رئيس الطائفة الإنجيلية يشارك فى حفل تخرج الكلية المعمدانية    سعر كرتونة البيض اليوم.. الأبيض يسجل 150 جنيها    طريقة سلخ الخروف تزامنا مع قدوم عيد الأضحى.. اتبع هذه الخطوات    «اتحاد الصناعات» يبحث مع الغرف التجارية سبل تمكين المرأة اقتصاديا    حزب الله: استهدفنا ثكنة راميم التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي بالأسلحة الصاروخية    التجارة البحرية البريطانية: سلطات عسكرية أجلت طاقم سفينة تعرضت لحادث جنوب غربي الحديدة    بملابس الإحرام.. الرئيس السيسي يصل جدة لأداء مناسك الحج (فيديو)    وزير النقل السعودي: 32 تقنية حديثة و47 ألف موظف و27 ألف حافلة لخدمة ضيوف الرحمن    أمريكا تعلن تقديم 315 مليون دولار مساعدات إنسانية للسودان    خبير تحكيمي يكشف عن خطأ فادح في مباراة الزمالك وسيراميكا كليوباترا    بالأسماء.. تشافي طلب طرد 5 لاعبين من برشلونة قبل رحيله    حقيقة موافقة ناتشو على عرض الاتحاد السعودي    «الإفتاء» تحذر من فيديو مزيف بالذكاء الاصطناعي يروج لتطبيق مشبوه    قصور الثقافة: لدينا 20 قاعة لسينما الشعب في 18 محافظة تعرض الأفلام الجديدة    لبلبة: دوري في فيلم عصابة الماكس لا يشبهني.. والأحداث مليئة بالمفاجآت    الأول مكرر على الثانوية بالكويت: الأخذ بالأسباب وتنظيم الوقت من عوامل النجاح    حكم صيام عرفة يوم السبت.. أدلة شرعية تحسم الجدل    وكيل صحة الشرقية يتابع خطة رفع درجة الاستعداد بمستشفى القنايات قبل العيد    طريقة عمل الطحال زي المحلات.. «وصفة على قد الإيد»    وزير الإسكان: إيقاف وإزالة عدة مخالفات بناء بمدن 6 أكتوبر والشروق والشيخ زايد وبني سويف الجديدة    ويزو: 'ممنوع الأكل في لوكيشن شريف عرفة بس أنا كنت مبسوطة'    نقيب الإعلاميين يهنئ السيسي بحلول عيد الأضحى    فيديو.. المفتي يوضح فضل العبادة في العشر الأوائل من ذي الحجة    عاجل| القطاع العائلي في مصر يستحوذ على 58% من إجمالي الودائع غير الحكومية بالعملات الأجنبية في البنوك    رابط التسجيل في منحة العمالة الغير منتظمة 2024 عبر موقع وزارة القوى العاملة    أمن القليوبية يكشف تفاصيل جديدة في واقعة قتل طفل القناطر على يد زوجة أبيه    الثانوية العامة 2024.. خبيرة تربوية: التغذية الصحية تساعد الطالب على الاستذكار والتحصيل    بيربوك: يجب على الاتحاد الأوروبي الحفاظ على ضغط العقوبات على روسيا    مودريتش يخالف رأي مبابي    اليسار الفرنسي يكشف عن خطة للتخلص من إصلاحات ماكرون وتحدي الاتحاد الأوروبي    الصحة الفلسطينية: 5 إصابات برصاص الاحتلال من مخيم الأمعري بينها 3 بحالة خطيرة    قد تسبب أمراض القلب، ما هي أضرار المشروبات الغازية على الجسم؟    موعد صلاة عيد الأضحى في مصر 2024    الأزهر: يجب استخدام عوازل لمنع الاختلاط في صلاة العيد    الفيلم الوثائقي أيام الله الحج: بعض الأنبياء حجوا لمكة قبل بناء الكعبة    كيف تساعد مريض الزهايمر للحفاظ على نظام غذائي صحي؟    بعد العرض البلجيكي.. آخر تطورات صفقة انتقال بلعيد إلى الأهلي (خاص)    قصف مستمر وانتشار للأمراض الخطيرة.. تطورات الأوضاع في قطاع غزة    برامج وحفلات وأفلام ومسرحيات.. خريطة سهرات عيد الأضحى على «الفضائيات» (تقرير)    «التنسيقية».. مصنع السياسة الوطنية    «صيام»: نطبق استراتيجية متكاملة لتعريف المواطنين بمشروع الضبعة النووي| فيديو    بالرقم القومي.. نتيجة مسابقة مصلحة الشهر العقاري    هل صيام يوم عرفة يكفر ذنوب عامين؟.. توضح مهم من مفتي الجمهورية    «الإسكان»: إجراء التجارب النهائية لتشغيل محطة الرميلة 4 شرق مطروح لتحلية المياه    محافظ المنوفية: 647 مليون جنيه حجم استثمارات الدولة في قطاع التعليم قبل الجامعي    المشاط تبحث تعزيز التعاون المشترك مع الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي    وزير الري يوجه برفع درجة الاستعداد وتفعيل غرف الطوارئ بالمحافظات خلال العيد    «هيئة الدواء»: 4 خدمات إلكترونية للإبلاغ عن نواقص الأدوية والمخالفات الصيدلية    نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد الكبير بالمحلة    لاعب بيراميدز ينفى بكائه بعد التسجيل في مرمى سموحة    فرج عامر: أوافق على مقترح الدوري البلجيكي.. ولا أستطيع الحديث عن عبد القادر وخالد عبد الفتاح    القاهرة الإخبارية تنقل صورة حية لطواف الحجاج حول الكعبة.. فيديو    إصابة شخص صدمته سيارة أثناء عبوره للطريق فى الهرم    ماس كهربائي كلمة السر في اشتعال حريق بغية حمام في أوسيم    حاتم صلاح: فكرة عصابة الماكس جذبتني منذ اللحظة الأولى    إنبي: العروض الخارجية تحدد موقفنا من انتقال محمد حمدي للأهلي أو الزمالك    حظك اليوم وتوقعات برجك 14 يونيو 2024.. «تحذير للأسد ونصائح مهمّة للحمل»    كتل هوائية ساخنة تضرب البلاد.. بيان مهم من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم الجمعة (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسلاميات يوسف إدريس
نشر في البوابة يوم 13 - 09 - 2016


كان لا بد أن نصل إلى «إسلام بلا ضفاف» ليوسف إدريس.
اشتبك يوسف إدريس فى كتابه المهم مع موضوعات لا نزال نتحدث عنها إلى اليوم.
أولا الموقف من الشعراوى وكان قد وصفه ب«راسبوتين الإسلام».
ثم إنه تحدث عن «عملية غسل مخ» ل«العقل المصرى» والشخصية المصرية بسبب «رياح الجمود» التى هبت على القاهرة.
تطرق أيضا إلى السياسة المصرية فى الحقبة الساداتية وما خلفته من كوارث نعانى من آثارها إلى الآن.
استلهم «يوسف» عنوان كتابه من عنوان كتاب للمفكر «روجيه رودى» وقد صرح هو بنفسه بذلك.. هنا فى «البوابة» نعرض جانبا من المقالات علها تكون نفعًا لنا.
تحدث عما دار فى عقله وقلبه أمام قبر الرسول
ماذا لو استجاب الله لدعائك يا يوسف؟
بدأت الكتابة كمتفرغ منذ خمسة وثلاثين عامًا، وقبلها كنت ضالعا فى الحركة الوطنية الطلابية والعمالية، ومنذ «العلقة» التى نالتنا على يد فيتز باتريك باشا حكمدار بوليس القاهرة فى كوبرى عباس وجنود بلوكات النظام، وثمة علاقة عضوية شخصية قد ربطتنى بالحركة الوطنية المصرية برباط لم تنفصم عراه، وأعتقد أنها أبدا لن تنفصم، ما حدث لمصر طوال هذه المدة عانيت منه على المستوى الشخصى من اعتقال إلى فصل إلى مرض إلى إهانات، ولا أزال أعاني، والإنسان منا ليس مصنوعا من حجر ولا من صلب، أنه دم ولحم وعظام فأعصاب... ومنذ ذلك اليوم البعيد فى أوائل الخمسينيات ولم تمر علي، وربما على المصريين جميعا إلا أيام قليلة جدا من الفرحة الشخصية والجماعية، مثل يوم ألغى النحاس باشا معاهدة 36، ويوم أمم عبدالناصر القناة، ويوم قرر فى خطبته المشهورة بالأزهر عقب العدوان الثلاثى أن نقاتل ونقاتل ونقاتل، يوم طرد الملك، يوم قرار العبور، وبطولة الجيش المصرى فى حرب 73، ولا أريد أن أذكر الأسباب التى لا تخفى على القارئ، وبعض أيام أخرى فى عهد الرئيس مبارك، وفى المقابل كانت حياتنا طوال تلك الأعوام التى قاربت على الأربعين سلسلة متصلة الحلقات من المشاكل والهموم، وعجيب أمر هذا الشعب الذى لست سوى فرد منه كيف تحملنا كل هذا، كيف لم ننكسر، كيف لم نركع، كيف لم نسلم بالأوضاع ونحيا كيفما اتفق، افتح قلب أى مصرى تجد أن قلقه على بلاده ومصيرها يكاد يوازى قلقه على مصالحه الشخصية، وعند بعض الناس يفوق قلقه على مصالحه الشخصية.
