من تكرار القول أن أذكر أن مصر تركت لنا, من خلال مسيرتها الحضارية في العصر القديم, قدرا هائلا من الشواهد في مجال الفن علي الأصالة في الابداع والمهارة في التنفيذ. ولم تقتصر هذه الشواهد علي جوانب من الفن دون غيرها, سواء أكنا نتحدث عن فناني التصميم, أم كان حديثنا عن المعماريين أو الفنانين الذين اختاروا النحت تخصصا لهم, أو الذين كانوا يمارسون التلوين أو أي فن آخر. وأول ما نلاحظ في صدد الفن المصري القديم هو أن العمل الفني لم يكن نتاجا لمجهود فنان واحد كما قد يتبادر إلي الذهن, وإنما كان نتيجة إسهام متكامل لعدد من الفنانين المتخصصين في جوانب مختلفة من المجال الفني. وفي صدد الحديث عن هذا التناول الجماعي للعمل الفني الواحد, أود أن أشير إلي أن هذا الوضع لم يكن يعني بالضرورة أن بعض جوانب هذا العمل كان أهم من البعض الآخر. ذلك أن العمل الفني لايمكن أن ينظر إليه بشكل حسابي وكأنه مجموعة من الأجزاء التي لايربط بينها سوي التجاور أو التلاصق. وإنما يتم ذلك علي أساس أنه يشكل منظومة لها مقومات وأن كلا من هذه المقومات له دور يرتبط به في إطار العمل الفني الكامل, حتي يتم التعرف علي الرسالة التي يحاول الفنانون المشاركون أن يقوموا بتوصيلها الي المجتمع وربما كان من أشهر الامثلة علي هذا الأمر تمثال رأس الملكة نفرتيتي الموجود حاليا بالمتحف المصري في برلين, حيث نجد عنصر التلوين لايقل أهمية عن أي عنصر آخر, من حيث أنه يعطي بشرة الملكة وقع اللون القمحي المشرب بالسمرة الخفيفة في مزيج قد لا أبالغ إذا ذكرته أنه ينبض بالشخصية المصرية ذاتها, وليس مجرد لازمة من لوازمها. وفي حدود هذه المشاركة في العمل الفني الواحد. بما يمثله ذلك من تداخل وتكامل في التعامل مع صياغته الفنية, فإنها تؤدي إلي تكثيف القيمة الفنية لهذا العمل في اتجاهين أحدهما هو زيادة نسبة التخصص بالضرورة في العمل المطروح من حيث اشتراك أكثر من فنان في العمل الواحد, والاتجاه الثاني هو أن هذا التعدد في التخصصات يؤدي إلي قدر من التفاعل الايجابي المطلوب بين الفنانين المشاركين وهو أمر يشيع الوحدة في هذا العمل, ومن ثم يؤدي إلي تعزيز القدرة علي تحقيق رسالة الفن إلي المجتمع علي نحو ما أسلفت. ولنا في هذا الصدد أن نتخيل المساحة الهائلة التي يمكن أن يشغلها التشاور والنقاش الذي كان من شأنه أن يدور بين عدد من الفنانين يشاركون في عمل واحد ويحرص كل منهم علي إنجاح هذا العمل لأنه يري في ذلك نجاحا شخصيا له من حيث أنه اشترك في إنتاجه وقد أدي المصريون القدامي هذا المعني الذي يرتبط في مجال الفن بأكثر من طريقة من الطرق المتصلة بالمعرفة وهي طرق تشير إلي نوع من التحصيل المستمر الذي يقوم علي الدراسة المتخصصة من جهة وعلي المجهود الشخصي من جهة أخري. ونحن نستطيع أن نستنتج ذلك من ارتفاع مستوي المعرفة والأداء منذ الدولة القديمة( القرون28 23 ق. م) بالتفصيلات والنسب والخطوط التي تصعب الإحاطة العلمية بها دون دراسة متخصصة منتظمة. كذلك فإن بوسعنا أن نتوصل إلي النتيجة ذاتها عن طريق التسميات التي كان يطلقها المصريون القدماء في مجال المعرفة, والتي كان يشترك فيها الكاتب والفنان. في هذا السياق فإن كلمة سش التي كانت تطلق علي الرسام في اللغة المصرية القديمة هي ذات الكلمة التي كانت تطلق علي الكاتب. كما كانت التسمية التي تطلق علي فناني التصميم في اللغة نفسها هي سش كدوت أي كتاب العناصر الأولية وإلي جانب هذا الشأن من شئون المعرفة فقد كان علي الفنان أن يكون ملما بقدر واف من المعلومات التي تنتظم الأشياء والاحداث والمواقف والعلاقات السائدة في المجتمع, كما كان عليه أن يكون علي معرفة بالمعتقدات الدينية بما كانت تتضمنه من أشكال الآلهة وخصائصهم ومايتصل بعباداتهم من طقوس وشعائر, هذا إلي جانب قدر من الإحاطة بما يتصل بالملك والبلاط الملكي والقصر الملكي من مواقف وأنشطة وقصص وتحركات. وأخيرا وليس آخرا, فإن الفنان المصري القديم لم يتوقف عند مذهب واحد في ممارسة فنه, وإنما عرف قدرا لا بأس به من المذاهب خلال رحلته الفنية في العصر القديم. ففي جانب النحت, علي سبيل المثال, عرف المذهب التقليدي الذي كان يعني بإظهار صورة الشخص علي ماهو عليه, وأحد الأمثلة البارزة في هذا المجال هو التمثال الخشبي الذي اشتهر باسم تمثال شيخ البلد( بين القرنين28 26 ق. م) والمذهب الثاني يحاول تحسين الصورة في أماكن الجسم التي تحتاج إلي التحسين وكان هذا المذهب يستخدم عادة في حالة تماثيل الملوك. وأحد الأمثلة الكثيرة علي هذا المذهب هو تمثال رمسيس الثاني( قرن13 ق. م) أما المذهب الثالث فهو المذهب الواقعي الذي لايحاول الفنان إخفاء عيوب الشخص, بل ربما يلفت النظر اليها. ولعل خير مايمثل هذا المذهب هو التمثال الذي نحته الفنان باك لنفسه بكرشه الهائل, الي جانب زوجته علي عهد أخناتون( القرن14 المتحف المصري, برلين). ثم مذهب رابع هو المذهب الرمزي. وفي أحد أمثلته نري الملك خفرع( القرن26, المتحف المصري, القاهرة) وقد ظهر خلفه الإله حورس علي هيئة صقر يحميه هو وعرشه. ولم تكن هذه هي كل المذاهب التي عرفتها مصر القديمة في مجال الفن.