بين الحين والحين، تكتئب قلوب كثيرة، وتهتز الضمائر التى تحب لمصر الخير والأمن والسلام، يتراءى شبح أشبه بكابوس مزعج، وتسمع أصوات القلق فى أنحاء الوادى الجميل، وتلتقط الفضائيات السوداء الصدى، فتلقى على نار زيتاً ثم تظهر الحقيقة فإذا بمصر العظيمة لم تهتز، وبالوحدة الوطنية لم ينقطع تلاحمها، وتمضى مسيرة التنمية، وتعبر مصر الثمانين مليونًا، دون حدوث مجاعة أو صراع يمزق وحدة شعب صنعها التاريخ والحضارة وصانها الإيمان واحترام الحياة والإنسان. هذه السطور أقرب إلى التأمل منها إلى التحقيق والدراسة العلمية، لإلقاء الضوء على مسيرة الحضارة الإنسانية وكيف نهضت الشعوب واستقرت أمورها، وسكن السلام ربوعها بعد حروب طويلة، لعل هذا الضوء يكشف أبعاد هذه الحدوتة الكئيبة ويكشف عن جذورها الممتدة فى الماضى البعيد. (1) إن أول من قال إن التاريخ هو علم له منهجه واستقلاله هم اليونان، وهو حركة الإنسان فى الحياة وفى الطبيعة وعلاقته بالإنسان الآخر، ويقول التاريخ، إن الحضارات تتناسل فى شبه قانون علمى وسنن ثابتة، لا يعود مرة ثانية فأنت لا تستحم فى النهر مرتين فى الماء ذاته، والتاريخ نهر جارف متدفق لا يتجمد، ولا يتوقف ولا يرحم الكسالى والمتراخين، ماذا حدث فى العالم خلال قرن مضى.. وماذا حدث فى عالمنا العربى وفى مصر. الذى حدث فى العالم أشبه ما يكون بالمعجزات، تقدم علمى مندفع لا يتوقف، وصل إلى غزو الفضاء، وفك أسرار الطبيعة، واختراق قوانين الجسد البشرى، حتى تساءل أحد العلماء: وهل من نهاية للمكتشفات العلمية؟ وحدث فى العالم أيضاً تطور لم يخطر على بال أذكى علماء العصور القديمة، وأدرك الإنسان أنه يحيا على سطح كوكب هش ضئيل، أشبه بحبة رمل على شاطئ محيط الكون اللامتناهى، وأدرك أن البشرية شأنها شأن سائر المخلوقات فيها التعددية والتنوع والاختلاف، وفيها الجمال والقبح كالنور والظلام، وفيها الخير والشر، وفيها الإيمان والإلحاد، فيها الأديان والمذاهب والملل، والأغنياء والفقراء، والأصحاء والمرضى، العباقرة والمجانين، الأبطال والجبناء، إنها قوانين ثابتة فى النبات والطير الحيوان والإنسان، بل التنوع فى الجماد والبحار والأنهار والرمال والتراب والصخر والحجر، ونهاية الأمر خشع الإنسان أمام قوة إلهية لا تقع تحت الحواس، وإنما يدركها العقل والإيمان، حتى إنك لا تجد عالماً حقيقياً أصيلاً ملحداً أو ناكراً لوجود الخالق تبارك وتعالى، فالعلم الحقيقى طريق إلى الله، وعشرون ديانة رسمية فى العالم، كل منها تقول إنها الحق ويظل الإنسان فى عطش إلى الله كلما اكتشف روعته وجماله ازداد تعطشاً وتواضعًا وسمواً. (2) لقد خطت البشرية خطوات هائلة بعد أن عذبتها الحروب التى أودت بأرواح الملايين وكست الحياة بلون الألم والحزن، وسالت الدماء والدموع فى حروب صغيرة، وحروب كبيرة أطلق عليها عالمية أولى، وثانية، وقامت ثورات التحرير فى كل مناطق الدنيا، وانحسر استعمار الأقوياء للضعفاء ونهب خيرات بلادهم، وطلعت على سطح الدنيا دول لم يعرفها التاريخ، وسقطت هيبة دول كبرى، ومضى تاريخ البشر يأتيهم كل يوم بجديد، وذلك كله أثمر عن نتائج خطيرة تمسنا نحن أبناء هذا الشرق الذى هو نقطة انطلاق الأديان ومهد الإيمان وصاحب الحضارات الأولى، وواضع أسس الحضارة والقانون.. النتيجة الأهم لمسيرة التاريخ اكتشاف حقيقة كبرى وهى أن الإنسان هو الإنسان فى كل زمان ومكان فى كيانه، فى غرائزه، فى قوته، فى ضعفه، وهو أخو الإنسان الآخر شاء أم أبى مهما اختلف عنه ثقافة أو عقيدة، وأن لا مكان لسعادته وحده بل السعادة أمر مشترك. مازالت عقلية التمييز بين شعوب الأرض تسيطر على عقولنا ووجداننا، ونسينا أن للتاريخ مساره ودوراته وللحضارات أعمارها ونهاياتها، وأن الشعوب المميزة هى التى يسودها العدل والحرية، وتقدم الشعوب أو تخلفها لا يورث بل يتوقف امتداده أو انحساره على إرادة كل شعب وجدية حكومته واعتزازه بتراثه وفطنة استخدامه للحضارة.. هل أبالغ إذا قلت إن ثقافتنا العربية لا تزال تستمد قوتها من علماء القرون الغابرة لم يأت عالم بديلاً عن الفارابى أو ابن سينا أو ابن رشد، فرغ عالم الشعر من أمثال أبى العلاء المعرى والمتنبى وأحمد شوقى وخليل مطران وحافظ إبراهيم. أين الفلسفة العربية وعلم الفقه، أين توهج الروح العربية فى المجالات المتنوعة، هرب علماؤنا ومفكرونا وباتت ساحة الفكر عندنا يحيط بها الخوف من سلطان ورثناه عن العصور الوسطى، يحمل سوط التكفير والترهيب والوعيد، نسينا أمنا الأرض ومن عليها وغرقنا فى الآخرة والغيب بالرغم من أن الدنيا هى المقدمة والإعداد للآخرة. نحتقر الغرب الكافر ونستمتع بحضارته ولا نسأل هل الكفر يلد الحضارة والعدالة واحترام الإنسان، لماذا يتفوقون علينا؟ نحتقر من يخالفنا العقيدة أو المذهب، ولا نبحث لماذا؟ فمتى نخلع ثوب العصور الوسطى ونلبس ثوب الفكر والتحليل واختراق أسرار العلوم، ولا توجد أمة تلد وحدها العباقرة، فالعقل البشرى المتنوع المتوهج فى كل شعب وعصر ومجتمع، لقد سقطت أسطورة تفوق شعب على شعب، كما سقطت مبادئ العصور الوسطى عصور الدين والحرب التى سارت على قانون السيد والمسود، فازدحمت تلك العصور بأسواق الرقيق والجوارى وأهينت كرامة الإنسان، لقد اكتشفت البشرية بهتان وبطلان الادعاء بأن هناك إنساناً يستحق أن يكون سيداً وآخر يستحق أن يكون عبداً، وانتهت أسواق الرقيق والجوارى من أنحاء الأرض إلا فى بلدان مظلمة يلفها الجهل والتخلف، ومن أجل الإنسان قامت الأممالمتحدة بعد مخاض عسير، وأعلنت حقوق الإنسان، وأنشئت المنظمات المتعددة ونودى فى الدنيا بأن تنمية الإنسان وترقيه غاية وهدف الحضارات بعلومها وآدابها وفنونها، وينبغى أن تكون التنمية هدفاً قومياً لأجيال مقبلة، أشرقت شمس الحرية فى كل مكان، وانتصر الإنسان على إنسان الماضى، وتحرر من الأساطير والتقاليد البالية، وشرب حتى الثمالة من الحضارة وترفها ورفاهيتها، وما ذلك إلا بداية الطريق إلى وحدة إنسانية فى أسرة بشرية واحدة، والأمر ليس بالخيال بل هى إرادة الخلق ومعنى الوجود. (3) حدث هذا كله فى العالم، فهل أصاب من واقع منطقتنا العربية، هل دخلت موكب الحداثة والعصر والعلم والنظام والقانون، أم أنها اكتفت بأنها تمتلك ذلك كله فى خزائن كتبها ومخطوطات متاحفها، فلم تزل منطقتنا تئن من أمية فاضحة، ومن طبقية صارخة، ومن قبلية عنيدة، وكأننا نلبس ملابس الحضارة والعصر وتحت الثياب شخص من العصور الوسطى، وإلا قل لى بربك ما معنى هذا الإرهاب المحيط بهذه المنطقة؟ ما معنى الدمار، والقتل، وترويع الآمنين، وما معنى التعصب للعنف والتطرف حتى القتل للأبرياء، ما معنى اتخاذ الدين وسيلة لهذا كله، واحتقار الدين الآخر، والتاريخ يؤكد لنا أن الدنيا لم يسدها دين واحد فى أى زمن من عصورها القديمة والحديثة، وأن الحقيقة المطلقة لا يسعها عقل بشرى، والله تبارك وتعالى ليس ملكاً لإنسان فهو الله قبل الأديان وفى الأديان وبعد الأديان، وبرغم ادعائنا أننا نملك الحقيقة، وندرك أن الحقيقة هى التى تثبت الحقيقة ولا خوف من جيوش الظلام على شمعة واحدة، بل الشمعة تمزق حجب السواد، فإننا لا نحترم الإنسان المختلف عنا، ترى أى منطق يحكم الفكر فى منطقتنا العربية؟ ومن يقود الرأى العام العربى بل أسأل متى نبدأ العصر الجديد لحضارة الإنسان والحياة؟.