من الصعب الوصول إلي مفهوم دقيق للحداثة، فقد وضع العديد من المفكرين تعريفات أو مقاربات تحاول أن تصف الحداثة، كل وفقًا لرؤيته وتحليله لذلك المصطلح الذي يحتمل الكثير من التأويلات والرؤي. ففي حين يراها البعض صيغة مميزة للحضارة، تعارض التقليد، وتهدم جميع الثقافات السابقة والتقليدية، يراها البعض الآخر تعبر عن وعي عصر ما يحدد نفسه، ويفهم ذاته في لحظته الآنية، وهي لحظة انتقال دائم من القديم إلي الحديث. وقد تأثر هذا المصطلح بتصورات مفكري التنوير الذين يؤكدون علي العقلانية العلمانية والتقدم المادي والديمقراطية، كما أسهم في تأسيس أصوله مفكرون تميزوا بتمردهم علي الأسس التقليدية، وجعلوا كثيرًا من اليقينيات محط تساؤل، مثل التصورات الدينية والإجتماعية والأخلاقية، ولعل أبرز هؤلاء : فريدريك نيتشه، وكارل ماركس، وسيجموند فرويد. والحداثة ليست مصطلحًا خاصًا بالنقد والأدب، لكنها تشير إلي صيغ عديدة دالة علي الحضارة والتقدم، فهي تغاير أنماط السابقة، وتتمرد علي خصائصها وسماتها. والحداثة مرتبطة بالتاريخ الأوروبي في نشأتها وتطورها، لذا فهي ظاهرة أوروبية، ومحصلة علمية تاريخية مستمرة بدأت منذ عصور النهضة والإصلاح، إذ استغرق تشكل الحداثة وانتشارها في جميع أنحاء أوروبا حوالي ثلاثة قرون، ويؤرخ لنشوء هذه الظاهرة من منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وقد تشكل هذا النمط الحضاري نتيجة لتطورات عديدة وشاملة علي كافة المستويات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتعبر الحداثة الغربية عن الفوضي الحضارية والفكرية التي عمت الحياة بعد الحرب العالمية الأولي، كما أنها تعكس صورة القوي الاجتماعية التي كونتها، بمعني أنها "جزء من عالم يتجدد بسرعة.. عالم التمدن والتقدم الصناعي والتكنولوجي"، لذلك فإن المبدعين والرسامين قد عكسوا في بياناتهم ومعارضهم في الفترة ما بين (1909-1914) أهمية القوي والأشكال المستمدة من العالم المحكوم بالآلة والتكنولوجيا. وتميزت الحداثة الغربية بخصوصيتها الزمانية والمكانية، وكذلك بطبيعة التيارات الفكرية والفنية التي تشتمل عليها، وتضم مذاهب مختلفة في الفن والأدب كالمستقبلية والتصويرية والانطباعية والسريالية. والحداثة، في جوهرها، عمليات مستمرة من التكوين وإعادة التكوين، وهذا يتفق مع تعريف المفكر محمد أركون لها باعتبارها "بث الحيوية في التاريخ"، إنها تعني الحركة والانفجار والانطلاق. والحداثة شأن كل القضايا المهمة والمحورية لها أنصار ومعارضين، ويعد الشاعر العربي أدونيس (علي أحمد سعيد) أبرز من تكلم عن الحداثة، فهي هاجسه الأكبر في الإبداع والتنظير، ويتأسس مفهوم الحداثة لديه في ضوء المغايرة والاختلاف.. المعاصرة والتجريب. ويري أدونيس أن الحداثة العربية ليست نسخًا وتقليدًا للآخر، وليست مقاييس الحداثة في الغرب هي مقاييسها في الشرق، بمعني أن المماثلة بكل أشكالها إنما هي استلاب كامل للإنسان العربي، لأنه، وفي الحالة هذه، يحركه الشعور بالنقص إزاء التراث لعدم إمكانية تجاوزه، وإزاء الآخر في عدم قدرته علي مجاراته، وفي كلتا الحالتين يوسم الشعر بالتخلف لأنه في حالة محاكاة الشعر العربي القديم يعيد الشاعر إنتاج الوهم الأسطوري التراثي، وفي حالة مماثلة الآخر الغربي يعيد إنتاج شعر ذلك الآخر. الطائرة والجمل والحداثة ويبدو أن المفكر العربي عباس محمود العقاد كان مهمومًا بذلك المصطلح، فتحدث عنه كثيرًا، محاولاً الوصول إلي معني دقيق