ومنذ النصف الثانى من السبعينيات والهم يتثاقل حتى يبلغ الحلقوم. ومع هذا، فنحن أحياء مازلنا نتحمل ونصبر، وحتى نأمل ونحلم، وتلك هى معجزة الشعب المصرى تلك التى أبقته حيا طوال أكثر من ألفى عام من حكم المستبدين والغزاة والمجانين.
كانت هذه الأفكار تدور فى رأسى، وأنا أرتدى ملابس الإحرام فى طريقى للصلاة فى الحرم وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب، رضى الله عنهما، فأرضاهما. وقفت أمام مقام الرسول الكريم وجموع المسلمين تتدافع لتلقى على بابه، وعلى مقامه نظرة شوق طالب، وشفاعة مكتومة فى النفس، كل منهم يبوح له صلى الله عليه وسلم بمكنون قلبه، وبدعاء له ولوالديه ولأولاده وعائلته، ومثلما كانوا يدعون دعوت، ولم يكن الدعاء سهلا، فقد كان على أن أفرغ نفسى تماما من كل اهتماماتها الشخصية والدنيوية، كان على أن أطهر قلبى وأفسح صدرى وأمسح كل ما يزدحم فى رأسى من قلق، ولم يكن الأمر سهلا، فما كان يشغلنى عمره أحقاب وأحقاب، طبقات فوق طبقات من هموم عامة وخاصة، من خوف غريب من المستقبل، من تشاؤم يكاد يطبق على بصيرتى وبصري، كان على أن أتطهر وتعود نفسى بريئة كنفوس الأطفال الرضع، جديدة، وكأن لم يسمها سوء ولا فعلت سوءا.
وأنا مستغرق فى دعائى لنفسى ولأسرتى وحتى لأصدقائي، هبط على خاطر كأنما هو منزل من أعلى عليين، وماذا يا يوسف لو استجاب الله لدعائك وحفظ عليك صحتك وعلى أسرتك سعادتها وعلى أصدقائك حياتهم، أهذا هو منتهى الوصول؟ ما فائدة أن تحل البركة والخير على تلك المجموعة الصغيرة من الناس، فى مجتمع يعانى وبين مصريين يتحملون ما لا طاقة لهم به؟
ودنوت إلى قبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، ورأيته فى ضوء آخر تماما، هذا إنسان من بنى البشر اصطفاه الله جل جلاله، ليكون رسولا ومبشرا بالإسلام العظيم، فماذا فعل؟ لم يكتف بتبليغ الرسالة إلى أولى القربى منه أو إلى قريش وإنما جعل همه كله سعادة البشر فى الجزيرة وفى الدنيا كلها، وآمن بهذا إيمانا جعله يتحمل الأذى ويتحمل النفى والهجرة ويحارب ويقاتل المشركين الضالين، رجل واحد بمفرده وبقوة من عند الله، ولكن بإيمان يجل عن الوصف استطاع أن يغير أناسا يعيشون فى عصر الوثنية والبداوة والجاهلية الأولي، يعبدون أصناما من الحجر إلى قوم صنعوا أمة من أعظم الأمم، إن لم تكن أعظم أمم الأرض، قوم استطاعوا أن يهزموا أكبر إمبراطوريتين فى عصرهما، يقابلان القوتين العظيميين فى عالم اليوم، يحطمون ديوان كسري، ويقوضون عرش امبراطور الرومان، وينشرون مبادئ الإسلام السمحة من بواتييه فى فرنسا إلى الصين فى أقصى الشرق.
وأنا أطوف بالكعبة وأرس الناس سودًا وبيضًا، صينيين وأوروبيين مشارقة ومغاربة، من نيجيريا إلى إندونيسيا، نلتف جميعا حول الكعبة ونصلى المغرب، يا له من مشهد غريب فريد فى بابه يشرح القلب، آلاف مؤلفة من الناس يحمدون الله ويركعون ويسجدون، ويسبحون ويستغفرون، كان منظرهم يخلع القلب فرحا، ويجعلك تنتقل من انتماءاتك المحدودة فى عائلتك أو فى بلدك إلى انتماء أشمل وأكبر الانتماء الأكبر، إلى المحيط الإسلامي، الواسع، وتحس بآلامك ومخاوفك، تذوب تماما فى هذا المحيط، وتبدأ نفسك كالماء المعكر بالطين حين يروق، ويروق حتى يصبح أصفى من الماء المقطر، من نقاء وحلاوة ماء زمزم.
صليت ركعتين فى الروضة الشريفة، وارتكنت إلى عامود من أعمدة الحرم النبوى الشريف، أرقب الإيمان مجسدا على الوجوه بحلاوة الإيمان حين يكسب الوجه البشرى جمالا نابعا من القلب، وموجها إلى المولى سبحانه.
وجاءتنى مصر وأنا مرتكن أمارس متعة الابتهال بلا صوت، والتأمل بلا انقطاع، جاءتنى مصر بشعبها ومشاكلها، بحاضرها ومستقبلها، ورحت أدعو للشعب المصري، بنى وطني، أن يزيد الله نعمه، إنه القادر القوى المعين، ما فائدة أن أكون قد دعوت لعائلتى ولنفسى أن يخلصنا من أزماتنا وقلقنا ونحن نحيا مع شعب واقع فى الأزمات والقلق؟! ما فائدة أن تكون سعيدا صحيحا فى مجتمع يعاني؟!
ما فائدة أن يرزقك الله بالملايين فى شعب يعيش على حافة الفاقة؟ أن المسلم الحقيقى لا يسعد إلا فى مجتمع مكتمل السعادة ترفرف فيه السكينة على الجميع.
وظللت أدعو وأدعو حتى وجدتنى أبكي، بكاء لم يحدث لى من قبل، فهو ليس بكاء حزن، وليس بكاء إشفاق على النفس والشعب، وليس بكاء مذلة وإحساس بالضيم، ولكنه بكاء المحب لحبيب البكاء الواصل بين الله سبحانه والإنسان، البكاء المستلهم من حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بكاء المتأمل فى الآيات البيانات التى أوحى له بها وغمرت الدنيا من أقصاها لأقصاها.
يا رب لا تمنحنى الصحة وشعبى مريض
ولا تمنحنى الرزق الوافر وشعبى يشكو الفاقة
ولا تمنحنى سلامة النفس وشعبى يطحنه القلق.
وأنزل اللهم السكينة على قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، يا لها من آية كريمة معجزة المعنى، ظللت دون أن أعى أرددها وكإنما بقدرة قادر وبإملاء قادر «هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم».. أنزل اللهم السكينة على قلوبنا، وآلهمنا الصواب، وأخرجنا بفضل قدرتك ورحمتك من مآزقنا، وهيئ لنا من أمرنا رشدا، أنك أنت السميع المجيب الوهاب.
يكتب عن معركته مع «إمام الدعاة»
أن تتحدث مع سباك إخوانى عن «الشعراوى»
اشتد قيظ القاهرة منذرا بعيد فطر حار ملتهب الحرارة قررت قضاء العيد فى الإسكندرية بلغت الحرارة درجة أننا طعنا المسافة فى السيارة بالطريق الصحراوى فى خمس ساعات بدلا من ساعتين ونصف أو ثلاث كانت جوانب الطريق حافلة بالسيارات المعطلة التى تبخر ماؤها أو فرقعت عجلاتها والناس فى زحف مزدحم رهيب تجاه الشواطئ لالتقاط نسمة بحر أو فيضة ريح.
كانت شقتنا فى الإسكندرية فى حالة يرثى لها بعد عام كامل لم نزرها فيه وقضينا ليلة عيد مغبرة معفرة بتراب عمره عام ولن أستطيع أن أحدثكم عن الجهود المضنية للعثور على من ينظفون الشقة أو يصلحون ما أفسده الشتاء من المواسير والحنفيات فأنا أريد الدخول فى الموضوع مباشرة والموضوع كان هو الشاب السباك الذى عثرنا عليه أخيرا لإصلاح ما تلف كان شابا هادئا ليست عليه سيماء (الاسطوات) القدامى كان (أسطي) بلديا انهمك فى العمل فورا ولاحظت أنه ما ان يبدأ حركة من حركات العم إلا ويسمى ويتبرك.
ولم أكن فى حاجة إلى ذكاء كثير لأدرك أنه اما من الجماعات الإسلامية التى تحفل بها مدينة الإسكندرية بالذات واما من الإخوان المسلمين وفيما أنا محتار فى أمره وجته فجأة يسألني:
- يا أستاذ يوسف.. ماذا كنت تقصد بكتابك فقر الفكر وفكر الفقر؟ والحقيقة أنه أخذنى على غرة فلم أكن أعتقد أنه قد عرفنى من أول وهلة وحتى لو كان - شكرا للتليفزيون - قد عرف شكلى لم أكن أعتقد أن صنايعيا مثله قد سمع عن كتابى فقد الفكر وفكر الفقر... ربما قد عرف بعض قراء الرزى العام بالضجة التى حدثت حول الكتاب حين نشر صحفى من صحفيى الجماعات الإسلامية خبرا فى جريدة الأخبار حول جملة وصف بها فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى باعتبار أنه يلجأ إلى المبالغة والتمثيل فى أدائه لدروس وعظه وأنه ينوم مستمعيه ومشاهديه بطريقة راسبوتينية.
وقامت الدنيا ولم تقعد!
وأنا لى عادة لم أستطع أن أغيرها أبدا.
فأنا لا أقدر على مراجعة (بروفات) كتبى قبل الطبع ولهذا اشترط على الناش أن يكون هو المسئول عن مراجعة الكتاب على الأصل المصحح سلفا.
وعدت إلى الكتاب فوجدت هذه العبارات مذكورة فعلا ومنسوبة إلى الشيخ متولى الشعراوى وحين عدت إلى أصول المقالة المذكورة والكتاب كان مجموعة مقالات نشرة بالزهرام كلها لم أجد فيها تلك العبارات إذن هو خطأ أو عبث مطبعى لا حيلة لى فيه والكتاب قد أصبح فى السوق وبين أيدى القراء.
ونشرت اعتذارا عن هذا الخطأ المطبعى إذ أن الكاتب مسئول عن كل كلمة فى كتابه حتى لو كان الخطأ فى إيرادها ليس خطأه.
وحاول نفر كثير من المهيجين باسم الدين النفخ فى النار وإثارة الرأى العام فى مصر وكل بلاد المسلمين ضدى وكانت مشكلة كبري.
هذه الأخطاء والفلتات المطبعية خطز كبير ما فى ذلك شك فحتى لو كان لى بعض الانتقادات الشخصية على الطريقة التى يؤدى بها الشيخ متولى الشعراوى دروسه فإن احترامى الكبير للرجل ومراعاتى لشعور مريديه كانا بالقطع يمنعانى من ذكر كلمة نقد واحدة لشخصه فالمقال فى الحقيقة وإن كان موجها إليه إلا أنه كان يرد (فكريا) على فضيلة الشيخ وكان الرد مؤدبا تماما ومشبعا بروح الاحترام والتبجيل رغم أنه كان ردا على فضيلة الشيخ لاتهامنا أنا والأستاذين الكبيرين توفيق الحكيم وزكى نجيب محمود بالكفر والاضلال والتضليل ، هكذا ببساطة شديدة ادخلنا فضيلة الشيخ جهنم الكبرى وأحل سفك دمائنا والسبب؟!! السبب كما رأى فضيلته هو أننا ندعو لأعمال الفكر للارتقاء بالأمة الإسلامية والتسليم بأن الله سبحانه وتعالى منحنا تلك العقول الباهرة لنستخدمها فى تعليم أنفسنا وتحصيل أكبر قدر من العلوم والمعارف غربية وشرقية وجنوبية وشمالية واستخدام حصيلة هذا كله فى خلق (تفكير) إسلام نشط يعيد العقل الإسلامى لمكانته ونقف به نتحدى الغزو الغربى الثقافى والتكنولوجى والعسكرى والاقتصادى والسياسى وكان كل ما ذكرته حول طريقة فضيلة الشيخ متولى الشعراوى فى إعادة شرح القرآن الكريم من وجهة نظره أنه يشرحه كعالم لغة يركز على الجمل والتقديمات والتزخيرات والإعجاز البلاغى فى القرآن الكريم وهذا فى حد ذاته شيء جميل ورائع ولكن أن يقتصر إعجاز القرآن وعظمة الإسلام على معجزة اللغة القرآنية ليس هو كل الإسلام كما أراه ونراه ويراه صاحب كل رأى وبصيرة فالإسلام رسالة سماوية شاملة هبط بها الوحى على نبينا صلى الله عليه وسلم لينشر به (دعوة) إسلامية كبرى تنقذ العرب والبشرية جمعاء من أوضاع وثنية مزرية وتحارب الكفار وتنشيء إنسانا مسلما صالحا عطوفا رصينا صادقا شجاعا نبيلا بارا بالناس داعيا إلى الحكمة مرتقيا بجيرانه وعشيرته خادما لمصالحهم راعيا لشؤونم ومضحيا فى سبيلهم ومسئولا عنهم وقبل هذا كله إنسانا مؤمنا بالله واحد أحد لا شيرك له الخلاق العظيم رحمن رحيم.
إذن كان المقال إيرادا لوجوهة نظرى ووجهة نظر كثيرين فى أن الإسلام الحنيف ليس دين طقوس وإن كانت الطقوس هى مكوناته الخارجية إنما رسالته الحقيقية رسالة روحية عظمى هدفها بعثث المسلم بعثا جديدا والانتقال بالجماعة الإسلامية من الجاهلية إلى عصور النور والإيمان والعلم والتحضر.
ولكن تربص بعض المتطرفين ممن يعتنقون التطرف فى الدعوة الإسلامية عن مرض وليس صحة أبدا بحيث بهذا التطرف بخلعون عن الإسلام كل مكوناته العظمى ويركزون جمهودهم على كيف يرتدى المسلم ثيابه وكيف أن كل شيء فى المرأة خطيئة حتى ليبشروا بأن ترتدى النقاب من قمة الرأس إلى أخمص القدم بل حتى وراء فتحات العيون ترتدى نظارة سوداء وقفازات سوداء أيضا حتى لو كانت طبيبة وكأن الإسلام جاء ليئد المرأة فى ثيابها حية بعدما كانوا يئدونها فى الجاهلية ميتة فهذا انحراف خطير فى الدعوة الإسلامية ليس انحرافا فقط بل أنى لاعتبره خيانة لديننا الحنيف فإذا لخصنا الإسلام فى تلك الشكليات ودعونا إلى نبذ العلم وأعمال العقل والعودة إلى الحياة كما كانت عند نزول القرآن فتلك دعوة لكل ينتصر علينا أعداؤنا ويسحقونا سحقا مادمنا قد نزعنا عن أنفسنا كل أسلحة العصر.. واستسلمنا للبداذية والسطحية بينما هم ماضون فى تقدمهم وانتصاراتهم بالتالى علينا عسكريا وعلميا وثقافيا وحتى تحضرا.
مع زن الغرب قد أخذ كل علومه عن عرب أسبانيا المسلمين والمسلمون هم الذين ترجموع كل التراث اللاتينى والأغريقى العالمى وعنهم أخذت أوروبا هذا التراث حتى كتاب الشعر لأفلاطون كانوا أول من ترجموه ودرسوه بل أنهم - هؤلاء المسلمين - هم أول من اخترع علم الجبر وطور على حساب المثلثات وأنشأ علوم الفلك وانطلقت قوافل بناته تغزو كل أرجاء المعمورة من الصين شرقا إلى أقصى الغرب فى شبه جزيرة ايبيريا (أسبانيا والبرتغال الآن) غربا.
وأيضا ليس هذا هو الموضع
فالموضوع أكبر بكثرى وأخطر بكثير من هذا.
فالعالم العربى والإسلامى كله أصبحت مشكلته الأهم هى هذه المشكلة.
الإسلام.
تصوروا.. مكشلتنا كمسلمين أصبحت هى إسلامنا وكيف يكون؟ وكأننا نلغى أربعة عشر قرنا من هبوط الرسالة إلى ومنا هذا ونبدأ إسلامنا من جديد.
وهكذا جاء كتابى (فقر الفكر وفكر الفقر) ردا على هذه الدعاوى الارتدادية السلفية المطالبة بإلغاء العقل والفكر والعودة إلى البداوة الزولى باعتبار أن هذا هو ما يريده الإسلام وما أراده الله سبحانه وتعالى فى تنزيل رسالته على نبينا الكريم.
