عندما وقع زلزال 11 سبتمبر، كان متصورا أن الإرهاب بلغ ذروته، وأن مسيرة دحره قد بدأت مع إعلان الولاياتالمتحدة الحرب ضده، واحتلال بلدين مسلمين بذريعة مواجهته. ولم يكن هذا التصور صحيحا، حيث هبت على أوروبا موجة إرهاب عاتية تفوق فى مدى انتشارها حدث سبتمبر الأمريكي، وإن لم تعادل، لحسن الحظ، الحجم المأساوى لضحاياه. ففضلا عن هجمات بروكسل الأخيرة، والتى راح ضحيتها خمسة وثلاثون قتيلا، مرشحون للزيادة، وأكثر من مائتى جريح، شهد العام الماضى (2015م) هجومين كبيرين على باريس وحدها: أولهما حادثة الاعتداء الشهيرة على مجلة شارل إبيدو، والتى راح ضحيتها 18 شخصا مطلع شهر يناير. وثانيهما سلسلة هجمات نوفمبر الانتحارية التى أودت بحياة مائة وعشرين شخصا، مع مئات الجرحى من جنسيات مختلفة. تكشف قدرة الإرهاب هذه على التوغل والانتشار فى أوروبا عن توازن سياسى غرائبى نشأ تلقائيا بين طرفى معادلة القوة الضعف، فثمة قوة الشمال وتقدمه التكنولوجى والعلمي، وثمة فى المقابل ضعف الجنوب وجنونه وأزماته كالفقر والهجرة واللجوء السياسى ناهيك عن الإرهاب، وجميعها عوامل إرهاق للشمال الذى لم يعد قادرا على إدارة الظهر لها، لأن مخاطرها جميعا سوف تصل إليه حتما. كان ذلك الفهم يتردد أحيانا ولكن على سبيل الرفاهة الفكرية، وعلى ألسنة ذوى النزعة الإنسانية المفرطة، أو نشطاء البيئة، ولكنه منذ العام صار يتردد أيضا فى المحافل السياسية، والكهوف الأمنية، التى اكتشفت واقعيته المؤلمة، ولكن يبدو أن الولاياتالمتحدة وبريطانيا وحدهما لا تزالان تراوغان إزاءه؛ ذلك أن الإمبراطورية الأمريكية لم تبد، حتى الآن، جدية واضحة فى محاربة التنظيم الداعشي، رغم التحالف الذى شكلته ونصبت نفسها قائدة له فى مواجهته منذ العامين، ورغم حربها المعلنة، نظريا، على الإرهاب منذ أحداث 11 سبتمبر قبل أكثر من أربعة عشر عاما. بل أكثر من ذلك تبدو أمارات عديدة على توجه أمريكى لإدارة تنظيم داعش بمعني، وليس اقتلاعه، ألمح إليها قبل أيام قليلة من هجمات باريس الأخيرة، المرشح الرئاسى للحزب الجمهورى دونالد ترامب، عندما تساءل ببراءة كاشفة تتناسب وشخصيته العفوية: إذا كان كل ما يملكه داعش من سلاح ومن عربات مدرعة هو أمريكى الصنع، فكيف وصلت هذه الأشياء إليهم، وكيف ندعى أننا نحاربهم؟. وهكذا وقعت هجمات بروكسلوباريس فى سياق عالم يبدو وكأن الإرهاب قد لفه بأذرعه، قبل أن يطحنه بضروسه، لأن الحرب ضده لم تسر بعد فى الطريق الصحيح، ما يمكن تفسيره بثلاثة عوامل أساسية: أولها العلاقة الآثمة التى نمت بين الإرهاب والتكنولوجيا، لتجعل من التحديث المتسارع، طريقا إلى العنف لا الحرية، كما تقول نظريات التحديث التقليدية، وهو تطور صادم يتجذر فى ذلك الانفصال المرير بين منتجات التحديث وقيم الحداثة فى مجتمعاتنا العربية التى بدأت سيرورة تحديثها من الهوامش التكنولوجية، من دون إنجاز أولى للمتون المعرفية والفلسفية التى أسست لها، أو صلة تذكر مع فضيلة الحرية السياسية التى أحاطت بها. والنتيجة النهائية أن مجتمعاتنا الزراعية غالبا، والرعوية أحيانا، والصناعية نادرا، ومثلها دولنا، حاضنة