وعميق له، ورفض ما توهم الشعراء الإحيائيون الذين عرَّفوا الحداثة بأنها "وصف المخترعات الحديثة في أشعارهم وآدابهم"، ذلك أن الوصف فعل عقلي يسقط فيه الشاعر رؤاه الذهنية علي سطح الأشياء. وهو يري أن الحداثة تتحقق عندما يكون لدي الشاعر شيئًا يقوله، ويستحق هذا الشيء أن يقال، وأوضح قائلاً: "فالشاعر الذي يصف الطائرة ليس بالضرورة شاعرًا عصريًا، والذي يصف الجمل ليس شاعرًا قديمًا". كذلك يري الباحثون أن الحداثة حركة فكرية شاملة انطلقت مع الرواد الأوائل مثل جبران خليل جبران وطه حسين، إذ يمثل فكرهما قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية كمعيار ومصدر وحيد للحقيقة وأقاما مرجعين بديلين : العقل والواقع التاريخي، وكلاهما إنساني، ومن ثم تطوري. فالحقيقة عند رائد كجبران أو طه حسين لا تلتمس النقل، بل تلتمس بالتأمل والاستبصار عند جبران، وبالبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين. اما المعارضون للحداثة فيرون أنها تنطلق من فكر وأيديولوجيات أوروبية، وهذا مقبول في أوروبا نظرًا لتطور مفهوم الحريات، ونظرًا لوجود مؤسسات قوية قادرة علي أن تحافظ علي الموروث والأصيل. لذلك فهؤلاء يقولون إن قراءة ثاقبة في حيثيات محاولات نشر هذا المفهوم الثقافي الحداثي الأوروبي خارج أسوار الحضارة الأوروبية يطرح يقينًا حقائق كثيرة تشير إلي فكرة الغزو الثقافي وتهميش الثقافات الأخري، حيث إنها تنطلق من مركزية الثقافة الأوروبية. وقد وصفها البعض قائلاً: "إن خرافات الحداثة تعمل لإقامة مستوطنات ثقافية غربية الطراز والشكل والرؤي!". ويحدد عز الدين إسماعيل موقفه في ضوء نزعة وسطية تتجاوز نمطين متعارضين ومتباعدين: النظرة السطحية لمعني العصرية التي يتحدث فيها الشاعر عن مبتكرات عصره ومخترعاته، ظنًا منه أنه بذلك يمثل عصره أو الدعوة المغالية التي تدعو إلي العصرية المطلقة والتي توشك أن تنفصل نهائيًا عن التراث، ويقول: "ليس المجدد في الشعر هو من عرف الطيارة والصاروخ وكتب عنهما، فهذه في الحقيقة محاولة عصرية ساذجة، فالشاعر قد يكون مجددًا حتي عندما يتحدث عن الناقة والجمل!". وإذا نظرنا إلي الأدب العربي بشكل عام، فإننا نجد الدارسين العرب يختلفون في تحديدهم لمعني الحداثة ووظيفتها، فهي - كما قال الروائي عبد الرحمن منيف - من أكثر المصطلحات خلافية بسبب عدم تحديد معناه بدقة، وعدم معرفة أسباب وظروف نشأته وبسبب عزله عن سياقه التاريخي وطغيان إحدي دلالات الجزئية علي المفهوم. هدم النظام السائد لذا، يختلط مفهوم الحداثة بدلالة مصطلحات أخري مثل المعاصرة والتجديد، إلا أن معني الحداثة عند الشاعر العربي الشهير أدونيس يستحق أن نتوقف عنده، فهي كما يراها: التغاير مع الماضي العربي والآخر الغربي في آنٍ، وهذا ما يؤكده بقوله: "تقتض الحداثة قطعًا مع التأسلف والتمغرب، غير أن القطع مع الماضي ليس مطلقًا، فلقد أنتج الماضي أنماطًا معرفية آنية وفقًا لأنساق اجتماعية وتغيرات تاريخية معينة، فهي تعبر عن مرحلة ينتهي تأثيرها بمجرد انتهائها، وتختفي قيمها بزوال سببها، وكما نتج الماضي قيمًا إنسانية وأنماطًا معرفية فاعلة ومتجددة، فإنها في حالة استمرارها تقيّد تفكير الإنسان وتعيقه في صنع حاضره ومستقبله بفاعلية. وهذا يعني أن أدونيس لا يخرج عن كل قيم الماضي، إنما يتمرد علي النظام السائد أو المألوف أو المتكرر أو البديهي في كل أنظمة المعارف والثقافة والفكر التي تمثل الماضي بمفهومه السلبي، ويتحدد موقفه