أعول إلى الفتى (السباك) والنقاش الذى دار بينى وبينه ولم تكن تلك هى المرأة التى يور فيها هذا النقاش فالحقيقة أننى حتى وأنا أعتمر منذ حوالى الشهرين وأطوف بالكعبة وأزور قبر الرسول كنت ما أكاد ألتقى بأحد المصريين العاملين فى السعودية حتى بادر بسؤالي: هل صحيح أنك قلت عن الشيخ الشعراوى أنه راسبوتين؟
وهكذا تحولت القضية الأساسية إلى مشكلة فرعية لا أساس لها ولا معنى فأنا كنت أحاول فى تلك السلسلة من المقالات أن أذود عن العقل المسلم العدوان الغاشم الذى بشر به بعض المتطرفين من إلغاء لذلك العقل.
ولكن يبدو أننا فى فترة غريبة على حياة المسلمين.
وليست تلك أول مرة ينتكس فيها الإسلام والمسلمون.
هنا فى مصر أكبر تجمع سكنى إسلامى وعربى فى الشرق بدأت موجة حادة لافحة من التعصب والتطرف الإسلامى الذى يدعو لمحاربة حتى أقباط مصر ووصفهم بأنهم كفرة.
وإذا عرفنا أن هذا التيار بدأ فى عصر وبتشجيع من السادات وذلك بخدم موضوعيا الأعداء الذين وضعوا هدفهم فصل مصر عن عالمها العربى أولا ثم الاجهاز عليها من الداخل أيضا وبنفس السلاح إسلامنا الحنيف.
من هنا بدأنا نلحظ فى مصروكأنه نوع من إسلام جديد ينشأ إسلام لم نعرفه أو نعهده من قبل حملة ضارية من الدعاة تستولى على عقول الشباب وتجرهم وراءها إلى فهم أضيق أنواع الفهم للرسالة المحمدية الكبرى حتى تنشأ فى مصر الفتنة الجهنمية واما أن تتحول إلى إيران أخرى تحار جاراتها العربيات المسلمات واما أن تتحول إلى لبنان أخرى يتناحر فيها المسلمون والأقباط فى حرب أهلية ضروس.
تلك هى الخطة الموضوعة لمصر قهرها باسلام مستورد لا علاقة بينه وبين ما درج عليه المسلمون فى مصر من عبادات ومذاهب فقد اختارت مصر الإسلامية المذهب الشافعى - أكثر المذاهب اعتدالا بين المذاهب الأربعة وأكثرها وسطية - باعتباره يناسب طبيعة المسلم المصرى وحقيقته ولكن هذا الإسلام (المستورد) الجديد قائم على التعصب الكامل ضد المسيحيين من ناحية ومن ناحية أخرى ضد كل ما له علاقة بالعمل أو المنطق أو العلم أو التقدم.
واستشرى هذا النوع المتطرف استشراء النار فى الهشيم فى بلد حدث فيه فراغ فكرى وعقائدى هائل أثناء عصر السادات بتحريم كل تعليمات ودعوات الإخوان المسلمين الذين أعتقد بل وأطالب بأن يكون لهم رأيهم وتنمظيماتهم وجرائدهم العلنية فلقد عاشرتهم حرا فى الحركة الوطنية قبل الثورة وسجينا معهم فى أوائل حكم عبدالناصر عقد حادث المنشية وأشهد أنهم كانوا من أكثر من زريت فى حياتى إمانا وصدقا مع النفس ومع الدين كانوا ولايزالون فعلا اخوانا مسلمين. أما تلك التنظيمات الإرهابية التى أوجدها وشجعها السادات والآن استشرت إلى درحة أخذت تطعن فيها حتى فى صدق إسلامية الإخوان المسلمين فهى الشيء المحقون داخل المجتمع المصرى والتى لم تكتف بتجنيد الشباب وعمل غسيل مخ أو تضييق مخ لهم وإنما أصبح لهم الآن مؤسسات اقتصادية وبنوك وشركات وهدفها الاستيلاء على الحكم بالثورة وبالقوة الغاشمة إخضاع كافة المصريين لمفهوماتها ولو سرى الدم أنهارا وأنهارا.
كان (السباك) فعلا مثالا للشباب المسلم.
فلقد ناقشته لبضع ساعات من نهار ثانى أيام العيد فلاحظت حرصه الشديد فى العمل وأمانته التامة فى المحاسبة وشراء الأدوات وأدبه الجم فى التعامل مع زملائه ومعنا حبذا لو أصبح كل الشبان المصريين على شاكلته.
حتى لو حكمنى هذا الشاب فقد اطمأننت إلى الحديث والحوار مع كثير من أمثاله أن حكمهم سيكون عادلا لا تطرف فيه ولا تفكير ولا إهدار دماء ولا اذكاء حقد.
كيف اعتنق الماركسى السابق دين النبي محمد؟
لماذا سخر المسلمون من إسلام «روجيه جارودى»؟
كان أول تعرفى على «روجيه جارودي»، حين قرأت كتابه «واقعية بلا ضفاف». والحق أن الكتاب أعجبنى تماما، فقد كنت أيامها لا أزال أخوض مع نقاد الواقعية الاشتراكية معركة ساخنة حول مفهوم الواقعية، ومفهوم المضمون الاشتراكى للعمل الفني، ذلك أن هم هؤلاء النقاد كان ينحصر فى بحثهم حول «موضوع» العمل الفني، بصرف النظر إن كانت تنطبق عليه مقاييس الفن أو لا تنطبق، وحتمية أن يكون هذا الممضمون واضح المفهومات الاشتراكية أو الإنسانية، بطريقة تحيل العمل الفنى فى النهاية إلى نوع من الدعاية، بل إلى أسخف أنواع الدعاية، الدعاية الحزبية، أعجبنى كتابه رغم أنه كان فى ذلك الوقت فيلسوف الحزب الشيوعى الفرنسى وكاتبه الفكري، فأن يؤمن الحزب الشيوعى بأن الفن لا تنطبق عليه مقاييس الدعاية ولا الإعلام، وإنما هو عالم كامل موازٍ للحياة يعمل على مراكز فى النفس البشرية، لا يمكن أن تصل إليها أى مبادئ سياسية أو اجتماعية، وإنما هو ينهل من بحر الإنسانية الأعمق والأكثر فاعلية، ذلك البحر الذى منه يغترف السياسيون والفلاسفة وعلماء النفس والحياة، أن يكون هذا رأى الحزب أو مفكر الحزب الشيوعى فى الفن، مسألة غريبة وجديدة وتلفت النظر، بل الحق أنها تصفع النظر، وترينا إلى أى حد يقصر نظر النقاد الماركسيين فى عالمنا الثالث والرابع.
وكان ثانى لقاء لى بجارودى فى جريدة الأهرام فى أوائل السبعينيات حين دعاه الأستاذ محمد حسنين هيكل لزيارة مصر كضيف على جريدة الأهرام، وفى قاعة المحاضرات بمبنى الجريدة حضرت له مع نخبة ممتازة من الكتاب والمثقفين المصريين محاضرة كان عنوانها فى ذلك الوقت غريبًا على مفكر الحزب الشيوعي، حتى لو كانت الأزمات قد بدأت تترى بينه وبين الحزب، وحتى لو كان الحزب قد بدأ يفكر فى فصله باعتباره مراجعًا، ناكصًا على حدود المادية الجدلية والمادية التاريخية كان عنوان المحاضرة: الحضارة الإسلامية.
ماذا سوف يقول هذا الفيلسوف الماركسى السابق عن الإسلام وحضارته؟
والحق أن المحاضرة كانت نظرة جديدة تماما يلقيها مثقف غربى محايد عن الإسلام كحضارة، فهو يتحدث عن عمارة المساجد الإسلامية ويربطها بالمبدأ الإسلامى الخالد فى الوحدانية.... لا إله إلا الله. تجمع الخلق أجمعين فى «جامع» أو مسجد واحد، القبلة واحدة، السقف عالٍ يجمع الأصوات فى وحدة موسيقية متناغمة وهكذا.
كان يلقى محاضرته بالفرنسية والفرنسية هى لغتى الثالثة التى أهملتها كثيرًا، ولكن لروعة إلقائه ونظرته استطعت أن أستوعب المحاضرة كلها وألم تقريبا بكل ما أراد قوله.
بعد هذه المحاضرة، أو ربما قبلها بقليل لست أذكر على وجه الدقة، قام الحزب الشيوعى بفصل جارودى من مكتبه السياسى ولجنته المركزية وحتى من عضوية الحزب باعتباره مرتدًا عن الماركسية، وشنوا عليه حملة شعواء أيديولوجية وشخصية.
وإن هى إلا بضع سنين مرت، وإذا بنا نفاجأ بأن جارودى قد اعتنق الإسلام وسمى نفسه رجاء وتزوج من مسلمة وزار ليبيا والجزائر والقاهرة والجزيرة العربية.
وسخر البعض من إسلام جارودي، وشهروا به قائلين إنه قبض ثمن إسلامه من العقيد القذافى، وإنه أسلم إسلامًا بتروليًا إلى آخر ما قيل عنه.
والحق، لأنى لم تتح لى معرفة وجهة نظره، ظللت حائرًا أمام إسلامه هذا.
وحتى حين استضافة التليفزيون المصري، عهدوا بالحوار معه إلى مذيعة لا مؤهلات لها إلا إتقان اللجهة الفرنسية فى النطق، وسألته أسئلة ساذجة جدا عن إسلامه، والحق إنى لم أقتنع، ليس لأنه لم يقل ولكن لأنه لم يُسأل، إلى أن اشتريت هذا الكتاب من مكتبة فى القاهرة، وكان كشفًا عظيمًا.
الكتاب سماه مترجمه الدكتور ذوقان قرقوط ممثل الجزائر فى هيئة الأمم المتحدة: وعود الإسلام، والحق أنه رغم دقة الترجمة إلا أن الاختلاف اللغوى بين المشرق العربى والمغرب العربى جعلنى أرجع إلى النص الفرنسى لأفهم حتى العنوان، رغم أنى أقدم خالص شكرى وعميق امتنانى للدكتور قرقوط، فلولاه ما ظفرت بهذه الثروة الفكرية.
ويبدأ جارودى كتابه عن الإسلام بشن هجوم على الحضارة الغربية «المسيحية» وما آلت إليه فيقول: إن الغرب حادث عارض ثقافته ممسوخة وقد بترت من أبعادها الجوهرية، فمنذ قرون ادعت هذه الثقافة بأنها تنحدر فقط من إرث مزدوج من الحضارتين اليونانية والرومانية، ومن اليهودية والمسيحية، وهكذا لا يذكر الغرب كجذور لحضارته إلا مرتكزا على «المعجزة الإفريقية» وبهذا يبتر هذه الحضارة عمدا عن جذورها الشرقية، عن تراث آسيا الصغرى «تركيا اليوم»، عن الاتصال بالفرس حيث استلهمهم طالس دى ميليت ومن جاء بعده إلى كزينوفون دى كولونون ومن فيثاغورس إلى هيراقليطس ومن خلال أعمالهم تهب نسائم زرادشت وفيما وراءها من ثقافة هندية قديمة، ناهيك عن تراث مصر القديمة وآلاف السنين قبل اليونان من تاريخها الحضارى الطويل وعلومها ورؤاها التى فتنت فيثاغورس وأفلاطون.
إن الحضارات تتخاطب وتتفاعل، ولا يمكن أن تفصل بعضها عن البعض الآخر. فهى فى الحقيقة متواليات حضارية، ففى الوقت الذى غربت فيه الثقافة فى روما بزغت فى الإسكندرية، وفى الإسكندرية التقت جميع تيارات الفكر فى الشرق، وولدت علوم إقليدس فى الرياضيات وعلم بطليموس فى الفلك، مثلها مثل الإشراقات الصوفية العظيمة عن فيلون وأفلوطين وأوريجين وكليمانت الإسكندرى. ولكن الغرب ترك هذا كله ولم يذكر سوى اليونان القديمة مصدرًا لحضارته. عن جهل هذا أم عن عمد؟. كذلك ذكر اليهود فقط دون الإسلام أكذوبة تغذت من نفس الجهل المتعمد ونفس الإلغاء ذاته من قلب الهلال الخصيب الذى يمتد من بلاد بين النهرين «العراق» الذى جاء فيه «سيدنا» إبراهيم إلى مصر التى أعاد منها موسى شعبه. كيف يمكن أن تتخيل أن الثقافة اليهودية كاليونانية لا تحمل من الحضارة البابلية والفرعونية فى أرفع درجات سموها ذلك الذي نسخ منه اليهود حضارتهم. ذلك النسخ الذى تفجرت منه ملحمة جلجامش وتنبئية زرادشت وتوحيدية إخناتون الذى نجد تسبيحه للإله الواحد الشمس «بالنص فى مزامير داوود ال 104».
وحتى المسيحية نفسها لم تأت من أوروبا، القارة الوحيدة التى لم يولد فيها نبى ولم ينشأ فيها أى دين عظيم وإنما من آسيا، والتى تطورت فى أنطاكيا «تركيا الآن» فى آسيا وفى الإسكندرية، أى فى إفريقيا أفلا تدين الحضارة المسيحية لهذا كله بدين لا تستطيع أبدا نكرانه. فالقديس بولس هو الذي أنشأ الكنيسة الكاثوليكية فى روما بكل ما حمله معه من الشرق إلى روما وهل من العظمة فى شيء أن يكون المرء ابنًا لأب مجهول؟.
والمسيحية نفسها وبالذات فى حبوها إلى الشمولية فى الكاثوليكية ألا يجب أن تعترف أن جذور هذه الشمولية الكونية فى حقيقتها مستمدة معظمها من الشرق وأن أثر الشرق عليها لا يقل عن أثر الحضارتين اليونانية والرومانية. إن من أوضح الأمثلة على هذا الراهب الكالابري يواكيم دى فلور الذى تمكن فى سوريا من معرفة «فلسفة الإشراق» عند السهروردي ومع المعلم إيكهارت الذى تعود أعماله إلى الوحى الإسلامى لدى ابن سينا ومع القديس فرانسوا الأسوزى الذى استوحى الخليفة عبدالملك بن مروان فى دمياط، ومع القديس حنا دى لاكروا الذى تظهر تجربته الصوفية شديدة الشبه أحيانا بتجارب صوفية المسلمين، ولكن الشمولية المسيحية لم تفعل هذا وبضيق أفقها الشديد خاضت حربا من أكثر الحروب العسكرية إراقة للدماء طيلة قرنين من الزمان فى الحروب الصليبية التى ذهبت عبثا فى فلسطين أو طيلة سبعة قرون لإعالة فتح إسبانيا، حيث استقبل العرب فى القرن الثانى عشر كمحررين وحيث جعلوا من قرطبة أعظم مركز إشعاع للثقافة فى أوروبا.
لقد رفض الغرب منذ ثلاثة عشر قرنا هذا الجذر المهم الثالث لحضارته المعاصرة، الجذر العربي الإسلامى الذى كان يمكنه ولا يزال فى وسعه ليس فقط أن يصالحه مع حضارات وحكمة للشعوب الأخرى، ولكن أيضا يساعد على الوعى بالأبعاد الكونية والإلهية التى بتر عنها بتطويره من جانب واحد لإرادة القوة فيه ضد الطبيعة وضد البشر الآخرين.
