كرمت هيئة قصور الثقافة بدار الأوبرا الفنانة سوسن عامر (1933) في إطار الاحتفاء بمبدعات مصريات، فقد استطاعت "سوسن عامر" أن تضع الفن الشعبي باعتباره أحد المكونات الأساسية لثقافة الأمة، علي بساط البحث والتقصي، سواء علي المستوي الاكاديمي أو الإبداعي، بل قدمت معادلا موضوعيا لما قدمه الفنان الشعبي في أعماله إلي قاعات المعارض، ودوائر الضوء، فيما تجاوزت في حبها للفن الشعبي حدود التقليد والوقوع في محاكاة الإبداع الشعبي الأثير لديها إلي فضاء جديد كتب باسمها، فقد جمعت بين حب الألوان من خلال نسجها للوحات تشي بتراث طويل والبحث العلمي في مجال الفنون وإن كان الفن الشعبي برموزه وتراثه وغموضه هو القاسم المشترك الأعظم في المجالين. مصدر الإلهام وإذا كان الفن الشعبي، هو مصدر إلهام "سوسن عامر" ومفتاح تفسير لوحاتها، فهي تشترك في ذلك مع العديد من الفنانين الذين اتخذوا من هذا الفن أحد مصادر إلهامهم بما يحمله من أصالة وثراء، وصدق وحيوية متدفقة وتعبير مؤثر عن وجدان الضمير الجمعي للغالبية، حيث استمد الفن الشعبي عموماً رؤاه من تراكم خبرات ومهارات وقدرات علي مدي طويل، جاءت لتلبية احتياجات حياتية سواء سيكولوجية، ونفعية أو جمالية، وكما كانت الفنون الشعبية بزخمها مصدراً لإلهام الفنانين كنمط فني له كيان وسمات وأسلوب مميز، يرجع للفنانين التشكيليين والنقاد فضل الكشف عن معالم هذه الفنون وقيمتها الفنية، فقد شهد فجر الحركة الفنية الحديثة والمعاصرة، محاولات حثيثة لربط الحاضر بالماضي عندما اتجه جيل الرواد أمثال مثال مصر الأول، "محمود مختار" (1934-1991)، "محمد ناجي" (1888-1982)، "محمود سعيد"(1897-1964)، "راغب عياد"(1892-1982) إلي التعبير عن طريق الموضوعات المستمدة من الحياة الشعبية في تحول واضح لما كان سائداً في هذه الأثناء، من لجوء الفنانين الأجانب الذين كانوا يقيمون في مصر إلي بلاط القصور وتصوير أفراد الطبقة البرجوازية. نموذج المرأة فقد اختار "محمود مختار" فتيات الريف موضوعاً أثيراً لإبداعاته، مجسداً نموذجاً نادراً للمرأة، ليترفع بالموضوع والنموذج الذي صاغه بقيم جمالية إلي مستويات راقية ليسد بذلك فجوة توجهات الفن والموضوع المختار..فيما عبر ناجي عن رحلة المحمل والألعاب الشعبية كالنقرزان، المزمار، التحطيب في الوقت الذي ذهب فيه "محمود سعيد" إلي أسلوب قريب من بساطة الفن الشعبي أما المصور"راغب عياد" فاستمد رؤاه من منطلقات الفنان الشعبي سواء التلقائية والعفوية، وطرق بناء عمله الفني كاعتماده علي تقسيم اللوحة إلي مستويات أفقية. مخيم الفنون ولم يقتصر ارتباط الرعيل الأول في الحركة الفنية بالفن الشعبي فقط، فقد اتجه أيضاً عدد غير قليل من أفراد الجيل الثاني إلي مخيم الفنون الشعبية في محاولات جادة لإقامة جسور وحلقات اتصال بين الماضي والحاضر، البعض اتخذ من رسوم الوشم ورسوم عنترة التي تزين المقاهي الشعبية عناصر أساسية لإبداعاتهم، فيما اتجه البعض الآخر إلي المطبوعات الشعبية الخاصة وبكشف الطالع..