«ما من قصة حب إلا وتبدأ بحركة موسيقية، قائد الأوركسترا فيها ليس قلبك، إنّما القدر الذي يُخفي عنك عصاه. بها يقودك نحو سلّم موسيقي لا درج له، مادمت لا تمتلك من سيمفونية العمر لا (مفتاح صول) ...ولا القفلة الموسيقية» بهذه الكلمات تحدثت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي عن الحب وأوتار القلب ذاكرة:«الموسيقى لا تُمهلك، إنها تمضي بك سِراعاً كما الحياة، جدولاً طرِباً، أو شلالاً هادراً يُلقي بك إلى المصب. تدور بك كفالس محموم، على إيقاعه تبدأ قصص الحب ... وتنتهي.» والأهم أن مستغانمي تنبهنا بالقول: «حاذر أن تغادر حلبة الرقص كي لا تغادرك الحياة» ............ من منا يريد أن تغادره الحياة أو أن ينسحب بقراره من الرقصة؟. ولا شك أن التمسك بالحياة والحفاظ على خطوات الرقص وأيضا على أنغام الموسيقى معها ضرورة لا مفر منها اذا كنا بالفعل نحب الحياة ونريد أن نحياها بكل تفاصيلها.. ولا نريد أن نعيشها فقط كما يقال «تحصيل حاصل» ثم نشكو من قسوة دنيانا أو حتى مللها. وبالطبع لا يمكن الحديث عن لحظات الالتفاتة للحياة أوالتأمل لمعانيها دون الاصغاء الى الموسيقي .. سواء تلك التي تعزف بداخلنا أو تلك التي تحيط بنا وتأسرنا لتحلق بنا الى آفاق أبعد. «في أعماقي موسيقى خفية، أخشى عليها من العزف المنفرد» قالها الشاعر محمود درويش. ويذكرنا الامام الغزالي:«من لم يهزه العود وأوتاره والربيع وأزهاره والروض وأطياره، فهو مريض المزاج يحتاج الى علاج». وأكثر من مرة سمعنا وقرأنا:«قل لي ماذا تسمع من الموسيقى أقول لك من أنت؟» وربما « أقول لك أيضا من ستكون؟» منذ أيام قرأت مقالا جديدا ل«أوليفر ساكس» في صحيفة «نيويورك تايمز». و»ساكس» طبيب مخ وأعصاب بريطاني وأستاذ في جامعة بنيويورك.الا أن شهرته الأمريكية والعالمية جاءت من كتاباته المميزة وحكاياته الشيقة عن أصحاب المرض العقلي والعصبي و«تجاربهم» و»تحدياتهم» مع العلاج وأيضا دنياهم وفهمنا أو فلنقل عدم فهمنا لهم ولدنياهم. «ساكس» أمتعنا وعلمنا كثيرا بما حكاه من حواديت عن الموسيقى والمخ في كتابه الشهير «Musicophilia» وفيه يتحدث عن الموسيقى وأنغامها وعلاقتها الحميمة مع العقل البشري وذاكرته وحلمه وخياله معا.«ساكس»(82عاما) كتب منذ شهور رسالة مفتوحة للملايين من قرائه وعشاق كتاباته يقول فيها عبر صفحات «نيويورك تايمز» إن داء السرطان تمكن منه وأن أيامه على هذه الأرض معدودة. وبأنه قرر طالما أنه على قيد الحياة فأنه «سوف يعمق أكثر صداقاته ويعطي أبعادا أكثر لفهمه وادراكه للحياة .. وانه سيكتب أكثر». وبدأت «نيويورك تايمز» في نشر مقالاته آخرها تلك التي نشرت الأحد الماضي.ونعم، عالم الطبيب الانسان «ساكس» ملئ وثري بالموسيقى وعشقها لذلك لم يكن غريبا أنه قرر أمام أيامه المتبقية له ألا يغادر حلبته في الرقص حتى لا تغادره الحياة وأن يعزف الموسيقى التي في أعماقه وأن يعزفها علنا.. لنستمع اليها ونستمتع بها..و«نعيش بها» و«نتذكره دائما». وقد شدت حكاية «كمان» ثمين ومميز أخيرا انتباه عشاق الموسيقى في أمريكا. «كمان» كان «مختفيا» أو «مسروقا» (بتعبير أدق) تم العثور عليه أو تم التوصل اليه منذ أسابيع بينما كانت زوجة السارق تحاول بيعه أو «تقدير ثمنه». انه «كمان استراديفاريوس» الفريد والغالي من نوعه.وحسب تقديرات خبراء الكمان توجد في الوقت الحالي نحو 550 آلة كمان فقط من هذه الفصيلة النادرة المنتمية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر.والحكاية بدأت في مايو 1980 عندما اختفي الكمان الذي كان يملكه ويعشقه عازف الكمان الشهير «رومان توتنبرج».وتملكه الشك في أن عازفا أصغر منه سنا يدعى «فيليب جونسون « قد سرق كمانه الثمين.الا أنه كان لا يملك دليلا على ذلك.وكان كمانه العزيز قد تم صنعه في 1734. «توتنبرج» قال بعد سرقة كمانه إنه امتلك تلك الآلة الموسيقية لمدة 38 سنة وانه أمضى نحو عشرين عاما في العزف عليها حتى يتمكن من «اطلاق كل ما لديها من قدرات وامكانات». وكما قال:»ان هذا الكمان أخذ مني الوقت لكى يستيقظ..لكى أعرف التعامل معه وايجاد كل ما يحتاج اليه،مثل نوع معين من الأوتار وغيرها من الأشياء» «رومان توتKبرج» توفى عام 2012 وهو في ال 101 من عمره. وكان كمانه يقدر ثمنه حينذاك ب 250 ألف دولار.وثمنه حاليا قد يصل الى ملايين من الدولارات. وقد حرصت ابنته الاذاعية القديرة «نينا توتنبرج» على القول في مؤتمر صحفي عقد في الأسبوع الماضي بأنها لا هى ولا أحد من شقيقتيها يعرفن العزف على الكمان ولذلك قررن بيع الكمان ولكن احتراما وتقديرا لتاريخ والدهم وتاريخ الكمان معه قررن بيعه (كما قالت نينا) لمن سيعزف عليه وليس لمن سيقتنيه فقط أى ليس لمن سيشتريه ليضعه في علبته ساكنا صامتا في مكان آمن. فالمطلوب والمنتظر من جانب بنات عازف الكمان الشهير كما ذكرت «نينا» أن تعود الحياة من جديد لذلك الكمان الجميل ولينطلق صوته المتميز عبر أوتاره ولمسات العازف الجديد لها .. كما كان الحال مع والدهم وعزفه لعشقه وعشقه لعزفه وكمانه ولموسيقي أبهرت عشاق النغمات المجتمعين في قاعات كبرى على امتداد العالم. أما الموسيقار العراقي «عاشق العود» نصير شمة فله وصفه لكيف «يرى الموسيقى» اذ يقول «.. عندما قرأت ذات مرة قصيدة لشيمبورسكا تقول فيها: كي يرى الموسيقى/ صنع لنفسه كماناً من زجاج. لفتتني العبارة، ولا أعرف لماذا شعرت بأن هذه الكلمة تقصدني أنا تحديدا، فقد صنعت لنفسي عودا من روح، وصار عودي شفيفا، وصرت أرى من خلاله وكنت بلا زجاج أرى الموسيقى تخرج متقطرة من كل شيء، ومنذ تلك اللحظة أيضا عرفتُ أنني أريد أن يرى الناس معي الموسيقى ولا يكتفون بسماعها، أريدهم أن يعيشوا معي لحظة بلحظة، يعايشوا لحظتي ولحظتهم في آن، يرتفعون عندما أرتفع وينخفضون عندما أنخفض، يتأملون، يدمعون، يبتسمون ..» .................. وما أحلاها من لحظات .. بصحبة عشاق وأوتار الكمان .. والعود كمان.