ذلك أن الإسلام كما يقول جارودى لم يكمل ويخصب وينتشر فحسب من بحر الصين إلى الأطنطى، ومن سمرقند فى الشمال إلى تومبكتو فى إفريقيا فى أقصى الجنوب لم يكمل فقط، ولم يخصب أقدم الثقافات، ثقافة الصين والهند وثقافة الفرس واليونان والإسكندرية وبيزنطة وإنما نفخ من روحه المتوقدة فى إمبراطوريات مفككة وحضارات مشرفة على الموت، روح حياة جماعية جديدة، وأعاد إلى البشر وإلى مجتمعاتهم أبعادها الإنسانية والإلهية بنوع خاص من التسامى والتوحيد، كما أعاد انطلاقا من ذلك الإيمان البسيط والقوى لإحياء العلوم والفنون، خلق الحكمة الإشراقية التنبئية وسن القوانين، ليس صدفة أبدا أن ملامح اليقظة الغربية الأولى كانت فى إسبانيا الإسلامية قبل أربعة قرون من يقظته فى إيطاليا فيما سمى بعد هذا بعصر النهضة. وقد كان ممكنا أن تكون هذه اليقظة عالمية، فيطرح الغرب هذا الجذر المهم الثالث لحضارته جانبا، ذلك الجذر الذى كان ممكنا أن يوحد الشرق والغرب «وبانفصاله وتقوقعه داخل ما يسمى بالحضارة المسيحية واليهودية - اليونانية الرومانية» حرم نفسه من حضرية الثقافات الأخرى كلها وعلى رأسها الثقافة الإسلامية، بينما وجهه نحو نموذج انتحارى من النمو والحضارة، أى اسم يطلق اليوم على هذا الشكل من هيمنة الرب العالمية الذى أنفق فى عام 1980، 450 مليار دولار فى التسلح وتسبب فى موت 50 مليونًا من الكائنات البشرية فى العالم الثالث، نتيحة لنزف الموارد وتصدير الفائض بالسعر الكاوى. تلك المقايضات الظالمة المتعسفة غير المتساوية، إن الغرب فى منظور آلاف السنين كان وسيكون أكبر مجرم فى التاريخ، إنه اليوم بسبب سيطرته الاقتصادية والسياسية والعسكرية يعنى النظر إلى الأشياء كما لو كانت مستقلة عما هو أصلها التى لا يشاركه فيها أحد، يفرض على العالم بأكمله نموذجه من النمو الذى يقود إلى انتحار سكان كوكبنا جميعا، لأنه يولد فى آن واحد تفاوتات متزايدة وينزع من نفوس الفقراء وأكثر الناس حاجة كل تفاؤل بأمل فى المستقبل، ويعمل على إنضاج التمرد اليائس فى الوقت الذى يرصد فيه ما يعادل خمسة أطنان من المتفجرات لكل رأس بشرى يقطن كوكب خمسة أطنان من المتفجرات لكل رأس بشرى يقطن كوكب الأرض. إن النظام الثقافى العالمى الجديد هو الانتقال من الهيمنة الغربية إلى التشاور على مستوى الكرة الأرضية لإعادة تحديد مواصفات مشروع إنسانى شامل، فإن الحوار بين الحضارات قد أصبح ضرورة ملحة، فلقد بلغ السيل الزبى، وتجاوز إلى درجات الفيضان. إذ لم تعد معركة عصرنا الحيوية هى المعركة الدائرة بين «الرأسمالية» التى تولد النزعات الاستعمارية والحروب والأزمات و«الاشتراكية» ذات النموذج السوفيتى التى أصبحت بتبنيها نفس أهداف النمو التى يباشرها الغرب الرأسمالى كالرأسمالية، ظالمة لشعبها ذاته مستغلة وأحيانا مستعمرة كما فى أفغانستان للعالم الثالث وشريكة فى السباق نفسه إلى الهيمنة وامتلاك أسلحة الرعب. إنما معركة عصرنا المركزية والحيوية هى معركة الصراع الرهيب بين الطريقة الانتحارية للتقدم والنمو على المنوال الغربى أو على وجه الدقة الطريقة التى تفصل بين الوسائل والغايات بين العلم والحكمة من استعمال العلم والهدف من استعمال العلم. هذه الطريقة التى تؤجج فى الإنسان فرديته وتبعثره من جماعته وأبعاده الإنسانية الأخرى إن الإسلام لم يعد ذلك «الكافر» فى زمن الصليبيين أو الإرهابى فى حرب التحرير الجزائرية أو «المقاومة الفلسطينية»، ولم يعد ذلك الأثر فى المتحف الذى يتفحصه المستشرق بين العالم الاختصاصى فى الحضارات القديمة انطلاقا من الحكم المسبق بامتياز الغرب وتميزه. إنما الإسلام هو تلك الرؤية لله، وللعالم وللإنسان، تلك الرؤية التى تستنبط العلوم والفنون وتستنبط من كل مجتمع مشروع بناء عالم إلهى وإنسانى لا انفصال فيه بين البعدين الأعظمين: الفردية والجماعية، التسامى والأمة، لقد أنقذ الإسلام من قبل إمبراطوريتين عظيمتين متهاويتين، أفلا يستطيع اليوم أن ينقذ عالمنا من تفتته، أفلا يستطيع أن يجيب على الأسئلة التى تلقيها حضارة غربية تكشفت خلال أربعة قرون عن أنها قادرة على أن تحفر قبرا للبشرية كلها؟ إن اختيار النبى صلى الله عليه وسلم وانتصاره فى شبه الجزيرة العربية وتقدم خلفائه الخاطف وسيطرتهم فى أقل من ربع قرن على كامل العالم المعروف حينذاك باستثناء جزء من أوروبا الخاملة، ومن حين صاعدة نحو ذروة تقدمها. هذا الانتصار والتقدم لا يمكن أن يفهم بدون الاعتراف بمكانة أولى للرسالة الإسلامية ذاتها ونوعيتها، يمكننا أن نحاول إيجاد تفسيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية لهذا الانتصار، ولكن هذا الانتصار الهائل سيظل مستغلقًا على الأفهام بدون الإسلام كعقيدة وكجماعة قائمة على هذه العقيدة، والنبى «صلى الله عليه وسلم» لم يدع أنه جاء بدين جديد وإنما يواصل ويجدد، ويتم تلك العقيدة الأصلية التى كان يبشر بها سيدنا إبراهيم، وكان فى وقته يمثل تعبيرها الأمثل. ويستطرد جارودى فى تحليله قائلًا: إن المجتمع العربى قبل الإسلام كان قائما على نوعين من المجتمعات: مجتمع البادية ذلك الذى تسكنه قبائل يدين الفرد فيها بالولاء للقبيلة، بينما مجتمع الواحة التى أصبحت مدينة بزراعتها وحرفييها وتجارتها وملكيتها الخاصة ومراثيها الاجتماعية، أخذت تحدث فيه صراعات داخل المدينة نفسها والبدو من أهل الرعى والإبل كانوا فى حاجة إلى فلاحين مزارعين مقيمين، وكان البدوى الراعى يملك بفضل مطاياه السريعة تفوقا عسكريا علي المزارعين والحرفيين والتجار المرتبطين بالأرض. وهكذا كان يؤمن القوافل التجارية مقابل إتاوة محددة وكانت المسيحية حين دخلتها السفسطة الإغريقية واستحالت إلى أحاجٍ وألغاز لا يفهمها الإنسان العادى، لا تستطيع أن تنفذ إلى هذا المجتمع الخليط، وخاصة مثلث مكة والمدينة والطائف والواقع فى ملتقي التيارات التجارية، بين أوروبا والهند والصين وبين بلاد ما بين النهرين والحبشة ومصر، كان مثلثًا يموج بأشكال عديدة من الشرك وأنواع عديدة من العبادات ومن شبه الجزيرة هذا فى مطلع القرن السابع كان القلق الروحى عظيمًا، والجو كان مهيئًا متهلفًا لضرورة تحول جذرى يحدث حين ظهر الرسول العظيم، إذن كان المحتوى الدينى فى زخرفته المتعددة مشكلًا من وثنيات متعددة الآلهة مفصولة عن معناها الإنسانى، ولم تكن الرسالة المحمدية فى فحواها المباشر إلا عبادة أن لا إله إلا الله، إلهًا واحد سبحانه وأن ينبذ المعتقدات الباطلة الطفيلية والطقوس التى لا حياة فيها ولم يكن ذلك استبعادا لجميع أشكال الشرك بتعدد الآلهة وعبادة الأوثان وإنما إخضاع أيضا لكل سلطة وكل ملكية وكل معرفة لمفهوم التبعية أن الله أكبر من أعظم الملوك وإليه وحده يدان بالإجلال المطلق. هذا مبدأ لا يجوز التصرف فيه، ولا بد أن نصمد فى وجه كل طغيان وبمعارضة كل سلطة تزعم لنفسها حقًا إلهيًا، والمساواة التامة بين الناس بحيث يكون «أكرمكم عند الله أتقاكم» هى القاعدة الوحيدة والواحدة، فالله وحيد وهو حقيقة واحدة وهذه هى الشهادة المبدأ والقاعدة لإعلان الإيمان والمسلمة الثانية فيه، وهى أن محمدًا رسول الله تشير إلى حركة العودة، ذلك أن محمدًا هو القدوة نفسها لكل حقيقة ينظر إليها كوحى وإشارة من الله. فالقرآن هو الله فى بلاغة الناس، متوجهًا إليهم بالكلام الذى يوحيه إلى الرسول من أجل ربطهم بمصيرهم. وهكذا لا توجد ألوهية أخرى غير الله، ولكن ليست هناك حقيقة أخرى أيضا خارج هذا الإطار «سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق» «سورة فصلت 53». إن كل شيء فى الكون آية كل شيء هو تجلٍ من الله، إن كلمة آية أو بمعنى آخر «أمارة» فكل شيء حينئذ آية من الله تدل على وجود الله، وكل شيء يكون مقدسًا بعلاقته بالله. فالفكر يعنى النظر إلى الأشياء كما لو كانت مستقلة عما هو أصلها وغايتها ومعناها، الله سبحانه.
يوسف إدريس يواصل البحث فى عقل المفكر الكبير
الله الذى عرفه «جارودى»
تركت كتاب جارودى جانبا. ورحت أتأمل رحلة الإنسان الباحث عن الحق والحقيقة. لقد كلفتنى هذه الرحلة عمرى وأنا لا أزال دائب البحث. ولقد تجسد لى جارودى على هيئة ذلك الجزء المتبقى حيا من الضمير الأوروبى المعاصر الذى كتب عليه فى بداية حياته وحتى قبل أن يصبح عضوا بارزا فى الحزب الشيوعى وفيلسوفه الأعلى أن يصطدم بالحقيقة الإسلامية الكبرى حين عمل أستاذًا فى الجزائر المستعمرة إذ ذاك استعمارا فرنسيا كاثوليكيا غاشما. استعمارا يهدف إلى نزع كل ما يخص الإنسان الجزائرى من أصالة ولغة ودين ومقومات وجود. وإلباسه لباسا فرنسيا مهلهلا فلا هو أصبح به فرنسيا ولا أهو أبقى على حقيقته العربية الإسلامية.
يقول الدكتور ذوقان قرقوط مترجم كتاب «وعود الإسلام» عادت بى الذاكرة وأنا أقرأ كتابه الجديد «كتاب جارودي» إلى أيام يفاعتنا بثانويات الجزائر فى إحدى مدن وهران كان ذلك عام 1948 عندما قدم إلينا رجل جاء ليهدم سورًا، ذلك السور الذى كان يفصلنا بوحشية عن ثقافتنا القومية التى حرمنا منها الاستعمار والتى لم يكن فى وسع أية ثقافة أجنبية مهما كانت فنية وفاتنة أن تجعل منا غير رهائن ضائعة بالنسبة لأبناء وطننا وبالنسبة للآخرين وإذ كنا محرومين من ثقافتنا ومن لغتنا القومية ومن حضارتنا الخاصة فقد استقبلنا هذا الرجل بشكران ورع - الذى كان يجعلنا نرفع الحجاب - الذى يخفى ثقافتنا والتى أصبحت هى نفسها غريبة فى بلدها فى زمن كان القيام بالتصدى للاستعمار فيه يعرض للأخطار. عمل هذا الرجل المقدام على أن نعود للارتباط بأنفسنا ليساعدنا على التغلب على عملية نزع ثقافتنا ويشرع منذ ذلك الحين فى فتح حوار بين الحضارات لم يأت ليعرف بواسطتنا من نحن وماذا يستبسل الاستعمار فى العمل على أن ينسينا إياه وإنما أتى ليساعدنا على إتقانه أو على إعادة اكتشافه هذه المرة يتوجه روجيه جارودى بكتابه «وعود الإسلام» إلى جمهور غير مسلم يريد أن ينزع الضمادات عن عيونه ويخلصه من أحكامه المسبقة.
فى كتابه هذا الأخير إذن يتوجه جارودى إلى الأوروبيين مسيحيين كانوا أو يهودا أو ملحدين ويحدثهم عن الإسلام حديث إنسان بدأ رحلته مع الإسلام كما نرى فى الجزائر عقب الحرب العالمية الثانية وفى عام النكسة الإسلامية والعربية الكبرى عام 1948 عام قيام إسرائيل وبداية اغتيال فلسطين هل هى مصادفة أم أن ذلك الضمير الأوروبى أو على الأقل بقاياه النقية الباحثة عن الحق والحقيقة. قد ظل وقد هزت معتقداته وآراءه الثابتة حرب العالمية ضروس من صنع ذلك الغرب نفسه وداخل معسكره أهلكت الملايين ولم تحل للبشرية مشكلة واحدة قد راح يبحث لأزمته الطاحنة عن مخرج وإزاء طبيعته العدوانية الشرسة يبحث عن ميادين أخرى تحفل بالإنسانية والوحدانية وحدانية الكون والله الممتدة إلى الإنسان فكان جارودى خير باحث وخير رائد لهذا الاتجاه فقد بدأ جارودى حياته كاثوليكيا راح يقلب هذا الجناح من المسيحية باحثا فيه عن حل شامل للبشرية وحين أعياه البحث «كفر» بكاثوليكيته تلك وتحول إلى الماركسية والمادة الجدلية والتاريخية عله يجد فيها الحل.
ولكن لننظر إلى هذا التعلق المبكر بالحضارة الإسلامية والذى كان يذكر الدكتور قرقوط يرجع إلى العام 1948 حين كان جارودى مدرس ثانوى بالجزائر لقد ظل جارودى بعدها قائدا وفيلسوفا للحزب الشيوعى إلى ما بعد هذا بكثير وكان لابد لتناقض كهذا أن يصير إلى معركة خاضها جارودى وحيدا باحثا عن الحقيقة أمام حزب كبير تحمل موقفه منه واتهاماته له والإدانات الكثيرة التى طعنه بها والنيل منه.
ولكنه كان قد وصل إلى قمة المنتهى ومن يصل إلى قمة المنتهى لا يهمه اعتراضات البشر. كان جارودى قد آمن بأن الإسلام هو الدين الوحيد بل هو الفلسفة الوحيدة التى بشرت بالوحدة الإلهية «التوحيد» الذى يعطى لكل حياة ولكل شيء معنى بالنسبة لعلاقته بالكل ليس توحيدا جامدا توحيد الإيمان بإله واحد مجرد، جاعلا من الله فكرة وربما أقل من ذلك أيضا، مجرد حلول أو وحدة للوجود تخلو من الله سبحانه. التوحيد هو فعل. فعل من الله دائم الخلق. فعل من الرسول «صلى الله عليه وسلم» الذى بكلامه الموحى به من الله يكون ليس وحدة أو جملة. ولكن فعل توحيد. فعل تجميع فعل لكل إنسان يعى أنه ليس هناك إله حقيقى سوى الله، وأنه فى كل لحظة يربط كل شىء وكل حادث بمبدئه.
ولا يمكن لنا أن نفهم انتشار الإسلام من غير أن نلفت النظر «هكذا يقول جارودي» إلى وجهين أساسيين تجليا منذ ظهور النبى «صلى الله عليه وسلم» فأولا التوحيد هو عمل يدل على ذلك الافتراض السخيف القائل بأن الإسلام يقود إلى «الجبرية» بالناس إنه يقدم الأساس الصلب لمسئولية الإنسان وحريته فاسم «الإسلام» نفسه يعنى التسليم أو الامتثال للإرادة الإلهية وعليه فإن كل شيء فى تصوره للتوحيد للكل يكون مسلمًا فمثلا الشجرة فى أزهارها، الحيوان فى نموه، الحجر فى جماديته، هى كلها فى أشكالها المختلفة مسلمة للإرادة الإلهية وبالإرادة الإلهية فليس فى إمكانها الإفلات من القانون الذى يحكمها.
ان الإنسان وحده هو الذى يستطيع أن ينسى بإرادته طبيعته الحقيقية «قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسي» (سورة طه 126) فهو يصبح مسلما إذن بالاختيار وذلك بتذكره الشريعة الأولى شريعة التوحيد والمجموع التى تعطى لحياته معنى وهو مسئول مسئولية تامة لأنه يملك إمكانية الرفض.
من جهة أخرى «هكذا يمضى جارودى قائلا» سيكون غريبا جدا اعتبار عقيدة قادت المسلمين إلى تجديد أربع حضارات كبرى والإشعاع على نصف العالم فى فترة لا تتجاوز الثلاثة أرباع قرن مجرد عقيدة قدرية منقادة هذه الحيوية فى الفكر والعمل هى تماما عكس القدرية لقد اقتاد ملايين الناس إلى التأكد من أنهم من الممكن أن يعيشوا على نحو آخر.
الملاحظة الثانية تنصب على وجه الدقة على هذه الطريقة الجديدة للحياة: فإذا كان الإسلام قد تمكن من الانتشار بمثل تلك القدرة وبهذه السرعة فى الجزيرة العربية أولا من المحيط الأطلنطى إلى بحر الصين شرقا فذلك لأنه كان يحدد معنى الحياة لدى شعوب ضلت الطريق وتفككت مجتمعاتها وثقافتها وعقيدتها كان المبدأ الرئيسى لتلك التجديدات هو استعادة عقيدة أصلية وهى عقيدة إبراهيم، العقيدة التى كانت تترجم إلى أفعال تخضع إلى أمور نسبية تراقب البشر وثرواتهم وتبذل جهدها فى تحقيق المشروع الإلهي.
كان القرآن الكريم يعترف بصدق أنبياء التوراة على أنهم رسل لله نفسه: شرائع موسى وإنجيل يسوع كانت كلام الله لنرى الآن كيف رأى جارودى العقيدة الإسلامية فى مبادئها الأساسية الخمسة.
الإسلام الفلسفة الوحيدة التى بشرت بالوحدة الإلهية:
فأولا: الجهر بالعقيدة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إذ الكون بأكمله بهذه الطريقة يتخذ معنى إذ يتجلى المطلق فى النسبى على شكل «إشارات» ورموز. إن الطبيعة والبشر تماما ككلام القرآن هم ظهور. هم تجلى الله، «تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا» (سورة الإسراء 144).
ثانيا: الصلاة وهى المشاركة الواعية من الإنسان لهذا التسبيح الكونى الذى يربط المخلوق بخالقه «عد الى ذاتك تجد الوجود كله مختصرا فيك».
إن الصلاة تريح المؤمن بهذه العبادة الشاملة فبالقيام بها وقد ولى الجميع وجوههم شطر مكة يروح المسلمون جميعهم ويولون وجوههم إلى المحراب إلى الكعبة بدوائر متحدة المركز بهذا الانجذاب الواسع للقلوب التى تهفوا نحو مركزها، والوضوء يرمز إلى عودة الإنسان إلى الطهارة الأصلية مستبعدا منه بهذا الاغتسال كل ما يمكن أن يشوب بأى كدر صورة الله، وبهذا يصبح مرآته الصادقة.
