إن جسد مصر الحبيبة الذى لم يتعاف بعد من جراحتين خطيرتين لا يتحمل الدفع به الى غرفة عمليات وإعادة فتحه من جديد. بعد ثورتين عظيمتين وإزاحة نظامين فاسدين يصبح من غير الحكمة الدفع بالناس الى الشارع للتظاهر مرة أخرى حتى لو كانت هناك مبررات مقنعة للخروج ، فثمة درجات للاختلاف تستوجب عدم حرق المراحل والقفز إلى آخرها وهو إقحام الشعوب كحكم فى الغضب. الزج بالشعب الآن فى اى خلافات سياسية هو هدم حقيقى لفكرة المأسسة التى تحمى مفهوم الدولة وفى نفس الوقت هو إعادة المسار السياسى فى مصر بعد 25 يناير الى المربع « أ». جزء ولو قليل مما تحقق بعد ثورتين هو تأصيل دور المؤسسات والانتقال بالثورة من الميادين والشوارع إلى أروقة المؤسسات صحيح هناك تعثرات كثيرة وارتباك فى كل شيء وتحفظات على الأداء المترهل لكن كل هذه الانتقادات يجب ان نناقشها فى إطار المؤسسة وفقط . ليس المقصد من المطالبة بعدم إقحام الشارع والشعب فى أى خلافات سياسية هو أن نحرم الشعب من حقه فى التظاهر أو الرفض أو الاعتراض أو انتقاصا من دور الشارع أو تهميشا له إطلاقا وإنما هو اعتراف حقيقى بهيبته وعظمته ليبقى هو الحكم الأخير إن فشلت المؤسسات فى انجاز دورها .وليس الهدف أيضا التطبيل للنظام أو التزمير للحكومة. لا يعنينى من الدعوات الى التظاهر التى لم تنقطع منذ سنوات عديدة اذا ماكانت مناكفة او مكيدة بين خصوم سياسيين. وقد يصل تحفظى وانتقادى لكلا الطرفين: أصحاب هذه الدعوات الغامضين الذين لا يسعون الى اى مصلحة للشعب قدر ما يسعون الى الركوب على جراح الشعوب لتحقيق أهداف لا تخدم مصلحة الشعوب نفسها فأصحاب هذه الدعوات يستغلون أزمات الشعوب والضائقة الاقتصادية وفقر الناس لإحداث مزيد من الفوضي. كما ان هناك انتقادا اخر يخص الدولة نفسها فى التعامل مع هذه الدعوات انها لا تتعامل بمنطق العقل بقدر ما تتعامل بنفس منطق الداعين اليها وهو تأكيد الفرز والانقسام الذى يصل الى التخوين والعمالة . كان يمكن للدولة ان تتعامل مع هذه الدعوات الداعية الى التظاهرات بتجرد بمعنى ان رفضها ليس مصادرة لحق الشعوب فى الاحتجاج وانما التوقيت غير ملائم ، وغموض الاهداف يخيف، والحالة الاقليمية والدولية مربكة . لا يمكن النظر الى الحالة المصرية بمعزل عما يدور فى الاقليم من تفكيك تحالفات واعادة تركيبها ، من اعادة تدوير الصراعات لتصل الى الصدام داخل التحالفات المتصالحة لدرجة تصل الى ان اصدقاء الامس باتوا اعداء اليوم او على اقل تقدير باتوا ليسوا كما كانوا اصدقاء. هنا علينا ان ندرس الحالة المصرية وهى واقفة فى العراء وحيدة دون سندها الخليجى الذى لم يغب عن دعمها فى جميع المراحل السابقة خصوصا بعد ثورة 30 يونيو ، الان الاشقاء الخليجيون انشغلوا بمشكلاتهم الخاصة وفيهم ما يكفيهم من التعامل مع المكائد التى تدبر لهم بدءا من التغول الايرانى الذى وصل الى اليمن وصولا الى تغيرات المواقف الامريكية قبل اغلاق حقبة اوباما وفتح حقبة جديدة لا نعلم من سيراها «هيلارى كلينتون العجوز ام ترامب المتهور». علينا ايضا ان ندرس الحالة المصرية وهى فى بؤرة العداء المتعدد ، فهناك كثيرون يتربصون بمصر وليس بنظامها فقط والفارق بين الحالتين كبير بل مخيف. التربص والعداء لمصر بغض النظر عمن يحكمها مرفوض بل يستوجب المواجهة والتصدى من قبل الجميع، لأن هؤلاء المتربصين يلعبون فى مربع بقائنا، مربع وجود أقدم حضارة فى التاريخ، القلب النابض للضمير الانسانى . هنا يجب الا يغيب علينا اطلاقا أن هؤلاء الاعداء باتت لديهم خبرة كبيرة فى الدخول على خط التظاهرات وتحويلها الى ساحة دماء، باتت لديهم خبرة كبيرة فى نقل التظاهرات من السلمية الى منطقة التطاحن الذى لا ندرى مصدره . بعد خمسة أعوام من الثورات العربية والاحتجاجات وانتفاضات الشعوب اصبح لكثير من اجهزة المخابرات الدولية والمنظمات السوداء خبرة دراسة كل حالة على حدة بل ووضع السيناريوهات التى تفسد حراك الشعوب . لم تعد ظاهرة الاحتجاجات فى الشوارع بريئة كما انطلقت فى يناير 2011 ، ولم تعد تحركها فطرية الشعوب وبراءتُها ، او تلقائية الانطلاق وانما اصبحت واقعة فى مرمى كثير من القناصين المتربصين بإرباكها وبالتالى نخاف ان اقحمنا الشارع والشعب يتحول الأمر من ممارسة حق الى فناء وجود لذا ليعرف الجميع ان واجب المحافظة على بقاء الدولة كمؤسسات مقدم على ممارسة الحق فى الاحتجاج. علينا ان نقتنع ان جزءا من ممارسة الحق هو الكيفية التى نمارسها بها، واهم معايير الكيفية هو اختيار التوقيت السليم واختيار التوقيت السليم لابد ان يتأتى من حساب المصالح والاضرار بدقة ولن نستطيع حساب ذلك دون قياس معدل ارتفاع العداء ، ومعدل انفضاض المساعدين والداعمين . اذا كنا نرى ان ابرز المكاسب التى تحققت بعد ثورتين هى الاستقرار الأمنى فإن مربع الاستقرار هذا يستوجب الحفاظ عليه اولا ويفرض نوعا من ادارة الاختلاف تستوجب بقاءه فى اروقة المؤسسات فقط. كما اننا نطالب بعقلنة حراك الشعوب فالواجب ايضا يفرض عقلنة ردود افعال السلطة وهى فتح نوافذ للاختلاف معها وعدم اجبار الناس على عزف لحن واحد لانه بات مملا وممجوجا وسيدفع بالجميع الى أن يعزف كل شخص لحنه الخاص وفى النهاية سنكون امام لحن نشاز لا يطرب ولا يفيد . لمزيد من مقالات محمود الورواري;