الديكتاتورية ومعسكرات الاعتقال الجماعي وال الكي جي بي ( المخابرات السوفيتية السابقة) ثلاث كلمات مقترنة في أذهاننا جميعا بالحكم الشيوعي في الاتحاد السوفيتي السابق. وحتي الآن إذا جاء ذكر روسيا ربما تتجسد لنا إحدي هذه الكلمات أو الثلاث معا وبالرغم من تفكك الاتحادالسوفيتي فإن ذكريات الحكم الشيوعي الأليمة مازالت عالقة في ذاكرة الشعب والعالم خاصة حقبة جوزيف ستالين( من عام1924 إلي عام1953) التي تباري المؤرخون في وصف الإرهاب والقمع والمذابح التي جرت في عهده. وحقبة ستالين يخجل منها الشعب الروسي وتمثل كابوسا للأجيال السابقة فمعظم العائلات الروسية لديها عزيز عاني في معسكرات الاعتقال الجماعي أو اعتقل في عملية تطهير الحزب الشيوعي أو تجمد حتي الموت في صقيع أرخبيل الجولاج ويقدر بعض المؤرخين ضحايا عهد ستالين بنحو20 مليون شخص. كما تمثل هذه الحقبة كابوسا للجيل الحالي لأنها تشوه وجه روسيا الحديثة, وحتي لايستمر هذا الكابوس مع الأجيال المقبلة قرر فلاديمير بوتين رئيس الوزراء الروسي انه حان وقت التصالح مع الماضي والنظر إلي نصف الكوب المملوء والتركيز علي الايجابيات, وبالتأكيد عهد ستالين كان به العديد من الانجازات المهمة, فلماذا تخجل روسيا من ماضي الاتحاد السوفيتي السابق؟ وبالفعل يمكن ان نطلق علي عام2009 عام تجميل ماضي روسيا القبيح واعتبار بوتين رئيس فريق الجراحين المهرة الذين تفننوا في إعادة تشكيل ملامح تاريخ الاتحاد السوفيتي السابق وتقديم ستالين في صورة جديدة جذابة بعد اكثر من نصف قرن كان خلالها مجرد ذكر اسمه كفيلا ببث الرعب في القلوب. وكان بوتين قد بدأ منذ عامين في التخطيط لهذه العملية, وكلف خبراء التعليم بتأليف كتب تاريخ وطنية لأن البلاد في حاجة إلي مناهج تاريخ أكثر إيجابية, ومن هنا أطلق بوتين نظرية التاريخ الإيجابي أي تنقية التاريخ من الاحداث السلبية وأصدر تشريعا يسمح للحكومة بالتدخل مباشرة لتعديل المناهج الدراسية. وفي بداية العام الدراسي الحالي أقر الكرملين كتابا جديدا مكونا من500 صفحة كمنهج للتاريخ يدرس بعدة مراحل تعليمية.. وبالطبع واجه المؤلفون مشكلة أساسية وهي: كيف يتم تحويل سنوات حكم ستالين السوداء إلي فترة إنجازات وطنية؟ الحل: تقديم ستالين بوصفه زعيم وشخصية مثيرة للجدل فمن ناحية, يمكن النظر إليه علي أنه أنجح زعيما للاتحاد السوفيتي, فخلال فترة حكمه تحققت العديد من الانجازات مثل: توسع حدود الإمبراطورية الروسية السابقة والانتصار في الحرب الوطنية الكبري وهو الاسم الذي كان يطلق علي الحرب العالمية الثانية في روسيا كما تحققت في عهده نهضة صناعية واقتصادية وثقافية. ومن ناحية أخري يمكن وصفه بالديكتاتور بسبب القمع وسقوط عدد كبير من الضحايا, ولكن كما تقول النسخة المعدلة من التاريخ الروسي إن ماحدث خلال فترة حكم ستالين كان شيئا ضروريا لبناء الدولة الحديثة. ولو تناولنا منهج التاريخ الإيجابي كما يريده بوتين بالتحليل وكيف خرج من مأزق المآسي التي حدثت في عهد ستالين وأولها, المجاعة الكبري عام1933 وتقدر ضحاياها بين أربعة ملايين وعشرة ملايين شخص ووقعت بسبب سياسات ستالين الخاصة بالملكية الجماعية التي أراد تطبيقها علي الأراضي الزراعية وتداعياتها, منهج التاريخ الإيجابي تعامل مع هذه الواقعة بتخصيص83 صفحة للنهضة الصناعية في عهد ستالين وفقرة واحدة عن المجاعة, كإحدي التضحيات الضرورية للنهضة الصناعية. أما الواقعة الثانية, فكانت دور ستالين في الحرب العالمية الثانية, تجاهل منهج التاريخ الإيجابي العلاقات التجارية التي كانت بين هتلر وستالين من عام1939 وحتي عام1941 أرسل خلالها ستالين لهتلر ملايين الأطنان من الوقود والحبوب الغذائية, ولأن الاعتراف بأن ستالين كانت له علاقات تجارية مع النازي لن تفيد الأجيال المقبلة بأي شكل اقتصر المنهج الجديد علي دور ستالين البطولي في محاربة قوات النازي وأن العالم كله اعتبر ستالين بطلا قوميا. ولم يكتف بوتين في محاولته لإعادة تجميل ماضي روسيا بإقرار منهج دراسي محرف ولكنه استغل كل مناسبة عامة للترويج لنظريته وآخرها في التليفزيون الوطني, حيث ظهر في برنامج واسع الشعبية وقال إن ستالين ارتكب الكثير من الأخطاء, وإن الملايين فقدوا حياتهم بسبب سياساته القمعية ولكن لايمكن إنكار أنه بني الاتحاد السوفيتي الحديث وحوله إلي قوة عظمي في عقود قليلة. ومافعله بوتين آثار جدلا بين المؤرخين والمحللين, فهل يمكن اعتبار بوتين شخصا شجاعا لأنه تصدي لموضوع حساس كهذا؟ أم نعتبره شخصا زيف التاريخ وارتكب خطأ لا يغتفر في حق الأجيال المقبلة؟ وحجج المؤيدين هي: كل الزعماء الكبار لديهم أخطاؤهم, ألم يرسل ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الشهير اكثر من80 ألف جندي لحتفهم في جزيرة جاليبولي عام1918 خلال الحرب العالمية الأولي بسبب سوء تقدير منه؟ ألم يأمر الرئيس هاري ترومان بإلقاء القنبلة الذرية علي جزيرة هيروشيما عام1945 لإنهاء الحرب العالمية الثانية ولقي200 ألف من المدنيين مصرعهم ولاتزال اجيال تعاني من آثارها؟ ألا تخجل فرنسا وبريطانيا من ماضيهما الاستعماري؟ والولايات المتحدة من ممارسة العبودية وإبادة السكان الأوائل؟ والقائمة طويلة لاتنتهي وستملأ مجلدات عديدة لو أردنا حصر أخطاء الزعماء وحكومات الدول الكبري. ويرد المعارضون بأن ذلك لايبرر تحريف التاريخ فمهمة التاريخ هي رواية الحقيقة بحياد ودور المناهج تعليم الاجيال كيف تفكر بشكل منطقي وتحلل الأحداث بمنهجية وليس صناعة أبطال وهميين, بالإضافة إلي أن عددا كبيرا من الدول لم تلجأ لتجميل تاريخها بل اعترفت بأخطائها واعتذرت عن بعضها. ومن المرجح أن نظرية التاريخ الايجابي الخاصة ببوتين ستلقي الكثير من التأييد والاعجاب خاصة في الدول الديكتاتورية التي تريد تبرير القمع والإرهاب كما يريد بوتين أن يقتنع الروس بأن حياتهم كانت أفضل مع زعيم قوي منفرد بالسلطة لتبرير بعض سياساته هو والرئيس ميدفيديف لكن علي الأقل بوتين كانت لديه شجاعة الاعتراف بعملية التجميل بينما غيره يمارسون هذه السياسة منذ زمن حتي طمست الحقيقة تماما.*