انتهت أخيرا مرحلة المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية, وبدأت مرحلة الدعاية الانتخابية الرسمية. ومع ذلك لم تنته بعد مرحلة المرشحين ذوي البرامج المبهمة. صحيح أن الكثير من الناخبين لا يهتمون حتي الآن بالبرامج الانتخابية. ولكن من يعنيهم هذه البرامج ليسوا قلة ضئيلة إلي الحد الذي يدفع إلي الاستهانة بهم. والمفترض, أيضا, أن يدرك المرشحون للانتخابات الرئاسية دورهم في المساهمة في التحول الديمقراطي المنشود الذي يتطلب انتقالا من الممارسة السياسية العشوائية إلي عمل منهجي يقوم علي تقاليد مرعية. ومع ذلك, لم يقدم بعض المرشحين برنامجا من أصله, بينما أعلن بعضهم برامج عامة بدون خطط محددة تنطوي علي تفاصيل لا غني عنها لناخب ليس منتميا إلي أي اتجاه ويريد اختيار المرشح الذي يقتنع ببرنامجه. ولا يتيسر الاختيار علي هذا النحو إلا في وجود برامج واضحة ومرتبطة بخطط محددة. وفي غياب مثل هذه البرامج, يبدو كلام المرشحين متقاربا بل متشابها في بعض الأحيان. فهم يقولون الكلام نفسه عن التنمية والتقدم والنهضة بصيغات مختلفة. ولكن العبرة ليست بالأهداف والغايات بل بالوسائل والأدوات التي تكشفها برامج انتخابية تتيح تحديد أين يقف كل مرشح علي وجه التحديد, خصوصا علي صعيد النظام الاقتصادي والاجتماعي. ويفرط بعضهم في وعود تدغدغ مشاعر البسطاء, ولكنها لا تدخل عقول حتي البلهاء. فعندما يعد أكثر من مرشح برفع نصيب التعليم والصحة من الإنفاق العام إلي معدلات تصل إلي 25 في المائة, فإما أنهم لم يطلعوا علي بنود الأجور والدعم وخدمة الدين التي تستنزف موازنة الدولة, أو يقولوا كلاما للاستهلاك الانتخابي. ولذلك لا يجد من يحاول تصنيفهم إلا معيارين هما مرشحون ثوريون وآخرون تقليديون, أو مرشحون ذوو مرجعية إسلامية أو ليبرالية ويسارية أو بلا مرجعيات محددة. غير أن ما يستفاد من برامج معظمهم هو أنهم ينتمون إلي فصيل واحد يمكن أن يجمعه عنوان عريض هو عدم إدراك أن مصر في بداية مرحلة جديدة. ولكن الحديث عن برامج المرشحين يثير سؤالا مهما هو: كيف لمرشح أن يضع برنامجا قبل تحديد نظام الحكم في الدستور الجديد, أي قبل معرفة صلاحياته علي وجه التحديد؟ غير أن عدم تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية القادم لا يكفي لتفسير غياب البرامج أو حضورها. فهم يعرفون, بحكم وجود بعضهم في قلب الساحة السياسية وقرب البعض الآخر منها, أن هناك ميلا سائدا لدي معظم الأطراف في هذه الساحة صوب النظام المختلط, وليس الرئاسي أو البرلماني. وبالرغم من أن صلاحيات الرئيس في النظام المختلط تتفاوت في التطبيق, وأنها ليست هي نفسها في فرنسا ورومانيا وبلغاريا والبرتغال وغيرها, فثمة معالم أساسية لهذا النظام. ومن أهم هذه المعالم أن رئيس الجمهورية ليس هو الرأس الوحيد للسلطة التنفيذية, وأن رئيس الحكومة الذي ترشحه الأغلبية البرلمانية يشاركه في ذلك. ويستطيع المرشحون للرئاسة وضع برامجهم علي هذا الأساس دون انتظار الدستور الجديد الذي قد يتأخر العمل فيه بسبب استمرار المزايدات والمهاترات التي صارت إحدي أبرز سمات الحياة السياسية في بلادنا. فقد لا يكون ثمة أمل في الإسراع بوضع الدستور إلا التفاهم علي إعادة دستور 1971 وإجراء تعديلات في بابه الخامس الخاص بنظام الحكم إلي أن نصبح قادرين علي إجراء حوار بناء حول دستور جديد. والمهم في كل الأحوال هو ألا تظل الحملات الانتخابية مبهمة, وألا تبقي البرامج الإعلامية بديلا من البرامج الانتخابية. فالبرامج الإعلامية في المحطات التليفزيونية الفضائية والأرضية تقدم صورة المرشح التي يصنعها فريقه ومستشاروه, بخلاف البرامج الانتخابية التي تقدم رؤية هذا المرشح وأولوياته ومواقفه السياسية وانحيازاته الاجتماعية. وهذه الانحيازات هي أكثر ما يحاول المرشحون أن يهربوا منه لأنهم لا يريدون أن يخسروا أيا من فئات المجتمع. فليس هناك من يملك شجاعة تقديم برنامج تفصيلي يتضمن رؤيته للإصلاح المالي مثلا, وما يتضمنه بشأن النظام الضريبي وموقع الفئات الاجتماعية المختلفة فيه, وأيها ينبغي أن يتحمل أعباء أكبر, وكيف يمكن استخدام الأدوات المالية بما فيها الضرائب كأداة من أدوات العدالة الاجتماعية, وزيادة الاستثمارات في آن معا. وليس هناك من يطرح كيفية توفير التمويل اللازم لتحقيق ما يعد به, ومن أين سيأتي مثلا بالموارد الكبيرة الضرورية لتوفير تأمين صحي حقيقي يتيح للفقراء فرصا فعلية وليست شكلية للعلاج ويجعل المستشفيات العامة طريقا إلي الشفاء من الأمراض وليس إلي الموت بسببها. وبالرغم من أن المرشحين جميعهم يتحدثون عن قدراتهم الفذة في مجال مكافحة الفقر, فيندر أن يصدر عن بعضهم ما يفيد كيفية البدء في هذه المهمة العظيمة, وليس الانتهاء منها, أو حتي ما يدل علي إدراكهم المدي الذي بلغه هذا الفقر أو علي أن لديهم رؤية محددة لكيفية تحديده ناهيك عن طريقة مواجهته. ولهذا السبب لا تفيد وسائل الإعلام في كشف انحيازات المرشحين إلا عندما تجري مناظرات بينهم, بشرط أن تكون هذه المناظرات احترافية كما يحدث في كثير من الدول الديمقراطية. ومع ذلك, نتمني ألا يمضي وقت طويل قبل أن تصبح الانتخابات الرئاسية عندنا علي المستوي الذي شهدته فرنسا في انتخاباتها التي تابعناها في الأسابيع الماضية. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد