شاعرين، كانا يعيشان معا فى مملكة تعيسة يكاد الناس يموتون فيها جوعا من كثرة المظالم، تحاور الصديقان كثيرا حول ما يجب عمله، فقال الأول إننا من هذا الشعب ونرفض القهر، ولذا يجب أن نلتحم بالناس، وندفعهم لتغيير أوضاعهم فسأله الثانى ألا ترى أن هذا يتطلب وقتا طويلا وجهدا بالغا وقد لا ينجح؟ من يملك التغيير هو السلطان، وربما لا يدرك الرجل فداحة الموقف، وهو عقل واحد لو نجحنا فى كسبه لاختصرنا الزمن، فمن الأجدى إذا الوصول اليه واطلاعه على الحقائق. اختلف الصديقان وافترقا، ذهب الأول يشد ازرالناس ، بينما اختار الثانى أن يدق على باب القصر، مصير الشاعر الأول كان حتميا، فقد مات جوعا كباقى الفقراء، أما الثانى فقد رحب به الحراس وأخبروه أن الملك يدعوه لمائدته، ليطرح ما يريده عليه بكل حرية بعد تناول الطعام. وبعد أن انتهت الوليمة انطلق الشاعر بلسان عذب يسرد مظلمة الشعب، فقال له السلطان ان الموضوع كبير ومعقد، وأنه يود فهمه بدقة، ولذا فأنه يكتفى بسماع هذا القدر، ودعاه للوجود على مائدته تباعا ليواصل حديثه المهم. وهكذا توالت الولائم واسهب الشاعر فى شرح التفاصيل، ولم يغادر القصر ابدا. اتسق الشاعر الأول مع فكرته ولكنه عندما ذاب وسط البسطاء مات جوعا، واتسق الثانى أيضا مع موقفه واقترب من السلطان حتى ذاب وسط الحاشية، كل منهما بحث عن الاتساق مع موقفه وفكرته إلى النهاية، والنتيجة هى أن الملك ظل فى موقعه كما هو، بنفس ظلمه وجبروته، وظل الشعب يواصل الموت جوعا. نيتشه هو من استدعى لنا هذه الحكاية الفارسية فى كتابه «فجر»، واختار لها عنوانا ملهماً :«فى نقد الاتساق». وكما تصبح الدعوة الى الواقعية أحيانا دعوة إذعان وقبول بالسائد ، تعطل أى محاولة للتغيير،قد يتحول الاتساق بالمثل الى حصن لا نتجاوز أسواره المبدئية والأخلاقية . ولكن التاريخ يعلمنا أن هناك دائما إمكانا لمبادرة ذكية وشجاعة فى الاتجاه الصحيح ، وهناك أيضا أمكان لتطويرها عبر الممارسة، الحكاية الفارسية تدعونا لإعادة النظر فى مقاصدنا، وقياسها لا على ذاتها وأصالتها، وإنما على فعلها وأثرها الممكن فى الواقع. تأخذنا الحكاية من زاوية أخرى الى الاستقطاب الراهن والذى يواصل الاتساع بين فصيلين من المثقفين المصريين، وهو يتعلق بطبيعة النظام القائم، هناك فصيل من المثقفين يضم قامات ومواهب كبيرة نحترمها ونتعلم منها يرى أن الحفاظ على الدولة وتثبيت أركانها أولوية ملحة، وهذا يستوجب إعادة ترتيب المطالب، كى نجتاز لحظة حرجة من وجودنا، فالتركة ثقيلة، والمخاطر هائلة، ويرى ان النظام القائم قد انقذ الدولة من الانفراط، ومن الوقوع فريسة للمؤامرات، ولا زال يخوض معارك عنيفة ضد الارهاب، وأنه قد اعاد للدولة هيبتها، ويقود عملية إصلاح هيكلية للمؤسسات والبنية التحتية، ويسعى لبناء علاقات استراتيجية جديدة بالعالم، ولديه خطط تنمية طموح تتطلب مساندة الجميع. وهناك فريق آخر من المثقفين يرى أن ما يحدث فى مصر الان، هو إعادة بناء دولة التسلط : الدولة الأمنية التى تضيق المجال العام وتتصرف بوصفها المسئول والمقرر الوحيد، دولة لا تؤمن لا بالدستور ولا بالتعددية وتكره السياسة، ولا تسمح بالمشاركة الشعبية عمليا وانما تستهلك كل ذلك كمفردات لغوية فقط للدعاية والتعبئة والحشد . وبعيدا عن تقدير حجم وقيمة كل فريق ، يبقى أن آليات الحوار فيما بينهما غائبة، وهذا يؤثر سلبيا على الجميع، وفى مقدمتهم المثقفون انفسهم، فكما انفصل الشاعران، فى الحكاية ولم يتواصلا او يلتقيا مجددا، لتقييم موقف ونتيجة اختيار كل منهما ، يتباعد المثقفون وتتعاظم الاتهامات المتبادلة، وكما فى الحكاية أيضا ، تواصل الدولة فى تجاهلها لهذا الصوت الآخر، وتلتقى فقط شكليا بالمثقفين الملتفين حول مشروعها، وتفتح الباب بهذا الأداء للخصومة والمعارك البائسة ، فتزدهرعبارات التخوين والاتهامات بالعمالة و التآمر من جهة، واتهامات بالانتهازية والتواطؤ والاسترزاق من الجهة الأخرى. ادرك مدى صعوبة تفعيل هذا الحوار ونحن على ما نحن عليه، ولا أحلم سوى بأدوار جادة فى دوائر محدودة كبداية، فالجو مشحون بدرجة عالية من التربص، والهتاف يتسيد الموقف، والاتهامات السوقية جاهزة، كما أن وزارة الثقافة بقيادتها الحالية ليست على مستوى ادارة او تنظيم مثل هذا الحوار، ولا تتوافر لنا مؤسسات بديلة قادرة على تنظيم هذه المواجهات الضرورية ، سواء بين المثقفين أنفسهم أو بينهم وبين مؤسسات الدولة و صانعى القرار . سوف أتجاوز هنا المسافة الفاصلة بين الفريقين، لأتوقف عند مناطق اتفاق لا يمكن الاختلاف حولها، فسيبقى أن ما يؤرق وجدان أى مثقف بغض النظر عن مرجعيته ، ولا يمكن التغافل عنه،هو تضييق المجال العام، وتجييش الإعلام والصحافة للحشد والتعبئة،والتشهير بالخصوم، ودعم وجوه غوغائية تمارس بلطجة اعلامية ،وتصعيد فاقدى الشىء، وتضخيم دورالمؤسسات الدينية، وترك الباب مواربا أمام الدعاة والأحزاب الدينية لتأكل ما تبقى من عقول الناس. كما أن أى مشروع تغيير جاد، لا يمكن انجازه من داخل مؤسسات الدولة وبكوادرها وحدها، فهذه الأجهزة تقاوم أى تغيير حقيقي، ولذا نحتاج الى إسهامات من دوائر وأفراد أقل تعثرا وأكثر حيوية من هذا الدولاب المترهل، الذى ادمن الفشل والفساد باعتراف صناع القرار أنفسهم، فبث الحياة داخل هذا الكيان المثقل، يستدعى جميع الطاقات، وفى مقدمتها الدور النوعى للمثقفين، فمنتج المثقفين والمبدعين، بالغ الأثر لأنه حقل لتوليد وتوصيل وتجسيد الأفكار وتخليصها من كونها مقولات او مصطلحات مجردة ،او مشاريع وبرامج وخططا للمستقبل لتتحول الى أسئلة ودوافع مشتركة فى قلب حياة الناس وداخل ذاكرتهم الحية ،عبر الوعى والخيال والمشاعر والجمال ايضا. لمزيد من مقالات عادل السيوى