسى فى سان فرانسيسكو، وقد أسهم فيها المليونير اليونانى الراحل أوناسيس طمعاً فى العودة إلى الحياة إذا نجح العلم فى ذلك، وهم يؤمنون بأن الإله الجديد هو العلم أما أصحاب الأديان يعتبرون أن هذه الأمور عبث فى عبث فالمادة تلد المادة أما الروح فهى من أمر ربى وإن كانت المادة لا تفنى أو تستحدث فإنها تتطور وتتجدد لكنها لا تلد عقلاً أو روحاً أو ضميراً، وكأن القرن الحادى والعشرين جاء ليبشر بالإله الجديد اسمه العلم وهم يقولون لأبناء الإيمان انظروا لقد تحولت أديانكم من أديان العدل والمحبة والنور إلى أديان السلطة والسيادة انكم تشبهون شخصية الراعى جيحاس فى أسطورة كتبها أفلاطون، لقد عثر الراعى الفقير على خاتم الاخفاء، فهو قوى قدير مادام هو فى الخفية وإذا خلع الخاتم يعود هزيلاً ضعيفاً كما هو فى الحقيقة، وأنتم تلتحفون بالغيب. ثانياً: على المستوى الأخلاقى ماذا يحمل القرن الحادى والعشرون فى جعبته، نتائج الفوضى الأخلاقية التى سادت بعد الحرب العالمية الثانية، برلمانات تشرع الزواج المثلي، والحق فى تبنى الاطفال وانضم إليهم بعض من رجال الدين باسم الحرية الشخصية ونسى الجميع ان إلغاء وجود الله القدوس لن يعطينا الخلود بل هو جنون العظمة أصاب الكائن البشرى كما نسينا أننا لم نخلق أنفسنا هذا أمر لا نملك فيه حقا، نملك فقط حق الانتحار تماماً كما تنتحر البشرية إن هى نصبت نفسها إلهاً لنفسها، أسقطنا أجمل ما فى الحياة، إنها رسالة وهبة وغايتها إلى الذى خلقها. تأمل فى قضية المهاجرين إلى بحر الموت هاربين من الفقر والظلم، يقف العالم الشمالى فى حيرة من أمرهم يبحث عن حل لعله حل جارتى أم السعد، تجمع الزبالة وتضعها على حدود شقتنا، فهى لم تخترق حدوداً وإنما ألقتها فى نقطة حيادية حتى تأتى القطط لتوزعها بالتساوى على السكان، يفكرون فى إقامة مخيمات للمهاجرين على أطراف ليبيا، أو على حدود مقدونيا، كأنهم نفاية، لم يفكر العالم فى إقامة المصانع والمدارس فى أوطانهم لاستيعابهم، يخزن فقط أسلحة الدمار دون فائدة، إنها للردع لا للاستعمال، ملايين الملايين والبؤساء يزحفون نحو مكان آمن، فأى عالم نعيش فيه ويتشدق بالسلام العالمى والأخوة الإنسانية، وقد يتوهم البعض أن بلداننا العربية بعيدة عن كل هذه التخوفات. نقول إذن نحن مازلنا نياماً، فلا حواجز أمام الفكر وإذا سد الشمال الأبواب أمام المهاجرين فلسوف يجدون منافذ إلى بلادنا شئنا أم أبينا فماذا نحن فاعلون بهم!, ثم لاحظ كيف أن الحروب الأهلية والدينية أو المذهبية انتقلت من الشمال إلى الجنوب فكلها تشتعل جنوب الكرة الأرضية بعد أن تخلص منها الشمال واعتقدوا أنهم بعيد عنها. ثالثاً: حذار من أن يفهم المقال على أنه عداء للحضارة، هو دعوة للفهم وإدراك بعضٍ من هواجس حول القرن الذى نعيشه، نعم للطائرات بدون طيار لعلها ستكون أداة الحرب فى المستقبل، نعم لاكتشاف دواء جديد، نعم لكل ما يبنى حياة الإنسان ويشيع فيها أمناً وسلاماً، لكن العالم فى حاجة شديدة إلى رجال دين أصحاب رسالة لا مهنة دعاة محبة وعدالة ومساواة، وأقول: حاشا للإنسان أن يتأله ظنا أنه قد أخذ مكان الخالق، وحاشا للإنسان أن يفقد الرجاء والأمل، هذا القرن الحادى والعشرون بداية حضارة جديدة فلتكن حضارة الإيمان والرجاء والمحبة. لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلتة