لا يغيب عن بال مفكر يخترق أحداث العصر، ولا عن انتباه متأمل يتابع تدفق المكتشفات والإبداع فى المجالات كافة، لا يغيب عنهما أننا على عتبة عصر جديد تماماً، فى جغرافية الدول، فى علاقات الشعوب بعضها ببعض، فى ممارسة الإيمان والدين فى مختلف أنواع الفنون والآداب. ذلك أمر يشبه ما حدث فى القرن الخامس عشر الذى يدعى قرن النهضة، لكن صدمة التطور والتغيير كانت أشد عنفاً فى ذلك القرن عنها فى عصرنا الحالي، لقد ظن الناس فى بداية النهضة أن الحضارة الحديثة وإبداعاتها فى كل مجال، وأن جرأة الفلسفة والتفكير، وأن الدعوة إلى الحرية والثقة بعقل الإنسان، ظن الناس أنها أمور تهدم الدين والعقائد مما تسبب فى تفجر الحركات الدينية المتطرفة تدعى أنها تحافظ على الميراث الروحى للبشرية، وجاءت موجات التطورموجة تجرى وراء موجة على حد تعبير شاعرنا احمد رامى فإذا بالبشرية تكتشف من اسرار الطبيعة، وثرواتها، وعلوم الفضاء ما يبهر الإنسان وما يقوى على الاستمتاع بالحياة ولم تهتز الأديان، ولم تسقط العقيدة لسبب غاية فى البساطة: الحضارة أو الحداثة تغير منهج الحياة إلى الأفضل، تتيح للإنسان الاستفادة من خيرات هذه الطبيعة الجميلة لكنها لا تمس قدسية ضمير الإنسان، ومحراب عقيدته، فهذا عالم يختلف ولا يخضع لسلطان العلم ، بل لسلطان الضمير، قدس أقداس الإنسان، ولا تستطيع قوة أو سلاح أن يغير عقيدة إنسان تربى عليها ونشأ فى أحضانها. وأزعم أن بين العقل العربى الجماعى وبين الحضارة والحداثة سوء فهم عميق ومترسب، فهو يرفض الحضارة الحديثة من جهة ومازال يرى أن عصره الذهبى حبيس الماضى والتقاليد، مع انه من العبث البحث عن عصر ذهبى فى التاريخ فى مرحلة محددة أو فى أمة بعينها، لأن التاريخ نهر جارف لا يتوقف ولا يتجمد يختلط فيه الصدق والكذب الذهب والنحاس، الحقائق والأضاليل، أيام نصر وتقدم ونجاح وأخرى أيام هزيمة ونكسة، وذلك أمر أدى بالعقل العربى إلى ازدواجية مدمرة، فهو يريد أن ينهل من الحضارة الوافدة متعتها وترفها ويقطف من ثمارها وإبداعاتها من جهة، ويرفض اهم ما فيها ثمار حرية التفكير واحترام القانون وقيم العدل والمساواة، ومعنى كرامة الإنسان والحياة وأعجب ما توارثته الأجيال أن هذه القيم السامقة الرفيعة من صميم الضمير الدينى والإيمان بالمطلق، والمطلق هو إحدى ركائز حضارتنا وثقافتنا العربية، ولكنه يتجاهلها أو يتجنبها ملتحفاً بما ردده الأقدمون وكأن كل ما وصلنا إنما هو فوق مستوى التحليل والنقد، مع أن الإيمان والدين دعوة للتحرر، وسيادة العقل واحترام القانون الطبيعى والأخلاقي، ومن الخطأ الظن بأن العقل العربى الجماعي، عقل دينى خالص حريص على قيمه بينما هو يسبح فى بحر راكد مقفل، بعد أن قفل باب الاجتهاد، فلم يعد عندنا حماس الإبداع وجرأة التجديد وسعادة الانطلاق إلى مستقبل افضل. الحضارة ليست الانفلات الأخلاقى أو التحرر من واجب الإنسان نحو شخصه وأسرته ومجتمعه ووطنه، ليس إسقاطاً للمعنى الإلهى للحياة وللمصير وليوم الحساب، والحداثة ليست عبادة أصنام العلم والتكنولوجيا، وكلها وسائل للترقى وتضامن بنى الإنسان، إن الحضارة توحد الإنسانية والحداثة تعمق التعاون بين الأمم، وهدف العلم هو خدمة الإنسان لا استعباده أو سجنه فى أنانية وانطواء، وقل الأمر ذاته عن الإيمان والتدين، إنهما فى خدمة الإنسان ولم يأتِ الأنبياء والرسل إلا من أجل تقدمه والسمو به، فكلما اتحد الإنسان بخالقه واحترم شرائعه كلما ارتقى وتسامى عن باقى الكائنات، لا عداء بين الحضارة والحداثة وبين الدين ولا عداء للقيم الروحية، لأن ذلك كله يسعى لترقية كيان الإنسان باتصاله بعالم المطلق، واجتهاده لتكون الحياة أفضل وأوفر، الهدف واحد والوسائل متنوعة، إن الإنسان أعظم من إنسان إذا اقترب واتحد بمصدره الإلهي. مأساة العقل العربى الجماعى أنه تربية وربيب أنصاف العلماء الذين يتحكمون فى وسائل الإعلام كافة، وقد يتحكمون أيضاً فى شئون الدين وتفسيره وفتواه، لهم الصوت الأعلى بل والتجاسر بالقول إن خمود العقل العربى، وغياب الحضارة العربية كان من أسبابه سيطرة ما يشبه عصابات المماليك والمرتزقة واتحادهم مع انصاف العلماء واستكانة الشعوب العربية قروناً طويلة تحت حكم غرباء عن تراثه وثقافته يساندهم كثيرون من انصاف العلماء واختفى العلماء الحقيقيون ولم يظهر خلال هذه القرون زعامة وطنية قادرة على إحداث التغيير فالمجتمع لا يعطى إلا مما عنده والإناء ينضح بما فيه، ومازال التربص بكل علم جديد، أو عقل متوهج مستنير أو قائد جسور شجاع له رؤية، لم يخرج بعد العقل العربى الجماعى من الدائرة المغلقة حتى اليوم مما سبب فى نزعة خطيرة هى «النرجسية الجماعية» أو بتعبير أكثر وضوحاً، نرجسية لا ترى بشراً خيراً منا ولا عقولاً أذكى من عقولنا ولا تديناً أصدق من تديننا، لقد ظلت البشرية آلاف السنين تعتقد أن الأرض هى مركز الكون ومحور الوجود، وإذ بالعالم جاليليو يعلن أن الأرض ليست إلا حبة رمل على شاطئ محيط الكون، ثم أكد بعد ذلك أن للشمس والقمر والنجوم نظاماً خاصاً بها لا علاقة له بالأرض أو بدورانها أو بمعنى آخر اكتشف أن هناك أكثر من كون له قوانينه، ويا سبحان الله الخالق القدير الذى نظن نحن البشر أننا نمتلكه !! وأخشى أن تكون نرجسيتنا هذه متسربة فى ثقافتنا وتقاليدنا بل وأمثالنا وأحكامنا، أننا بعض من البشر تسرى على مجتمعاتنا القوانين التى تسرى فى كل الدنيا، ولابد أن نستيقظ من هذه النرجسية القاتلة، ونربى أجيالاً على أسس إنسانية رفيعة راقية دون تحيز لتاريخنا ودون ظلم وجلد لأنفسنا، إن وحدة الجنس البشرى والمساواة فى الحرية والكرامة نقطة انطلاق كل تقدم. لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته