فى فترات الأزمات والمراحل الإنتقالية تفقد الشعوب كثيراً من وضوح الرؤية وإتجاهات البوصلة، وتختلط عندها درجات الأهداف ومستوياتها؛ فيتساوى الأهم بالمهم بمتوسط الأهمية وقليلها، بل تتداخل الأهداف والوسائل؛ فتتحول الوسائل إلى أهداف، والأهداف إلى وسائل، وهنا يحدث التَوَهَاَنْ، ويدخل أفراد هذا الشعب فى دوامة من الإرتباك والإرباك تترك أثارها السلبية على جميع أفراد المجتمع إلا من رحم ربي، وقليل ما هم. لم تدخل مصر فى تاريخها فى حالة من التَوَهَاَنْ مثل التى تعيشها منذ غزوة الصناديق مارس 2011 وفتنة ماسبيرو، ومنذ أن نجح من اعتادوا توظيف الدين الإسلامى والمسيحى لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم فى نسف الآثار الثقافية والإجتماعية الإيجابية لثورة يناير 2011، منذ ذلك التاريخ يعيش الشعب المصرى حالة من إفتقاد الوجهة، أو إفتقاد البوصلة، وقد فاقم من هذه الحالة وصول تنظيم الإخوان للسلطة ثم خلعه منها، وهنا دخل الشعب المصرى فى حالة من الإرباك والتشتت بفعل تداعيات فتنة ميدان رابعة التى تم توظيفها بطريقة حرفية فى خلط الأوراق مثل توظيف الأمويين لدم سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه. هذه الحالة مازال يعيشها الإنسان المصرى حتى اليوم، وسيظل يعيشها إلى أن تنهض الأجهزة المنوط بها تشكيل وتصحيح الوعى الجمعى للمجتمع وتقوم بدورها.ومن أهم معالم حالة التَوَهَاَنْ فى مصر تداخل ثلاثة مستويات من الفكر والفعل والإنفعالات؛ عند الإنسان نفسه وعند من يتعاملون معه، هذه المستويات هي: كل ما هو وطني، وكل ما هو سياسي، وكل ما هو شخصى؛ تداخلت هذه المستويات تداخلاً شديداً، بل صار من الصعب التمييز بينها، هذا التداخل أوجد حالة من الإرباك المستمر فى التفكير، والتشويش الدائم على كل قرار أو إنجاز سياسى أو اقتصادي، بحيث أدى ذلك إلى درجة عالية من الارتباك فى مشاعر الهوية والانتماء الوطني، بصورة أصبحت تستخدم لتبرر عند البعض خيانة الوطن والسعى لتفكيكه وتدميره. فمن المعروف عند العقلاء فى الكون عامة، وعند من يدرسون علم السياسة بصفة خاصة؛ أن هذه المستويات الثلاثة لابد أن تكون واضحة ومحددة بصورة قاطعة وصارمة ومستقرة، وأن تكون ركناً أساسياً من أركان الثقافة السياسية فى أى مجتمع، وأن تكون من المسلمات التى يدركها ويعى عليها كل إنسان سواء نال قسطاً من التعليم أم لم ينل. فهناك قضايا هى بطبيعتها من صميم وجود الوطن ومصالحه العليا، يكون عليها إجماع وطني؛ بغض النظر عن الاختلافات السياسية، بل والاختلافات الدينية والعرقية والثقافية واللغوية، فكل ما يتعلق بحفظ كيان الوطن، وتأمين مستقبله، والحفاظ على تراثه، والارتقاء به، وتحقيق مجده وعزته وكرامته، كل هذا هو من صميم القضايا الوطنية التى ينبغى أن تكون خارج السجال السياسي، والاختلاف الحزبي، والخلاف الإيديولوجي. وتأسيسا على هذا تكون المؤسسات التى تحفظ مصالح الوطن ووجوده ومستقبله مؤسسات وطنية، ينبغى أن تكون خارج السجال السياسي، والصراع على السلطة، ففى أمريكا مثلا هناك أربع مؤسسات كبرى تقع خارج الصراع الحزبى من حيث الحفاظ عليها، وإن كانوا يتصارعون للدخول فيها، هذه المؤسسات هى الجيش والكونجرس والمحكمة الدستورية العليا والبيت الأبيض، لا تسمع أحداً ينال منها أو يسعى لإهدار شرعيتها أو سمعتها، وهذا لا يعنى السكوت عن الأشخاص الذين يرتكبون أخطاء وهم داخلها، وفى مصر هناك مؤسسات مثل الجيش والمجلس التشريعى والأزهر والمحكمة الدستورية، والقضاء، هى مؤسسات تحفظ كيان الدولة ووجودها، ينبغى أن نحافظ على نظافتها من خلال تنظيفها ممن لا يستحق أن ينال شرف الانتساب إليها، ولكن دون أن ننال منها، أو من وزنها الاجتماعى وشرعية وجودها واحترام الشعب وتقديسه لها.أما المستوى السياسى فيتعلق بالسياسات والخطط والبرامج التى تضعها الحكومات المتعاقبة، ويختلف حولها المتنافسون بما لا يمس المستوى الوطني، وبما يحقق مصالح الناس ونجاح السياسات، فلا توجد حياة سياسية فى أى مكان فى العالم تتصارع فيها الأحزاب فى المعارضة لإفشال الحزب الحاكم بما يترتب عليه من إضرار بمصالح الشعب وحاجاته الأساسية واستقرار الدولة ونموها وإزدهارها. إن التنافس والصراع السياسى هو نوع من التدافع لتحقيق المصالح العليا للدولة، والرخاء والسعادة للشعب، ويكون الصراع السياسى فى إجراءات ووسائل الوصول إلى هذه الحالة من الرخاء والازدهار والتنمية، ولا يمس الصراع السياسى هذه المصالح والأهداف، فلا يعقل أن تتصارع الأحزاب لإفشال الحكومات وإفقار الشعب، وتهديد وجود الدولة، بل تتصارع للوصول إلى السلطة لإسعاد الشعب وتحقيق رفاهيته، وتحقيق أهداف الوطن والحفاظ عليه.أما المستوى الشخصى فيتعلق بطموحات السياسيين الشخصية وقدرتهم على إظهار أنهم هم الأقدر على تقديم أفضل السياسات والبرامج، وتقديم أفضل الأفكار والحلول، وقيادة أحزابهم للوصول إلى سدة الحكم، ثم قيادة الحكومات لتعظيم مصالح الشعب والدولة، ثم قيادة الدولة لتحقيق أهداف الوطن وغاياته فى العزة والكرامة والاستقرار والإزدهار. وإذا نظرنا إلى ما آلت إليه أحوال مصر والمصريين سنجد أن هذه المستويات الثلاثة قد تداخلت وإختلطت وصارت شيئاً واحداً، أعلاه هو أدناه، وأدناه هو أعلاه، أى حل المستوى الشخصى محل الوطنى وصار هو الأهم والأعلي، وهبط الوطنى إلى الأسفل وصار مجرد وسيلة يتم توظيفها لتحقيق المصالح الشخصية التى برع أصحابها فى تصوير أنها هى المصالح الوطنية العليا. فلننظر فى خطاب الأحزاب السياسية والنخب المثقفة وأباطرة الفضائيات سنجد، بصورة جلية واضحة، حالة من الاختلاط والارتباك، سنجد السياسى أصبح أكثر أهمية من الوطني؛ والشخصى يتجاوزهما جميعاً، سنجد حالة من الحمق السياسى الذى تظهر منه أهداف مقبولة ولكن يتم تحقيقها بوسائل فاسدة ومفسدة ومدمرة، سنجد حياة سياسية لا تعرف التمييز بين الوطنى والسياسى والشخصي، ولنراجع مواقف الأحزاب من القرارات الكبرى والقوانين الأساسية التى صدرت فى الفترة الأخيرة سنجد أنها تعكس هذه الحالة. وإذا نظرنا إلى حال من أزاحهم الشعب عن صدره بعد أن تحول الحلم الجميل إلى كابوس تمكين الحمقى والمغفلين، نجدهم لا يميزون بين هذه المستويات؛ بل سنجد أنهم على أتم استعداد لحرق مصر كلها وتدميرها وسفك دماء الملايين من أبنائها لكى يعود الغراب ينعق على خرائبها. هذا التداخل بين المستويات الثلاثة يحتاج أن تنهض أجهزة الوعى ممثلة فى التعليم والثقافة والمؤسسات الدينية والإعلام والفنون لتثقيف الشعب، وإعادة الوعى المفقود إليه، وإرجاعه إلى الحالة التى إستطاع فيها أن يميز بين الرئيس المهزوم فى حرب 67 وبين القائد الذى يحتاجه الشعب للنهوض من الكبوة ولعق الجراح. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف