لنعترف بأن هذا العالم ليس مثاليا, لا تتحقق فيه عدالة مطلقة أو مساواة تامة, كما أن الإنسان فيه ليس حرا تماما فالقوانين الطبيعية تحكم جسده, والقوانين العلمية توجه سلوكه, والقوانين الأخلاقية تحد من سيطرة غرائزه وأنانيته. وما تاريخ مسيرة البشر إلا صراع بين المادة والروح, وأي منهما يسود علي الإنسان. ولنعترف أيضا بأن الحياة مزدحمة بالتناقضات تموج بها أديان متعددة, وأحيانا متصارعة, كل يدعي أنه يمتلك الحقيقة المطلقة, دون أن يدري أحيانا ما هي هذه الحقيقة المطلقة, دون أن يدري أحيانا ما هي هذه الحقيقة وقد شهد التاريخ الطويل منذ آلاف السنين, أن البشرية لم يغلب عليها دين واحد, أو سادتها عقيدة واحدة أو مذهب واحد في أي مرحلة من مراحل هذا التاريخ الطويل, وبدأ التنوع والتعددية قانونا وحكمة عليا برغم الحروب والثورات والضحايا. ولنعترف أيضا بأن عالما جديدا ولد بعد الحرب العالمية الثانية, وأن النصف الثاني من القرن العشرين شكل الحياة البشرية من جديد, أدركنا ظاهرة العولمة والتحديث العلمي, ولست مسرفا إذا قلت إننا في بداية هذه الظاهرة فالعولمة الحقيقية لم تتحقق بعد, كما أدركنا أن خلال ربع قرن سيصل العالم إلي ثمانية مليارات من البشر تحتاج إلي الماء النقي والغذاء الصالح, والسكن اللائق, والطاقة المحركة, ونعرف أن في هذا القرن( ستة مليارات وأكثر قليلا) من الناس, منهم مليار ونصف المليار لا يحصلون علي هذه الحاجات الإنسانية الضرورية, هذا الواقع يحتم علي الشعوب كافة أن تتضامن, كما أن علي الحكومات أن تتعاون مع غيرها لخلق حلول لهذا كله, ولن تستطيع دولة بمفردها الخروج من هذا النفق, فالتعايش في سلام ليس ترفا أو رفاهية بل هو نقطة انطلاق لعالم جديد. ظاهرة أخري طفت علي سطح الكرة الأرضية وقد شاعت في وجدان الأفراد والجماعات وهي ظاهرة الخوف من الإنسان المختلف, تأمل شمال الدنيا وجنوبها, شرقها وغربها, من أقصاها إلي أقصاها تجد أن الخوف قد سيطر علي العقول والوجدان, ففي الغرب والشمال خوف من المهاجرين من بقاع العالم المتعب المثقل بالهموم, وخوف من ترسانات السلاح بخاصة القنابل الذرية ومن قانون السوق والنكسات الاقتصادية المروعة, وفي الجنوب خوف من استنزاف ثرواتها والتعرض للمجاعات والحروب الأهلية, وغياب حكم قوي ونظام عادل... أما الشرق وقضاياه المعقدة المتراكمة فليس بأفضل حالا, فلم يبدأ بعد في وضعها كما ينبغي وربما تستحقه, وخرج أيضا من ميراثه التاريخي الذي صان كيانه ومجتمعاته قرونا طويلة... ونتيجة لذلك كله انفجر العنف في كل مكان, وتمزقت الأسرة البشرية بل واتهمت الأديان وهي نقطة انطلاق المحبة والسلام والعدل, اتهمت بأنها أحد مصادر العنف والكراهية والعداء. وتقف الأسرة البشرية علي عتبة مرحلة تاريخية جديدة, فالمستقبل مزدحم بالرؤي, وعليها أن تختار بين أمرين كما قال أحد المفكرين( هو جبرائيل جارسيا ماركيز) لا تنتظروا شيئا من القرن الحادي والعشرين, بل القرن الحادي والعشرون ينتظر كل شيء منكم فما أن تتعايش وتتضامن في كل قضاياها وإما الدخول في ظلام العنف. ما الحل ؟ هذا اجتهاد لا أكثر ولا أقل قد يساعد علي رؤية المستقبل بأمل ورجاء لن يفقده المؤمن بالله والإنسان أ يجب نشر ثقافة اللاعنف ليس فقط ثقافة السلام الهش, والمجاملات الاجتماعية العابرة, بل من الآن لتكن إرادة الإنسان واضحة أن يرفض العنف, في السلوك اليومي, وفي مختلف المجالات, ليعلنها العلماء والمفكرون وأئمة الأديان والمدرسون والآباء والأمهات, إن الكراهية تلد الكراهية, والعنف يلد العنف, ولا سبيل للتنمية والترقي أو للعدالة والسلام تحت ضباب الخوف, إن البطولة الحقيقية في هذا العصر ليس قتل الآخر وتدمير أمنه بل البطولة أن تشبع جائعا, أن تجد عملا لعاطل, وعلاجا لمريض ومكانة لعجوز. ب أن يكون الدين أحد مصادر هذه الثقافة, وينبغي أن نفرق بين الثوابت في الدين والإيمان والعقيدة وبين التاريخ الديني للشعوب وهو واقع البشر وسلوكهم ودوافعهم الخاصة, لا ينبغي الخلط بين الفكر الديني الذي جاء في إطار زمني محدد وفي بيئة جغرافية محددة, وبين متغيرات العصر وتقلبات أحوال الشعوب, ولا تخلو مسيرة دينية لشعوب الأرض كافة من أناس وقادة ومعلمين استغلوا الأحاسيس الدينية واستخدام بعض نصوصها لصالحهم وطموحهم والدين من ذلك براء, فالبشر جميعا عيال الله, والأرض أعطاها لأبناء آدم والله وحده فاحص القلوب للضمائر فليس للإنسان أن يحكم علي عقيدة إنسان آخر. ج التضامن بين أصحاب الأديان كافة لإشاعة ثقافة المصالحة لا للتخاصم, والحوار لا الصدام, السلام لا الحرب. د لم يعد العالم كما كان حتي منتصف القرن العشرين, منقسما إلي مناطق دينية, أو جنسيات متصارعة, بل أصبح مدينة عالمية تعج بالأجناس والأديان والأفكار, لم يعد الإنسان المختلف بعيدا, ولا يوجد بلد في غني عن العالم, ولا فكر قيد الحدود, العالم مندفع لتشكيل الحياة من جديد, والحضارة العلمية كاسحة, وعلي الشعوب أن تسأل نفسها, نكون أو لا نكون, نلحق بالتقدم أم نظل سجناء فكر قديم وتخلف قاتل, وعلي المؤمنين بالقيم الدينية أن يجعلوا منها جسرا بين الحضارات وللتفاهم والتعاون فقد ثبت بطلان القول بصراعها, بل هي في حاجة إلي تقوية وجهد بقيم السلام واحترام الحياة والأنسان. إن نظرة فاحصة في أحوال هذا العالم من حولنا, نلحظ أن المجتمع الإنساني في كل مكان وبخاصة في عالمنا الثالث ووطننا العربي في حاجة ملحة إلي أمور ثلاثة: (1) ثقافة احترام الحياة, ليست ثقافة جديدة وافدة, أو غزوا فكريا غربيا بل هذه قيمة من صميم قيمنا وتعاليم أدياننا وتراثنا الفكري والحضاري ولك أن تنظر إلي أغرب ما يحدث علي مسرح الدنيا, مالم يعرفه تاريخنا, ظاهرة الانتحار لقتل الأبرياء وكأننا نعتنق مبدأ مكيافللي أن الغاية تبرر الوسيلة, وبعض يعتقد أن محاربة الشر والظلم والاحتلال, أمر يبيح قتل الإنسان البرئ, أو أن شهوة الانتقام والتشفي تحلل الأخذ بالثأر دون أي احترام لحياة غير المذنبين, هذا مشهد لم تعرفه حضارتنا ولا ثقافتنا المصرية, وأغرب منه صمت الكثيرين من أهل الفكر والرأي, ننسي أن احترام الحياة شرع إلهي في كل الأديان, وهو أساس لقيام الحضارة والقانون والعدالة. (2) ثقافة احترام الشخص البشري, وهذا أصل من أصول الأديان كافة, والمعجزة الإلهية الثابتة أمام البشر, إن الناس جميعا خلقوا علي نظام جسدي ونفسي وعقلي واحد, ليس هناك سمة تفرق بين إنسان وآخر في تكوينه البيولوجي, إنها لمسة إلهية بلا أدني شك, إنها المساواة في الكرامة والقيمة بين أبناء آدم, وليس من حق إنسان مهما أوتي من علم أو إيمان أو فضيلة أو منصف أن يحتقر شخصا بسبب لونه, أو فقره, أو عجزه, أو عقيدته, أنك لا تغير إنسانا بالعنف أو القسوة أو الإكراه بل بالحب والحوار والتعايش الآمن المسالم, (3) ثقافة احترام الطبيعة والبيئة, ليست ترفا أو أمرا ثانويا, بل هو من صميم تعاليم الأديان, فالطبيعة هي المهد واللحد لكل البشر, وعليهم كافة أن يقفوا ضد العنف والاستهتار بالطبيعة, إنها ثقافة نحتاج إليها لنبني مجتمعا سويا آمنا, ونعد لأجيالنا مستقبلا يحيا في سلام.