الاستبداد والطائفية والقبلية، صارت حاملة للكثير من فيروسات المجتمع ما بعد الصناعي، فى مسار تاريخى يبدو معكوسا، وتطور حضارى يبدو مقلوبا. وهنا لم يعد غريبا أن تجد سلفيا متشددا، يحمل لاب توب، موصولا بالشبكة العنكبوتية، مع تليفون محمول بالغ التقدم، تنتج عن العلاقة المعقدة بينهما أكثر تطبيقات الاتصالية فعالية وخطورة، بينما يرتدى الرجل جلبابا قصيرا وبنطالا طويلا مع ذقن متمددة على الصدر، سرعان ما تنقلك إلى زمن بعيد مضي، أو إلى جغرافية قصية لعلها جبال تورا بورا فى أفغانستان، وذلك من دون أن يشعر الرجل بأى تناقض. فإذا ما استحال إرهابيا، تعين علينا أن نتصور ما الذى يمكن أن تستخدم فيه تلك التقنية الهائلة من محاولات تجنيد الأعضاء، وتوجيههم إلى القيام بمهامهم الدامية عبر أى بقعة جغرافية. وثانيها غياب الاتساق الأخلاقى عن تلك الحرب، حيث تتبدى من جديد إشكالية المعايير المزدوجة لدى الغرب الذى اعتنق الحرية كمبدأ أسمي، أعطاه صبغة مقدسة، ولكن باعتباره حقا لمواطنيه فقط، وليس للبشر جميعا. كما مارس العلمانية كلازمة أساسية للفصل العقلانى بين المجال العام السياسى وبين التدين الخاص الشخصي، وهو فصل ضرورى لأى مجتمع يبتغى الحكم الرشيد. ولكنه، فى المقابل، لا يمانع فى الاستخدام السياسى للدين، على سبيل التجريب، طالما كان ذلك فى مجتمعاتنا نحن، على نحو ما تبدى فى انحياز الولاياتالمتحدة، إلى التصورات الإخوانية فى مصر، غير مكترث بما مارسته الجماعة من عنف، ولا بما نشأ بينها وبين جماعات السلفية الجهادية من تشابكات أنتجت إرهابا صريحا ضد الجيش المصرى فى سيناء، وذلك تحت تأثير أهداف سياسية قصيرة النظر، مصبوغة بالرؤية الصهيونية للمشرق العربى الإسلامي، أخذت تعمى العقل الأمريكى عن مثل الحداثة السياسية. أما ثالثها فهو النفاق السياسى الواضح فى التعامل الانتقائى مع وقائع الإرهاب بين الشمال والجنوب. فالعالم الذى أبرز تعاطفا جما، نراه مستحقا بالطبع، مع بلجيكا اليوم أو مع فرنسا بالأمس على نحو ما تجسد فى حجم ونوعية المشاركة فى تظاهرة الجمهورية (11يناير)، لم يبرز التضامن المأمول والفعال نفسه مع دولة لبنان الشقيقة التى فقدت فى لحظة متزامنة مع إرهاب نوفمبر فى باريس (44) من الضحايا، أى ما يزيد بأكثر من الضعف على ضحايا شارل إبيدو (18)، أو مع مصر فى حادث الطائرة الروسية، بفرض ثبوت العمل التخريبى لها. صحيح أن الإرهابيين هم بنو جلدتنا، ولكن ذلك لا يعنى عدم تضامن العالم معنا، حيث أبدت دول غربية قدرا من التحريض بلغ حد المزايدة حتى على الدولة الروسية نفسها، إلى درجة دفعتها إلى الإمعان فى إجراءاتها التعسفية ضد شركة الطيران الوطنية وضد السياحة المصرية، فهل يعنى ذلك أن الدول نفسها سوف تقاطع بلجيكا التى أصاب الإرهاب كبد عاصمتها ومطارها؟ وهل يليق هذا السلوك بعالم يدعى مواجهة الإرهاب، إزاء بلد يواجه داعش منذ ثلاثة أعوام تقريبا فى حرب مفتوحة تكاد ترمز للمواجهة بين الحداثة والجهالة؟ وإلى متى تبقى الولاياتالمتحدة ثغرة كبرى فى الحرب التى تقودها هى بنفسها؟. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم