أعمال الجرافيتي يتم مسحها بكفاءة نادرة، وتحظر الدولة إذاعة أغاني تمتدح ثورة 25 يناير،وتقدم روائيا شابا للمحاكمة، وتوقف مهرجان الفن ميدان، ويقرر رئيس وزراء منع عرض فيلم، ويمنع الأزهر عرض فيلم آخر. مسلسلات لا يسمح ببثها، ولوحات فنية تستبعد ، وتمنع روايةالنبي لجبران خليل جبران من الدخول الي مصر،ثم تبدأ هجمات علي دور نشر ومسارح ومواقع ثقافية أخري، هذا يحدث الآن في مصرنا الحبيبة التي صدعوا رؤوسنا بالحديث عن ريادتها الثقافية وقوتها الناعمة، ويبدو أننا يجب أن نحمد الله، فحتي الآن لم يواجه شاعرعندنا عقوبة الإعدام.الدوافع المعلنة والتي مللنا سماعها هي كما هي دائما: حماية الأخلاق والقيم، الدفاع عن سمعة مصر، ضمان أمن واستقرار البلاد ،صون المقدسات، منع الأساءة الي الرموز،ثغرات اجرائية ،مخالفات قانونية. ولكن لم يثر الفن كل هذه المخاوف، ومن الذي يخاف الفن؟ هذا الأمر بداية لايخصنا وحدنا، وتاريخنا الانساني سجل طويل من المنع والمصادرة، فقد حرق هتلر الذي كان يطمح لأن يصبح رسام لوحات لأعظم فناني القرن العشرين ، وفي أمريكا المنتصرة بعد الحرب لاحقت المكارثية كبارالكتاب والفنانين بدعوي الحفاظ علي الأمن القومي وتطهير الوطن من العملاء.وبعيدا عن هذا الأداء الديناصوري،وحججه الواهية ، واستحالة تنفيذه، وردة فعله العكسية دائما.أعتقد أن هناك توجسا حقيقيا وعميقا من الفن بغض النظرعن موضوعه،وهذا ما أنحاز للكتابة عنه كفنان. يبدو الفن الحقيقي في الوهلة الأولي،وكأنه حضور ممتع وحميم ومسالم في قلب الحياة اليومية، ولكنه يثير في المقابل قلقا لايتم الإعلان عنه بسهولة، وهذا لأنه يقع في منطقة متميزة ومفارقة للمعتاد، فهو منتج نوعي قوي المفعول، ورغم ذلك يصعب تعريفه او تحديد وظيفته، وهو رسالة تستفز قدراتنا وحساسيتنا وحدود فهمنا، والمبدع بدوره حضور استثنائي لا يكف عن التساؤل والبحث كنحلة مخلصة، ويبدو أن هذا الملمح الاستثنائي يقلق الجميع، فأي سلطة بغض النظرعن طبيعتها: مجتمعية كانت أوحاكمة، تسعي في جوهرها بالضرورة، لأن تستقر،ولأن تحتل مكانة استثنائية، ولذا تسعي لإمتلاك الحق الكامل في فرض الأمر كما قال ابن خلدون، وهذا ينطبق بلا جدال علي سلطة الثقافة المهيمنة أيضا. أي سلطة إذن تسعي بالضرورة، لأن تستأثر حصريا بهذه المكانة الرفيعة، فالسلطة الدينية تصبح سلطة مفارقة خارج المحاسبة، لأنها تحتكر العلاقة بالمطلق والمقدس، والسلطات السياسية تبني سطوتها وتعاليها علي احتكار العنف ونظم العقاب، وسلطة الجماعة تضغط وتتضخم بصفتها الحارس الوحيد للهوية والضامن لإعادة انتاجها. الفن هذا الكائن الفاتن والمحير، يدخل الي حلبة السلطة كما يدخل الصداع الي الرأس، منافس لا يرحم علي المكانة والمقام.