ما أشبه اليوم بالبارحة، كأن التاريخ يعيد نفسه، وأزعم أن القرن الحادى والعشرين هو نهاية عصر الحداثة الذى كانت بدايته فى القرن الخامس عشر وامتد إلى نهاية القرن العشرين، لقاء أمريكا وكوريا الشمالية هو بداية عصر ما بعد الحداثة، لماذا نقول ذلك لأن اللقاء كان وهماً مستحيل التحقيق، فالاختلاف واضح بين حضارتين، حضارة آسيا وحضارة أوروبا، اختلاف فى الشكل والمضمون، الرئيس الأمريكى أشقر اللون أزرق العينين، فارع الطول كنجم من نجوم رعاة البقر، نال ثقافة جذورها مسيحية غربية، وعاش عصر الاحساس بالنصر والتفوق، فى اللقاء كان واثق الخطوة، قوى الحجة، أميل إلى الغرور الغربى منه إلى التواضع الشرقى على عكس الرئيس كيم، يجسد آسيا والشرق الأقصى للعالم، قليل الكلام، دائم الابتسام، خرج من رحم شعوب لاتزال مطحونة، لم تعرف الحرية والديمقراطية كما عرفها الغرب، لم يأت ترامب مبشراً بدين أو واعظاً عن الجنة والنار كما كان يأتى أسلافه وحلفاؤه من أوروبا ، وإنما جاء ملكاً لحضارة علمية ومادية كاسحة، ومن غير أن يعلن ذلك فإنه جاء مبشراً بالاقتصاد والتجارة والمال ، لم تذكر كلمة الحرب، أو السلاح، أو العنف فى المحادثات ، وقبل اللقاء بأيام قليلة أعلن الرئيسان أن أصابعهما فوق أزرار القنابل وأدوات الدمار، أما فى اللقاء فقد تغيرت اللغة ، وتكررت كلمة السلام والأمن مرات عديدة على مسمع ومرأى العالم من الرئيسين، فهل نحن فى حلم أم فى علم ، وماذا حدث؟ أهى معجزة من السماء، أم بادرة فجر جديد لعالم أضناه العداء وارهقته الكراهية فسعى الغرب إلى الشرق كما سعى الشرق إلى الغرب إيذاناً بعصر جديد وإنسانية جديدة وبآمال جديدة، فكيف حدث هذا اللقاء بين غرب مترف مرفه وبين شرق يئن من عبء الحياة وكلاهما يمتلك السلاح المدمر؟ ليس فى الأمر معجزة نزلت من السماء، وإنما هى لحظة تحكم فيها العقل وتوهجت روح إنسانية، وإن كنت لا أنكر نعمة الله على الإنسان يسكب نوره على العالم بين الحين والحين، فالخالق ليس بعيداً عن خلائقه والتاريخ البشرى لا يصنعه الإنسان وحده ، وجميع الحضارات التى سبقت لم تكن تخلو من عون إلهى يأخذ بيد الإنسان حتى لا يضيع منه طريق إنسانيته وتصبح الأرض غابة وحوش. أغلب الظن أن العالم مقبل على مرحلة جديدة ، لقد سئم الحروب حتى وإن ظن البعض أن الحروب جزء من طبيعة التاريخ البشرى، سئم إنسان الغرب القتال وتدفق الأموال لتجميع الأسلحة وتطويرها ، أدرك أنه لم يخلق للموت والانتحار بل خلق للحياة وجعلها أجمل وأفضل ، هذا اللقاء تجاوب لوجدان الشرق والغرب، وكأن الشعوب تصرخ نريد الحياة لا الموت ، نريد العلم والإبداع والفن والحرية ولا نريد الخير ملطخاً بدماء الضعفاء، صرخة إنسانية أسقطت غربة الشرق عن الغرب . وأزعم أن نهاية عصر الحداثة وبداية ما بعد الحداثة بلقاء الغرب والشرق إنما جاءت حتمية فى سياق التطور التاريخى لقد فشلت الثقافة الغربية فى استيعاب العالم وبرغم سيطرة أصحابها على البلدان واستعمارها وجيوشها فإنها لم تغير كثيراً من وجدان وعقلية هذه الشعوب المغلوبة على أمرها من هنا انبثقت فكرة لقاء ترامب كيم، ربما لبداية محاولة استيعاب العالم ليس بالثقافة الغربية بل بالاقتصاد والعلوم الحديثة ، وربما يكون كيم الذى يمثل شعباً من شرق الكرة الأرضية لديه الطموح ذاته بعد أن فشلت أيضاً أيديولوجية الشيوعية التى سحقت إرادة الشخص البشرى الفرد ورفعت شعار الفرد بعد الجماعة. لم تعد ثقافة الغرب قادرة على صياغة مستقبل البشرية ولم يعد النظام الشيوعى قادراً على تحقيق هذه المهمة، وللحقيقة نعترف بأن العالم الثالث ومنه العالم العربى لم يقدم للبشرية رؤية للمستقبل ولم يسهم كثيراً فى الحراك العالمى السياسى أو الاقتصادى أو الثقافى ، إن الثقافة شيء والأديان شيء آخر ، فهل أدرك هذه الحقائق ترامب وكيم وهل هما فى الطريق لبناء رؤية لمستقبل العالم؟ دافع آخر وراء لقاء الغرب والشرق، هو ما تشعر به البشرية أن عالماً جديداً فى مخاض ليلد إنسانية جديدة هاجسها الأول ألا تنشب حرب عالمية نووية قد تدمر كوكب الأرض ، هاجسها الثانى الخوف من تزايد تدفق المهاجرين واللاجئين والجياع والفقراء، إن القلق والخوف والحيرة والتخبط أمور تلف وجدان الشعوب الغربية والغنية كيف يوقف تدفق موجات القادمين من الفقر والقهر والمرض، هذا الشبح المرعب قد يكون أحد أسباب البحث عن تكتل إنسانى للبحث عن حل، فقد سقطت الحواجز الجغرافية والتاريخية بين أمم الأرض وليس أمامنا إلا البحث عن حل يتحد حوله البشر. دافع آخر لهذه الزيارة قد لا تلتفت إليه التقارير التى تصل إلى الرؤساء وهو دافع الكشف عن كيفية المعايشة بين الأديان المختلفة والمذاهب المتعددة فى أمريكا ( حوالى 500 مذهب دينى ) ولهذه الأديان أثر فى تكوين أخلاقهم وفى سلوكهم، أما ترامب فهو ذاهب إلى بلد شيوعى رغم فشل الشيوعية، تحرم الدولة ممارسة الأديان، فهل مات الحس الدينى عند هذه الشعوب، وهل استطاع نظام لا يؤمن بالغيب أن يضع قيماً تتحكم فى الإنسان؟! تبقى كلمة أخيرة هذا اللقاء أسقط الحاجز والغربة بين الغرب والشرق وفتح الباب لمستقبل ما بعد الحداثة. لمزيد من مقالات ◀الأنبا د.يوحنا قلته