ثالثا: الصوم، وهو إيقاف طوعى للإيقاع الحياتى اليومى، تأكيد حرية الإنسان بالنسبة لل«أنا» ولرغباتها، وفى نفس الوقت هو التذكير بوجود من هو جائع فينا كما لو كان تذكيرا بذات أخرى يجب المساهمة فى انتزاعها من البؤس والجوع والموت.
رابعا: الزكاة ليست إحسانا أو تسولا وإنما هى نوع من العدالة الداخلية أخذت شكل المؤسسة وهى ملزمة بطريقة تجعل من المؤمنين ذوى إرادة فعالة بمعنى أنهم يستطيعون أن يتغلبوا على الأنانية وعلى البخل داخل أنفسهم والزكاة هى التذكير الدائم بأن كل غنى لله شأنه شأن كل شيء آخر، وأن الفرد لا يمكنه أن يتصرف فيه على هواه إذ أن كل إنسان هو عضو فى جماعة.
خامسا: الحج لبيت الله «مكة» بيت الله الحرام الذى لا يجسد عالمية الأمة الإسلامية فحسب وإنما هو يحيى فى داخل كل حاج الرحلة الداخلية نحو مركز ذاته.
فالمسألة المحورية فى الإسلام فى جميع مظاهره هى هذه الحركة المزدوجة من الإنسان نحو الله وعودة الله إلى الإنسان انبساطا وانقباضا فى قلب المسلم «قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون» (سورة البقرة الآية 156).
على هذه الأسس الإسلامية التوحيدية الكبرى أسس النبى (عليه الصلاة والسلام) نموذجًا لم تعرفه البشرية من قبل فهو ليس جماعة قبلية متحدة فقط بروابط الدم لدى البدو والرحل أو مقيدة بالأرض لدى الحضريين كذلك ليست «أمة» بالمعنى الفرعى للعبادة مرتكزة على وحدة أرض ووحدة وطن وسوق ولغة تاريخ بمعنى أنها ليست معطيات جغرافية أو عرقية أو تاريخية ولكن مجتمع مبنى على تجربة مشتركة من تعاليم الله.
وقد ارتكز مجتمع المدينة سياسيا على ركزيتين أساسيتين: الركيزة الأولى أن السلطة لله وحده وأنه هو الذى يجعل كل سيادة اجتماعية مجرد سيادة نسبية الركيزة، الثانية هى ركيزة الشورى تلك التى تستبعد أية وساطة بين الله والناس، وهكذا يزول فى وقت واحد أى استبداد مطلق يضفى القداسة على السلطة ويجعل من الحاكم أو الزعيم إلها على الأرض، وفى نفس الوقت يلغى الديمقراطية بالشكل الغربى أعنى (هكذا يقول جارودي) الديمقراطية بالشكل الفردى أو الكمى أو الإحصائى ذلك أن الحرية ليست نفيا ولا عزلة لكنها إنجاز للإرادة الإلهية.
وهنا نستطيع أن نتوقف قليلا لنناقش جارودى فى هذه النقطة على وجه التحديد فالديمقراطية على النسق الغربى ليست فردية كما ينص جارودى ربما هو كرجل غربى النشأة قد شبع من هذه الديمقراطية وتلك الحرية ولكننا هنا نستطيع أن نقول لجارودى إنه لا تعارض مطلقا بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية فى شكلها الغربى فلكى تضع مجتمعا (شوريا أو استشاريا) لابد - فى المجتمعات المكونة من ملايين الأفراد - أن تختار نخبة تستشيرها، والشعوب والمجتمعات هى التى تختار، ولهذا فالانتخاب هنا وحقه وضرورته هو الطريقة الوحيدة (لاختيار) أى مجلس نيابى أو شورى مع احترامنا الكامل لرأى جارودى الذى شبع من خلال مجتمعه الغربى اختيارات وانتخابات وحريات بينما ظل الحكم الإسلامى فيما عدا مجتمع المدينة وحكم الخلفاء الراشدين يعج بالاستبداد وحكم الفرد.
أما فيما يتعلق بالملكية فيقول جارودى إنه إذا كانت كل ملكية هى ملك لله وإن كل انسان لا ينال منها بعمله إلا حق الانتفاع فإن التصور القرآنى والنبوى للملكية هو عكس التصور الغربى تماما (أو التصور البورجوازي)، ففى الحق الإسلامى ليست الملكية خاصة من صفات الفرد ولا من صفات الجماعة وإنما هى وظيفة اجتماعية مرصودة لتلبية مقتضيات الإرادة الإلهية فى «الأمر بالمعروف».
ذلك ان المجتمع الإسلامى هدفه الأول هو التسامى بأفراده وجماعاته، والتسامى والجماعة المتسامية المسلمة هى الإسهام الذى يستطيع الإسلام اليوم أن يقدمه لخلق مستقبل له وجه إنسانى فى عالم جعل استبعاد السمو منه وتدمير الجماعية بالفردية وسيطرة نموذج جنونى من النمو بحيث خلق من الوضع الراهن حقيقة لا يمكن أن تعاش أو يستمر الإنسان يحياها. كان جان جاك روسو (فى العقد الاجتماعي) يستند إلى تصور مجرد للفرد ولم يكن يستطيع فى النهاية تخيل الاندماج الجماعى والاجتماعى إلا من خلال أسطورة «الأفراد العامة» التى ظهرت أشكالها التاريخية الملموسة على هيئة برلمانات وأحزاب وكان الأمر على هذا النحو بالنسبة للملكية: فلقد قاده تعريفها الفردى الرومانى البورجوازى إلى نظرية «صالح عام» مزعومة قائلة بإنه إذا اجتهد كل فرد فى مصلحته الشخصية فإن الصالح العام سوف يتحقق.
وكان لابد من انقضاء قرنين من الاضطرابات الاجتماعية التى ولدت «الليبرالية الاقتصادية أى الرأسمالية» التى لم تتفق أبدًا مع (الصالح العام) وكذلك الليبرالية السياسية التى لم تتفق أبدًا مع الإرادة العامة فإن التجارب الموصوفة ب«الاشتراكية» (هكذا يقول جارودي) التى أحلت محل الليبرالية أسطورة حزب اشتراكى أو شيوعى عالم بكل شيء ومرسل من العناية الإلهية باسم طبقة عاملة يقال إنها رسوله المستقبل وهى طبقة لم تستشر أبدا فى كيفية حكمها ولا فى مستقبلها وهكذا فلا يمكن أن تتمثل من الحزب أية إرادة عامة أو صالح عام.
يقول الرجل فى كتابه وعد أو وعود الإسلام:
إننا لا نسعى مطلق إلى اعتبار جميع منجزات المجتمع الإسلامى التاريخية مثالية بل نعتقد أن الرغبة فى استنباط تشريعات صالحة لجميع الأزمنة وجميع الشعوب من نص منزل هو ضد ما نزل به القرآن بقوله: «ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون» (سورة يونس الآية 47) وبصورة أكثر دقة أيضا: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم...» (سورة إبراهيم الآية 4) .
واليوم حيث لم يتجمد الإسلام عن ماضيه وإنما عرف كيف يحل مشكلات عصرنا بروح مجتمع المدينة متذكرًا أن البقاء على الإخلاص للتراث وللسلف وللأجداد لا يكون بنقل الرماد من موقدهم، وفقا لتعبير جوريس، بل بنقل الشعلة، فالنهر حين يتجه إلى البحر إنما يفعل هذا وفاء لمنبعه البحر، إذ استطاع المجتمع الإسلامى أن يفعل هذا فيكون قد استطاع أن يشق لنفسه ليس فقط من أجل المسلمين وإنما بصورة شاملة للمجتمع الإنسانى كله آفاقا اشتراكية لا تشملها أبدا العلمانية الوضعية ولا الفردية الغربية وإنما تخصها القيم الأساسية التى سبق لها أن بعثت فى مجتمع المدينة شعلة الأمل: التسامى والمجتمع.
هذا استعراض عام لرأى جارودى فى إسلامنا الحنيف ذلك الرأى الذى انتهى به بأن يسلم ويسمى نفسه رجاء جارودى قد نختلف معه وقد نتفق ولكننا فى النهاية لا نملك إلا احترام رجل احترم عقله وفكر به واحترم حضارته فثار على عيوبها ومثالبها وسما بمسيحيته عن أن تكون تعددية أو وثنية فى ثوب جديد، وبمثل ما جاء الإسلام يصدق ما جاء فى التوراة والإنجيل فقد كان الرجل طبيعيا جدا فى تطوره من المسيحية التى آمن بها إلى الإسلام الذى انتهى إليه.
أما ما فعله الإسلام بالمسلمين عامة وبالعرب خاصة فإنه شيء حقا يجل عن الوصف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.