تحتل ليبيا مكانة إستراتيجية ووزناً كبيراً فى ملفات الإدارة المصرية وذلك لعدد من الأسباب منها مايتعلق بالمتغيرات التى يشهدها النظام الدولى وانعكساتها على التحالفات الإقليمية ومنها ما يخص التحديات الأمنية التى أصبحت ليبيا أحد عنواينها الكبرى فى مصر، ويتوج ذلك وفى المقدمة منه اعتبارات الجوار الجغرافى والتداخل السكانى والمصالح المشتركة بين البلدين وفى القلب منها أمن الشعب الليبى الشقيق. هذا المشهد المركب والمتعدد المستويات يجعل المحددات المصرية فى التفاعل مع الملف الليبى غاية فى الحساسية وتتطلب تدقيقا كبيرا فى الحركة والتفاعل، وهو ما نحاول رصده وتقييمه استشرافا لتداعيات اتفاق الصخيرات الموقع فى المغرب بين الفرقاء الليبيين ونص على تشكيل حكومة وفاق وطنى تقود مرحلة انتقالية تنتهى بإجراء انتخابات تشريعية، بعد عام، وتوسيع المجلس الرئاسى ليتكوّن من تسعة أشخاص، رئيس وخمسة نواب وثلاثة وزراء دول. كما ينص على أن السلطة تتشكل من ثلاث مؤسسات دولة رئيسية، وهى مجلس النواب كسلطة تشريعية، ومجلسُ الدولة وهو بمثابة غرفة برلمانية استشارية ومجلسٌ رئاسي، وتنتقل كافةُ صلاحيات المناصب العسكرية والمدنية والأمنية العليا المنصوص عليها فى القوانين والتشريعات الليبية النافذة إلى المجلس الرئاسى فور توقيع الاتفاق، ويتم اتخاذ أى قرار بإجماع مجلس رئاسة الوزراء. ويبدو لنا أن البيان المصرى الداعم لاتفاق الصخيرات أشار لبعض من محددات الإدارة المصرية إزاء ليبيا التى حافظت عليها القاهرة وسعت اليها بكافة الطرق السياسية والدبلوماسية ولعل أبرزها وحدة التراب الوطنى الليبى ومقاومة أى محاولة لتقسيمه ولعل هذا التوجه هو ما يفسر دعم القاهرة لفكرة دعم الجيش الوطنى الليبى باعتباره الطرف المؤهل لاحتكار امتلاك السلاح من ناحية والتعامل مع المهددات الأمنية من جهة أخرى وقد سعت مصر فى هذا السياق الى دعم الجيش الليبى فنيا والدعوة دبلوماسيا لفك حظر تسليحه رغم عدم دعم هذا المطلب إقليميا ودوليا وذلك مع الاستمرار فى دعم حكومة ومجلس نواب طبرق، ومحاولة توظيف الخلافات فى المعسكر المنافس "فجر ليبيا"، وتجفيف منابع دعمه ومن ذلك صياغة تفاهمات مع السودان بهذا الشأن. تجنب التورط ورغم التهديد المباشر القادم من ليبيا للأمن القومى المصرى فإن الإستراتيجية المصرية المستقرة هى عدم التورط فى تدخل من أى نوع فى ليبيا وذلك بالتوازى مع عدم فقدان القدرة على الردع العسكرى المباشر حيث كانت الضربة الجوية على شرق ليبيا فى فبراير الماضى رداً على مقتل المواطنين المصريين المسيحيين يؤشر إلى عدم استبعاد الآلة العسكرية للدفاع عن أمن مصر القومى حتى خارج أراضيها ضد أى من مصادر التهديد وبالتأكيد مثل هذه الرسالة لم تكن موجهة للجوار الغربى فقط ولكن لكل الجوار المحيط نظرا لكونه مصنفاً مصريا أيضا كمصدر للتهديد مع اختلاف الدرجة والنوع. كما سعت مصر إلى محاولة تطويق حالة الاضطراب الأمنى داخل ليبيا وتداعياتها من انشطارات تنظيمية تابعة لداعش أو لجماعات السلفية الجهادية أو الجهوية القبلية وذلك بتقليل تأثير هذه الفوضى الأمنية على مصر عبر حدودها الغربية حيث حرصت مصر على زيادة التفاعلات الأمنية مع المناطق الحدودية الغربية مع دعم التواصل السياسى والتنموى مع قبائل مناطق الحدود الغربية المصرية. فقام الجيش بتواصل مباشر مع القبائل على طول الساحل الشمالى الغربى انطلاقا من مناطق الحمام والضبعة ومرسى مطروح لمنع التفاعل مع الجوار الليبى وتفكيك شبكات المصالح القائمة على تهريب السلع وأخيرا تسليم سلاح هذه القبائل للقوات المسلحة المصرية فى منظومة كاملة من الثقة المتبادلة، وهى حالة لا تنفى نجاح جماعات العنف الإرهابية فى تنفيذ عمليتين انطلاقا