ولكنه منافس مراوغ، فسلطة الفن هي النقيض لأي سلطة، لإنها تجسيد إنساني لأولوية الحرية والتفرد والخيال. وهي لذلك سلطة عجيبة تحتفل بتناقضاتها الداخلية. خليط من التعالي والتواضع معا، فالفن مغلق ومتباعد لحد القطيعة، وقريب ومفتوح وكأنه رقصة جماعية. منطلقاته غائمة وغير مستقرة وهذا لايزعجه كثيرا، لأنه يعيد ترتيب أوراقه دائما.يحترم الخبرات والتقاليدولكنه مولع بالجديد وجاهز دائما لتبديل محتواه وأشكاله. الخوف من الفن هو في الجوهر، خوف من قدرته المدهشةعلي كشف غرور وهشاشة ومحدودية أشكال السلطة علي اختلافها،ولكن خوف السلطات من الفن لا يتولد فقط من كونه تهديدا للهيبة التي تريد أي سلطة التحصن داخلها، وانما هو خوف من رفضه العنيد للامتثال، ومن تجسده كنموذج ملموس لممارسة الحرية. لا يبني الفن سلطانه بالإلحاح، وانما بمواصلة الغواية والتأثير متنقلا عبر القرون ، متجاوزا حدود المكان والشعوب والثقافات وفروق الأجيال، وقادرا علي الاشتباك مع الانسان ككل، لأنه يخاطب الوعي والمشاعر والحواس والغرائز معا في آن ، الفن يثير الوعي واللاوعي بنفس الجدارة. هو رحلة شبه مستحيلة في اتجاه العمق والسطح ، معجزة الخروج والدخول معا.طاقة التغيير التي يملكها الفن، لا تأتي من قدرته علي كشف حقائق الواقع فقط، وانما من دأبه علي إعادة النظر في أي يقين ثابت، ومن قدرته أيضا علي الابتعاد وإيجاد تصورات لعوالم أخري لم نألفها، الفن يبتهج بتحطيم القائم ولا يحزن علي استبدال أنظمته واستراتيجياته ، فهو رحلة اكتشاف متواصلة لذاته وللعالم معا. لا يخيف الفن السلطات وحدها، بل يربكنا نحن ايضا كأفراد وكجماعات انسانية، لأنه يذكرنا دائما بقدرات ومشاعر هائلة داخلنا، قدرات ومشاعر هجرناها لنتحصن بالمعتاد واليومي والمنطقي والعملي. فيضعنا بذلك أمام مهام مجهدة، ويدفعنا لتأمل ما يمكن أن يكون هناك، خلف ما ندركه. وعندما يمارس المبدع حريته بكل إخلاص لذاتيته في المقام الأول، فإنه بذلك يقوم بمهمة تخصنا كلنا، فهو لا يملك فهما آمنا ومكتملا للحرية، ويدرك ضرورة البحث عنها كممارسة يومية، كما يعرف أنه فرد داخل جماعة وتحت رحمة سلطات تحاول بطبيعتها نزع هذه الحرية عن الجميع. لن تتوقف عمليات المنع والمصادرة ، ولكن الابداع الحقيقي الرائق لن يتوقف أيضا، وسيظل لقمة يصعب علي اي سلطة ابتلاعها بالكامل،فالجانب الذكي من الانسانية سيواصل الدفاع عنه لأنه يدرك قيمته ويصر علي أن يمارس دوره، ويتحمل لذلك صدماته ونزواته. يحتفظ المصريون أيضا بتقدير خاص للموهوبين ويقدرون الهمة والمحتوي الرفيع لأرواحهم. ولذا ستبقي ابداعات سيد درويش، وأم كلثوم ومحمود سعيد ونجيب محفوظ وصلاح جاهين والقصبجي ونجيب الريحاني،وسناءجميل، ويوسف شاهين وابراهيم أصلان وشادي عبد السلام وحسن فتحي وصلاح عبد الصبور والفريد فرج، ومحمود رضا،ويوسف ادريس وقافلة مضيئة من المبدعين محفوظة في مكان خاص بقلوبنا، ولن نتوقف لنصيغ تقييما اخلاقيا أو سياسيا لأعمالهم أو لذواتهم، فقد صنعوا معا بهجتنا وأشجاننا، وهم الذين بنوا ذاكرتنا المشتركة. لمزيد من مقالات عادل السيوى