في ضرورة تهديمها، لذا فالكتابة الإبداعية الحداثية هي التي تمارس تهديمًا شاملاً للنظام السائد وعلاقاته، ويوضح قائلاً: "أعني نظام الأفكار". أي أن الحداثة لا تفارق الرفض والتمرد، لأن الرفض خروج علي النظام المعرفي السائد، والتمرد تجاوز أو خرق له وتقديم بديل عنه. أما الدكتور جابر عصفور، المفكر الكبير، فيري أن الحداثة تنبثق من اللحظة التي تتمرد فيها الأنا الفاعلة للوعي علي طرائقها المعتادة في الإدراك، سواء أكان إدراك نفسها من حيث هي حضور متعين فاعل في الوجود، أو إدراك علاقتها بمواقعها من حيث هي حضور مستقل في الوجود. أي أن هناك ذاتًا فاعلة تعي نفسها أولاً وواقعها ثانيًا، غير أن هذا الوعي المركب للذات والواقع لا يكفي لتحديد الحداثة أو نشوئها، وإنما لا بد من التمرد علي طرائق الإدراك المعتادة.. إن هذا الوعي يضاد وعيًا قائمًا، ولذلك أطلق علي وعي الذات نفسها وواقعها، وكيفيات تمردها: الوعي الضدي، وهو وعي لا يستسلم لليقين والذات العارفة لكل شيء، وإنما يستبدل بالمطلق النسبي، وباليقين والشك. أدب المرأة وإذا انتقلنا إلي الأدب الذي تكتبه المرأة، وهو موضوع هذا الملتقي العربي، فإننا سنجد أن الحداثة قد تجلت عندها في كسر ال"تابوهات" الثلاث التي كانت تقف فوق سن قلم المبدع العربي بشكل عام، والمبدعة علي وجه الخصوص، فتري خالدة سعيد أن الحداثة لا توجد فجأة، لكنها تتناسل من تراكم معرفي، وتنمو من مرحلة إلي أخري علي الرغم من تعارض المرحلية مع مفهوم الحداثة، إذن فالحداثة حركة فكرية شاملة انطلقت مع الرواد الأوائل ومنهم جبران خليل جبران وطه حسين، إذ يمثل فكرهما قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية كمعيار ومصدر وحيد للحقيقة وأقام كل منهما مرجعيات بديلة هي: العقل والواقع التاريخي، فالحقيقة عند جبران أو طه حسين لا تدرك بالنقل، بل بالتأمل والاستبصار والمنهجي العقلاني. لكن هل تمنح المجتمعات العربية المرأة الحق في كسر الجامد، وابتكار طرائقها في التعبير؟ للأسف لا.. فالتجربة الحديثة دفعت بعض المبدعات إلي إحراق أشعارهن مثل عائشة التيمورية، أو التخلي الفكري الكلي عن تجربتهن مثل نازك الملائكة، أو الاتجاه من الشخصي والخاص إلي المقبول اجتماعيًا ودينيًا، كما حدث مع فدوي طوقان. وتعرضت كاتبات للمحاكمة بسبب كتاباتهن مثل ليلي بعلبكي في الستينات، كما اضطرت بعضهن للهجرة مثل غادة السمان، وصودرت أعمال بعضهن مثل ليلي العثمان وعالية شعيب في الكويت، وكانت المصادرة بمثابة اتهام مجمل بكل وسائل التشهير والتشويه والاغتيال المعنوي للشخصية. ولعل أكثر النتائج غرابة لتلك الضغوط، التحول الرهيب الذي طرأ علي الكاتبة عالية شعيب التي اشتهرت بجرأتها الأدبية والاجتماعية، وكانت نموذجًا متحررًا متطورًا للأديبة العربية. لقد قامت مؤخرًا باعتزال الحياة العامة، وأعلنت توبتها عن الكتابة الإبداعية، وقالت إنها خرجت من الظلام إلي النور عندما عرفت الطريق إلي الله! هل الإبداع عندنا أصبح مرادفًا للفسق والفجور؟ وكيف يصبح رد الفعل بتلك القسوة إلا إذا كانت الضغوط النفسية والمجتمعية التي مورست عليها تفوق احتمالها وتتجاوز قدراتها علي الصمود والإصرار والتمرد؟ واقعة أخري حدثت مؤخرًا.. صدرت للكاتبة السعودية ليلي إبراهيم الأحيدب روايتها الأولي (عيون الثعالب) والتي ألقت بها الضوء علي جزء من الحياة الثقافية السعودية في فترة الثمانينات الميلادية، واعتبر بعض المهتمين بالشأن الروائي أن رواية الأحيدب تعتبر الأكثر خطورة في كشف بعض ملفات ما يسمي حركة الحداثة الأدبية في السعودية، وقد تم منع الرواية من التوريع في أسواق السعودية، ومع تسرب نسخها الأولي بدأ يدور الكثير من الحديث في أوساط المثقفين السعوديين لمحاولة فك رموز وشفرات الرواية التي تتخذ من الوسط الثقافي السعودي في الثمانينات مسرحًا لها، والغريب أن من يزعمون اهتمامهم بالنصوص الإبداعية وإهمالهم للشخوص، تعاملوا مع الرواية كمتلصصين، وكل منهم يزعم أنه عرف أشخاص الرواية وكأنها سيرة أو نسخة من الواقع. رواية الأحيدب لم تمنع بشكل رسمي، ويبدو أن هذه السياسة الجديدة للمطبوعات، تطرح تساؤلاً حول مدي شجاعة إدارة المطبوعات في اتخاذ قراراتها، واعتبر الناشر أن الرواية تسجل حضورًا ملفتًا من خلال المبيعات والإقبال الكبير والمتزايد عليها خاصة في معارض الكتب الأخيرة. ويعبر الأديب عبد الله باخشوين عن رواية عيون الثعالب قائلاً: "إنها لا تريد خدش الحياء العام بطريقة مفتعلة وسطحية، لكنها تنزع للتحليق في فضاء الإبداع الإنساني الرحب عبر عمل إبداعي مميز، يستمد من الواقع الثقافي المحلي شرعيته وخصوصيته، دون السقوط في بؤرة الذاتي والخاص". وعن الحداثة بشكل عام تقول الدكتورة صالحة الرحوتي الأديبة المغربية: "اجتماع الحديث عن الأجساد حل مضامين الإبداعات الأبية بصفة عامة، خاصة منها تلك التي نسجت خيوطها المبدعات من النساء، فالجسد حاضر في كل منعطف، ومحتفي به في كل ركن، ومطالب بتمتيعه بأقصي درجات الحرية". استقلال الشاعرة عن الشاعر لكن هناك من يري خلاف ذلك مثل الناقد شاكر فريد حسن الذي يقول إن هناك من الكاتبات والروائيات من تمردن علي العادات والتقاليد الموروثة، وتصدين بالنقد للجوانب السلبية في حياتنا الإجتماعية ونفاق المجتمعات العربية التي تحاصر المرأة وتخنق إبداعها، وتقف حجر عثرة في طريق تقدمها وتطورها وكفاحها ومن هؤلاء الروائيات: نوال السعداوي وليلي العثمان وعالية شعيب وحنان الشيخ وأحلام مستغانمي وهدي بركات وغيرهن. ويقول الشاعر أحمد الشهاوي: "أطمح أن أري الشاعرة العربية مستقلة عن الشاعر قبل أن أموت، إنها تضع النص الشعري للرجل أمامها رغم أنها نفسيًا وبيولوجيًا مختلفة، ولديها إمكانات وطاقات يمكنها أن تقدم أخيلة ولغة جديدة عن الشعر المطروح، لكنها نفسيًا ما زالت تابعة.. في اللاشعور هي ما زالت تابعة وتالية". وفي النهاية أود تحليل ما قاله الشهاوي، وأقول له: "ربما كان اللاوعي داخلها يريد لها أن تتساوي بالرجل المبدع الذي لا يجد عائقًا في التعبير بحرية مطلقة تصل إلي درجة الجنوح والشطط أحيانًا، وربما كان انفجارًا لمخزون الكبت والممنوع والمحظور علي المرأة العربية وهو بلاشك كثير وثقيل ويمثل ترسانة من القيود المقيتة". ربما وجدت المرأة المعاصرة ضالتها في الحداثة حيث تتعري بلا خوف، وتكسر المألوف بوعي، وتجاهر بأنها امرأة مختلفة تتمرد علي التقاليد وترفض القوالب الجاهزة ولا تؤمن بالبديهيات كمسلمات، لكنها تطلق لعقلها وقلبها العنان لتعيد إنتاج أفكارها ورؤاها كما تري وتشعر، وليس كما يجب أن تكون وفقًا للسياق العام للمجتمع. والحداثة - في رأيي - هي نوع من حركة التاريخ، ولكن الوعي بالذات مهم حتي لا تتحول تلك الحركة المؤدية إلي التطور الدائم ومراجعة النفس والأفكار والرؤي إلي مجرد موضة جوفاء تسعي من خلالها الكاتبة إلي تقليد الغرب دونما جوهر تريد أن تطرحه أو خصوصية تسعي إلي التمسك بها وتجسيدها من خلال ما تبدعه.