الانتفاضة الشكلية التى قامت بها وزارة التربية والتعليم، جاءت لتأكيد أنها قامت باتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع هذه الكارثة، بينما أى مراقب منصف للمشهد التعليمي، وأى متابع حصيف للمشهد السياسى توقع أن تكون العاصفة أشد وطأة العام الحالي، فى ظل الترهل الذى يسير فيه النظام التعليمي، والتربص الذى يحيط بالحكومة. التسريب ظاهرة قديمة، تكررت على مدى العقود الماضية، بصور متنوعة، وقبل أن تخترع التكنولوجيا الحديثة، التى سهلت كثيرا من هذه العملية، وضاعفت من انتشارها، خاصة فى المرحلة الثانوية، التى لا تزال تعتبر عنق الزجاجة، لأن المجموع الكلى يتحكم فى مستقبل الطالب أو الطالبة، بصرف النظر عن القدرات والمهارات الحقيقية. كثيرون تحدثوا عن طرق التسريب المبتكرة، بدءا من «شاومنج» الذى قيل إنه يعسكر فى تركيا، وحتى مافيا الامتحانات التى أنشأت صفحات متعددة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن المسألة تتجاوز الدخول فى هذه النوعية من المزايدات والمهاترات التى أصبح البعض يتلذذ بالعزف على أوتارها، ويتعمد نسج الخرافات حولها، وكأننا أمام لهو خفي، لا تستطيع الأجهزة الأمنية بإمكاناتها الجبارة التصدى لها، تكنولوجيا أو بشريا. القضية أكبر من الغش فى الامتحانات، وتمس عصب أهم المجالات حيوية وهو التعليم، وتتعلق بهيبة الدولة وسمعة النظام الحاكم، فإذا كانت العملية التعليمية أصابها العوار بهذه الطريقة، كيف ننتظر مستقبلا واعدا ؟ وإذا كانت الحكومة فشلت فى توفير الأمن اللازم للامتحانات، هل يمكن تصديقها عندما تتحدث عن نجاحات كبيرة لدحر الإرهاب فى سيناء؟ المقصود من التضخيم فى تسريب الامتحانات ودخول بعض قوى المعارضة على خطها، هز الثقة فى العلاقة بين مؤسسات الدولة والشعب، طبعا لا أقلل من حدوث التسريبات أو خطورتها، لكن لابد من التوقف عند المعانى السياسية التى تحملها، خاصة أنها ليست جديدة، غير أن التركيز عليها والاهتمام بها منحاها وزنا كبيرا عند الرأى العام، داخل مصر وخارجها، ونقلت صورة تعزز انطباعات سابقة، بأن الفساد لم يترك شيئا إلا وأصابه فى مقتل، وأن الحكومة تقف عاجزة عن مقاومته، وهو ما يمكن أن يدفع قطاعا من الشباب للتظاهر ونزول الشارع. الكتلة الحرجة الكبيرة من الشباب الذى يؤدى امتحانات الثانوية العامة فتحت أعينها على ثورتى 25 يناير و30 يونيو، ومعهما ظهرت نواة لوعى سياسى احتجاجي، قد يكون من السهولة توظيفه فى عملية التسريبات، ودفعهم للتظاهر، وهو اتجاه يتماشى مع أحداث جرى تسخينها عنوة ولى أعناق الحقائق المتعلقة بها، للوصول للهدف ذاته، فقد أصبح كل تطور أو فعل سياسى عرضة لأن يكون مطية لتأليب المواطنين على الحكومة، وتحريضهم على الاحتجاج ومحاولة الانتقام من النظام الذى تعمل فى كنفه. المشكلة أن التسريبات فى جميع حالاتها تخل بأحد معايير العدالة والمساواة والشفافية والتحضر، وتؤدى إلى تفوق من لا يستحقون، وفى هذه الحالة تكون الخسارة مزدوجة، حيث يتم تزويد المجتمع بنماذج وفئات مشوهة تعوق تقدم المجتمع مستقبلا، وتقتل فى الوقت نفسه فكرة الاجتهاد والطموح عند آخرين، وفى الحالتين تتحمل الدولة تكاليف باهظة، أبرزها توسيع رقعة الفساد، وزيادة نسبة الإحباط، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات، أملا فى تخريب الطرق التى يتم تعبيدها لتوفير بيئة مناسبة للإصلاح. الإشارة إلى التوظيف السياسى لتسريب الامتحانات لا تعنى تبريرها والقبول بها، والتعامل معها كأمر واقع، بل تؤكد أن القضية كبيرة وتستوجب المزيد من الاهتمام والبحث عن أدوات لبترها تماما، لأنها تكاد تكون متكررة فى مجالات مختلفة، وأساليب متباينة، وربما يمثل التعليم أحد أهم ظواهرها الفاضحة، لأن التخريب الذى أصابه يتجاوز حدود الخلل الحاصل فى الامتحانات، ويصل إلى درجة الهدم فى جميع مراحل العملية التعليمية، من الابتدائى وحتى النظام المعمول به للترقيات فى الجامعات. المؤكد أن وزارة التربية والتعليم سوف تتجاوز «الشوشرة» الراهنة بطريقة المسكنات، سواء بإعادة امتحانات بعض المواد التى تعرضت للاختراق، أو تقديم عدد من المسئولين «كبش فداء» لتبرئة ساحتها وتعود إلى جدول أعمالها التقليدي، وينسى الناس الضجة التى أثيرت، كما جرى العام الماضى وما قبله، ويبقى عالقا فى أذهان كثيرين أن الحكومة الحالية عجزت عن تأمين الامتحانات، وهو ما يؤثر على مصداقيتها فى التعامل مع قضايا أخرى تمس حياة الناس مباشرة. لذلك من الضرورى أن يتم اتخاذ إجراءات حاسمة لإصلاح المنظومة التعليمية برمتها، حيث مضى وقت طويل تم فيه الحديث عن إصلاحات هيكلية، وسمعنا ضجيجا وصخبا عن استيراد نماذج جاهزة من دول عدة، للاقتداء بها فى إحداث طفرة تعليمية، ولم نر حتى الآن طحينا أو كرامات تؤكد أن العجلة بدأت فعلا الدوران، وأن هناك نظاما تعليميا واعدا يصلح ما أفسده السابقون، بسبب الجهل والتخبط والارتباك وعدم وضوح السياسات، ويتم التعامل مع التعليم بحسبانه قضية إستراتيجية تتعلق بصميم الأمن القومى للبلاد، لا تقل خطورة عن مكافحة الإرهاب وتشييد المشروعات الكبري. أولي، وربما أهم، الخطوات أن تكون هناك رؤية متكاملة نابعة من الداخل، تنفذها جهات على درجة عالية من الكفاءة والنزاهة والإدراك بعظم المسئولية، تسير بالتوازى مع الطموحات والأمنيات التى ظهرت تجلياتها فى مشروعات قومية أخري، فلا يعقل أن يتأخر تدشين خطة تطوير التعليم أكثر من ذلك، لأن إصلاح هذا المجال مؤشر حقيقى على إصلاحات كثيرة، والعكس صحيح، فلن تقوم لمصر قائمة، مهما تزايد عدد المشروعات، وتناثرت فى ربوعها، دون أن تملك نظاما تعليميا متطورا، وتنتهى ظاهرة العقم التى تعيش فى كنفها منذ عقود طويلة. لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل