قطعا كلنا يسمع أو يشاهد صاحبة السعادة الفنانة إسعاد يونس وقدرتها على تلوين صوتها وإكسابه قدرا من العمق والشجن وهى تقول لنا: «البص فى المراية هو البداية»، وربما يصرخ بَعضُنَا وهو يحدوه أمل غامض متوهج: ياليت المرايا تصلح ما أفسده الدهر فينا. بالطبع تحاول إسعاد يونس أن تقنعنا بأن «المراية» تشبه أجهزة كشف الكذب الذاتي، فكل منا يستطيع أن يخدع الآخرين بشكله وبكلامه، لكنه لا يستطيع أن يخدع نفسه، فإذا وقف أمامها فقد يعود إليه ضميره الذى اختفى فجأة فى ظروف مريبة، وقد يصاحبه بعدها فى كل عمل يؤديه، فى مدرسة، معمل، ورشة، مصنع، مزرعة، مؤسسة، شركة، وزارة، مصلحة حكومية. لكن لو تأملنا الإعلان قلبا وقالبا ربما نراجع أنفسنا ونسأل: ما هى الأسس العلمية والمعرفية التى استند إليها فى توصيف المرآة كنقطة انطلاق لمجتمع مأزوم إلى مجابهة الانحرافات العامة؟ الإجابة صادمة فعلا.لا نعرف مجتمعا ولا شعبا عبر التاريخ الإنسانى تغيرت تصرفاته العامة وتخلص من انحرافات أفراده بمجرد البص فى «المراية»، فالشعوب لا تتعدل منظومة القيم والأخلاق بها بهذه الطريقة البسيطة، حتى لو «بصت» فى كل المرايا المعلقة على الحوائط فى كوكب الأرض، لكننا نعرف نظما وأساليب وأدوات أخرى مدونة فى سجلات الحضارة والتقدم تفصل لنا كيف تمضى الشعوب قدما وتقضى على سلبياتها، ويمكن أن ندرس مثلا كيف تعدلت سلوكيات الشعب الصينى، سواء فى أيام الثورة الثقافية التى قادها ماتسى تونج، أو فى فترة النهضة الاقتصادية التى بدأت فى التسعينيات من القرن العشرين، وربما نتعلم من تجربة سنغافورة وهى تجربة عظيمة فى تحول مجتمع من حالة «فوضى وفساد وتخلف» إلى حالة «انضباط ونزاهة وتقدم»، ولن نتحدث عن اليابان وكوريا الجنوبية ولا إيطاليا التى خرجت من الحرب العالمية الثانية وهى شبه دولة متخلفة تسيطر العصابات المنظمة على جنوبها الذى كان محروما من المرافق العامة: صرف صحي، ومياه نظيفة وكهرباء..الخ، واخترنا الصينوسنغافورة، إذ كانت أحوالهما تصعب على الكافر قبل نصف قرن: فسادا وفقرا. باختصار نعم نستطيع نحن أيضا أن نصنع معجزتنا ونتخلص من مثالبنا، بشرطين: الرغبة والإرادة.وأتصور أننا لم نملك الإرادة الفاعلة منذ زمن طويل جدا، وإرادة السلطة والحكام هى «شعلة» إرادة الشعوب والأفراد وليس العكس، فالناس على دين ملوكهم.وقد صادفت مصريين مثقفين أو رجال أعمال أو مسئولين يَرَوْن ذلك صعبا، وربما مستحيلا، والسبب فى رأيهم أن عجينة المصريين غير عجينة كل الناس، عجينة سالبة بطبيعتها كما لو أننا خٌلقنا بها دون بقية شعوب الدنيا أو ضربنا فيروس خاص يعطل إصلاح تصرفاتنا وسلوكياتنا العامة.. وهؤلاء سقطوا فى الفخ، فخ التناقضات التى نعيش بها وعليها.. وقطعا نحن شعب تتسع فيه مساحة التناقضات بدرجة مذهلة، ستجد فينا من يصلى الجمعة فى المسجد ثم يدس بين طيات ملابسه حبة فاكهة أو يزوغ من دفع الحساب مستغلا الهوجة التى تحيط بالبائع بعد الصلاة، أو سائق ميكروباص يمارس البلطجة بعربته على الناس، ثم تجده فى لحظة وهو يفسح الطريق بذوق ولطف، أو