من الحدود الغربية لمصر ومحاولات متعددة لتهريب الاسلحة تم تطويقها بنسبة معقولة. وفى هذا السياق سعيت مصر الى استثمار توقيع صفقة طائرات "الرافال" مع فرنسا لتوطيد شراكة ثنائية حول الأزمة الليبية، تأخذ فى الحسبان طبيعة التغيرات العسكرية والسياسية للدور الفرنسى فى محيط ليبيا، خاصة فى منطقة الساحل والصحراء وذلك بالتوازى مع خلق تفاهمات إقليمية مع الجزائر، على الرغم من بروز تقاطعات فى الرؤى إزاء سبل التفاعل مع الواقع الليبي. التدخل المنقوص أما المحددات المصرية على الصعيد السياسى والدبلوماسى فقد تبلورت الرؤية المصرية فى أن تدخل حلف الناتو المنقوص فى ليبيا هو السبب المباشر فى تردى الأوضاع الليبية، وهو ما عبر عنه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى مارس 2015 أمام القمة العربية المنعقدة فى شرم الشيخ. وعلى ذلك نشطت مصر فى آلية دول الجوار الليبى واستضافت اجتماعها الرابع فى أغسطس 2014 وهى الآلية التى تضم كلاً من مصر والجزائر والسودان وتشاد وتونس حيث تولت مصر دور منسق فريق العمل السياسى بما فى ذلك الاتصال بالساسة ومكونات المجتمع المدنى فى ليبيا، ورفع تقاريرها للمستوى الوزارى فى أى دعم للجوار الليبي. فقد قامت مصر باستضافة الاجتماع الأول للفريق فى 6 أغسطس 2014، والاجتماع الثانى فى 26 أكتوبر 2014، فضلاً عن ترتيب زيارة الفريق إلى طبرق فى 14 سبتمبر 2014، واستضافة القاهرة اجتماعا لفريق العمل السياسى لكبار مسئولى دول الجوار لتنسيق المواقف والتشاور فى 1 ديسمبر 2014، والمشاركة فى اجتماع الاتحاد الإفريقى الأول لفريق الاتصال الدولى حول ليبيا فى اديس أبابا فى 3 ديسمبر 2014. وقد تفاعلت هذه الآلية مع مبعوث الأممالمتحدة السابق الى ليبيا برناندينو ليون وانطلقت فى دعم للحوار الوطنى الليبى hعتبارا من جولة غدامس فى سبتمبر 2014 وحتى اتفاق الصخيرات بالمغرب الموقع مع نهاية 2015. وفى هذا السياق، استضافت مصر الملتقى الموسع للقبائل الليبية خلال شهر مايو 2015، كما قدمت الدعم المباشر للدولة الليبية فى المحافل والمؤتمرات الدولية، مثل مؤتمر روما لمجموعة أصدقاء ليبيا فى مارس 2014، ومؤتمر مدريد لوضع خطط تأمين الاستقرار والتنمية فى ليبيا فى سبتمبر 2014، بالإضافة إلى عدة اجتماعات دولية على هامش افتتاح أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك فى سبتمبر 2014. ولايعنى توقيع اتفاق الصخيرات ضمان بدء استقرار الأوضاع فى ليبيا على المستويين الداخلى والخارجى فعلى الصعيد الداخلى هناك أطراف ليبية مازالت لم تلتحق به. ولعل أحدث شاهد على ذلك مهاجمة المؤتمر الصحفى للمبعوث الدولى فى طرابلس، من جانب مسئول الإعلام الخارجى الليبى واضطرار المبعوث لمغادرة الأراضى الليبية. أما على الصعيد الدولى فمن المتوقع أن يجرى تدخل دولى فى هندسة الجيش الليبى وذلك بالتوازى مع عدم قدرته على ضبط الأوضاع بالكامل فى ليبيا خصوصا مع تمدد داعش فى ليبيا واستمرار تحدى الإرهاب ماثلا فى ليبيا ومحيطها من دول الساحل والصحراء ومجمل تداعيات هذه الأوضاع تتطلب من مصر بلورة إستراتيجيات جديدة للتفاعل الحيوى مع الملف الليبى نستطيع تلخيصها فى النقاط التالية: أولا: عدم الركون للمجهود الدولى فى ليبيا أو التعويل على فاعلية العقوبات الدولية على الأطراف الليبية الرافضة للاتفاق حيث تحيط شكوك كاملة بمدى القدرة بل وصدق النية على تنفيذ اتفاق الصخيرات وتطويق داعش فى ليبيا وهى الدولة التى تمتلك الاحتياطى النفطى الأول فى إُفريقيا. ثانيا: القدرة على بلورة المبادرات بحيوية وتسارع مطلوبين لتطويق وتحجيم حركة الأطراف الداخلية الرافضة له ولعل آلية التفاعل مع القبائل الليبية تكون رافعة مناسبة بشرط ألا تقتصر على مناطق شرق ليبيا. التنسيق الإقليمي ثالثا: استمرار التفاعل على المستوى الإقليمى فى الملف الليبى وعدم التضحية بهذا المسار لصالح المسار الدولى الذى تتناقض مصالحه نسبيا مع مصالح دول شمال إفريقيا ومن ذلك دعم التفاعل المصرى الجزائرى فى الملف الليبى واعتبار اتفاق الصخيرات مرحلة جديدة يمكن البناء عليها بإيجابية لحماية الامن القومى المصرى والجزائرى وحمايتهما من التهديدات الإرهابية، وذلك إضافة إلى التفاعل الحيوى مع كل من تشاد والنيجر وتونس خصوصا فيما يتعلق بمجالات مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات الإستخبارية. رابعا: طرح مصر لنفسها كفاعل أساسى فى بناء القوات المسلحة الليبية على المستوى الفنى خصوصا أن الجيش المصرى مصنف كأقوى الجيوش العربية أما على المستوى التسليحى فلابد من المشاركة بقدر مايتيسر، مع إظهار مرونة كافية إزاء قيادات جديدة للجيش الليبى تتطلبها مرحلة حكومة الوفاق الليبية. خامسا: التركيز على أن الاستقرار السياسى ولو نسبيا فى ليبيا هو حالة يمكن التعامل معها على الجانب المصرى بما يمكن القاهرة من استمرار التفاعل والتأثير وهى حالة تتطلب الفصل بين تيار الاسلام السياسى الليبى وتداعيات الحالة المصرية من الصراع مع الإخوان المسلمين. وفى هذا السياق، من المطلوب خلق مداخل مناسبة للتعامل مع هذا الفريق وعدم استبعاده بالكامل تعظيما لمكاسب مصرية فى المعادلة السياسية الداخلية الليبية وضمان التواصل مع كل الفرقاء الليبيين رغم التقاطعات العربية فى هذه الحالة. مصالح اقتصادية سادسا: دعم المصالح الاقتصادية المشتركة بين مصر وليبيا طبقا لرؤى أكثر حداثة وفاعلية والبدء فى بناء شبكات مصالح مع جميع الأطراف، وفى هذا السياق من المطلوب التخلى عن رؤية ليبيا كوعاء لاستيعاب العمالة المصرية غير المدربة والمدفوعة بعوامل الفقر خصوصا من صعيد مصر والسعى نحو تدريب هذه العمالة فى برامج محددة وذلك لتعظيم مستوى عوائد عمل هذه العمالة بما يفيد الاقتصادين المصرى والليبى معا. سابعا: بناء أدوات جديدة للتأثير بشرط فاعليتها ومن ذلك التواصل ودعم المجتمع المدنى الليبى بمكوناته من جامعات ومراكز تفكير وجمعيات مع ضمان التشبيك بينها وبين الحالة المصرية والاعتماد على آلية دعم القدرات والتدريب المتواصل بما ينتجه من تواصل وتفاعل مع الأجيال الجديدة فى ليبيا. ثامنا: تحفيز وتشجيع مكونات مصر السياسية من أحزاب ومنابر ليبرالية من التفاعل مع نظيرتها الليبية وتوسيع دوائر الوعى والإدراك بمقومات الدولة الحديثة عبر برامج مشتركة لتطوير الكادر السياسى ربما فى قضايا الأمن الإقليمى ومكافحة الإرهاب. تاسعا: الانتباه للحالة الأمنية على المستوى الإجرامى فى الجنوب الليبى ومحاولة مواجهتها عبر دعم مؤسسات الأمن الداخلى وهى الحالة المهددة إجمالا لشروط الأمن الإنسانى فى هذه المنطقة وداعمة لعصابات التهريب عبر الصحراء، وهى بيئة مرشح فيها انخراط أبناء القبائل هناك تحت تأثير المصاعب الاقتصادية. فرصة جيدة إن التحديات التى تفرضها الحالة الليبية كأحد أهم مصادر التهديد للأمن القومى المصرى قد تتحول الى فرصة جيدة لمصر بعد اتفاق الصخيرات لبناء قوتها الإقليمية خصوصا فى ضوء تحولات النظام الدولى وبروز أقطاب جدد على ساحة المشهد العالمي، فضلا عن إمكانية الاستفادة فى مجلس الأمن الدولى للعامين القادمين. وذلك شرط الانتباه الى طبيعة مقاومة مراكز غريبة لحيوية مصرية فى هذا السياق، وهو ما يتطلب بناء شبكة تعاون إقليمى قد تكون دول جوار ليبيا أحد آلياتها لضمان أن يكون الاستقرار الليبى هو لصالح الليبيين بالأساس ولصالح منظومة الأمن العربى الإفريقى فى كل من شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.