مسئولا أو مديرا أو رئيس مجلس إدارة أو وزيرا كان يعمل بمنتهى الجدية والحرص ثم يرتشى أو يتفنن فى الحصول على مكاسب غير شرعية بالقانون، أو موهوبا يصل إلى منصب مرموق بطلوع الروح ويقلد سابقيه فى قطع الطريق على الكفاءات، وقد نسكن فى شقق نظيفة للغاية بينما سلالم العمارة والمناور فى غاية القذارة، أو ندفع ثلاثين جنيها بقشيشا فى عشاء عادى ولا ندفعها فى إصلاح أسانسير عطلان فى عمارتنا.. الخ. وكلنا لاحظنا مثلا كيف تَصَرَّفْنا بعبقرية نادرة فى ميدان التحرير طيلة 18 يوما رائعة من ثورة 25 يناير؟، ثم كيف انقلبنا بعدها؟، باختصار لا أظن أن شعبا من شعوب الأرض فيه هذه المساحة الواسعة من التناقضات فى شخصيته: منتهى النبل ومنتهى الخسة، منتهى الشهامة ومنتهى النذالة، منتهى الكرم ومنتهى البخل، منتهى الفساد ومنتهى النزاهة، منتهى القوة ومنتهى الضعف، منتهى النشاط ومنتهى الخمول، منتهى التعصب ومنتهى التسامح، منتهى التحضر ومنتهى البدائية، منتهى التعلم ومنتهى الجهل، منتهى الخنوع ومنتهى التمرد..كل الصفات الحميدة فى سطوتها وكل المثالب القبيح فى قوتها.. ما كل هذا التناقض وما أسبابه؟! والسؤال: هل هذا التناقض عائق يحول دون المصريين وعالم التقدم والرقي؟! لو راجعنا تاريخ مصر، ومصر ليست شمسا وقمرا ونيلا وشجرا وأرضا وإنما هى بشرها وأهلها، لن نجد شبيها، إذ تعرضوا تقريبا لغزوات ونقل ثقافات من الشرق والغرب، من الصحراء والمدائن، تقلبوا فى نظم وقيم وتقاليد وإمبراطوريات، بكل اختلافاتها وتباينها وتناقضاتها، امتصوها جميعا، بكل ما فيها ومصروها، كانوا أشبه بمعدن ينتقل من النار إلى الماء ثم إلى النار ثم إلى الماء، وكل نار لها وهج مختلف وكل ماء له تكوينه الخاص.. حالة عجيبة وشاذة، هم أصحاب أقدم حضارة إنسانية، ثم عاشوا كل الحضارات التالية لهم، لم تمر بهم أو تعبر عليهم، بل كانوا جزءا أساسيا منها، عليهم أن يفهموا أصحابها ويتعاملوا معهم، ويبتكروا ألاعيب يحافظون بها على بلادهم وحياتهم وثقافتهم دون صدامات تهلكهم وتبيد «مخزونهم الحضاري»، فتوسعت قماشة الشخصية المصرية وشملت كل هذا التناقضات، أحيانا يسود منها الفضائل وأحيانا يسود منها السيئات، حسب الحالة التى يفرضها النظام الحاكم لنشاطهم الإنسانى فى كل جوانب حياتهم. ومصر منذ أمد ليس قصيرا وهى فى حالة اضطراب ارتباك وتوتر..صراعات شرسة داخلية وخارجية، صراعات متخمة بالمصالح والمؤامرات والأكاذيب على حسابهم، صنعت البيئة الأنسب لظهور هذه التناقضات فى أشد حالاتها..ولن يعود المصريون إلى مخزونهم الحضارى ذى السمات الرفيعة والرائعة ويبتعدون عن السمات الرديئة والسفالة إلا فى نظام عام جديد قائم على قيم العدل والكفاءة، فالعدل هو معيار القيم التى يتأسس عليها المجتمع المنضبط وينمو بأخلاقه وسلوكياته، والكفاءة تستخرج من الأفراد أفضل طاقاتهم وتمنحهم فرص الرقى والصعود الاجتماعى والاقتصادى والسياسى بعيدا عن طفيليات الامتيازات والاستثناءات. العدل والكفاءة هما عمود القيم والأخلاق وليس «مراية» إسعاد يونس! لمزيد من مقالات نبيل عمر