أبرز رواد هذا الجيل "سمير رافع"، "عبد الهادي الجزار"، "حامد ندا"، "جمال السجيني"وامتد الخط الذي بدأه الرواد ليظهر جلياً في إبداعات الفنانين جيلاً بعد جيل للكشف عن جوانب جديدة، يمكن الإفادة منها فنياً من منجم الفنون الشعبية بهدف التأصيل وترسيخ مفاهيم الارتباط بالهوية والجذور. ويتجه تيار الارتباط بالفن الشعبي في مسارين، المسار الأول: اقتصر علي مسايرة النزعة الشعبي فقط دون إضافة حقيقية، أما المسار الثاني اتجه فيه بعض الفنانين إلي استلهام الزخارف والنقشات الشعبية، بما تحمله من طابع تجريدي، فمن زخارف الحصر ونقشات التطريز، وأشكال آنية الفخار والرسوم والوحدات البصرية الهندسية علي المنسوجات والبرادع، حيث تكشف فهم الزخارف العربية المجردة. الحكاية الأسطورية أما تجربة "سوسن عامر" الإبداعية فاتجهت إلي البحث عن روح الحكاية الشعبية الأسطورية، عندما نسجت من عناصر الطبيعة التي لها دلالات واضحة في التراث الشعبي لوحاتها، حيث نري الشجرة تتخلي عن وظيفتها في الطبيعة لصالح القيم التعبيرية والسرد، باعتبارها أيضاً حاضنة لحكايات البشر وأحلامهم، كما تري "سوسن عامر" في عروسة المولد التي اكتشفها الفنان الشعبي عنصراً درامياً أحاطتها بالطيور البيضاء، والنخيل المزدهر وهالة الزخارف التراثية المحببة إلي النفس والتي تمثل تاريخاً طويلاً يحتضن رأس وجذع العروسة. طبيعة الفن الشعبي اتسقت معالجة "سوسن عامر" لموضوعاتها مع طبيعة الفن الشعبي فقد جاءت أشكالها وخطوطها تعكس بساطة متناهية وتلقائية في الأداء تصل في بعض الأحيان إلي الفطرة الفنية، سواء في تناولها للعناصر أو طريقة الأداء التي تشبه الأيقونات التي تحتضنها الكنائس القبطية، لكنها في الحقيقة عمل فني اسثثنائي نظراًَ لخصوصيته الخالصة، فيما نفذت أغلب لوحات "سوسن عامر" علي الزجاج تلك الخامة الأثيرة لدي الجميع في الوقت الذي أضافت إليه خامات أخري كالأوراق المفضضة أو المذهبة التي تضفي إحساساً بالبهجة والألفة، وبعد أن تلصق هذه الأوراق علي سطح لوحاتها تؤكد الخطوط وترسم التفاصيل بالألوان الأحبار وخاصة الحبر الشيني، فنطالع خليطاً ساحراً من الأصالة والأساطير، يذكرنا بنقوش أواخر عصر الفيوم القديم وقيشاني قرطبة ومآذن الأزهر الشريف وقبات الكنائس وأشكال أبراج الحمام. سر الوجود تنطلق "سوسن عامر" من إحساس دفين أن الجمال سر الوجود والتدين الورع فيما يشبه العقيدة الراسخة، فقد جاءت أعمالها أشبه بقصيدة صوفية تبحث عن المعاني في الأشياء وتسبح بقدرة الخالق. عندما انطلقت ثورة يوليو في العام 1952 كانت "سوسن عامر" تتجه إلي بلوغ العشرين من عمرها، فتوحدت مع منطلقات الثورة في التغيير والتطوير، خاصة عندما تأثرت بالفنان "حامد عبد الله" (1917-1985) احد المجددين المبشرين في النصف الثاني من القرن العشرين والذي يشترك مع الفنان وفي الانتماء إلي حي المنيل بجزيرة الروضة، ذلك الحي الذي ارتبط بالواقع الجديد للثورة والتغيير فانتقل من بيئته الزراعية إلي مجتمع مصري مدني مكان يستقطب المثقفين وطبقة الموظفين الجدد.. حيث تقول "سوسن عامر": لقد تأثرت بحامد عبد الله ورغبته الأكيدة في تجاوز القواعد الأكاديمية إلي آفاق جديدة غير مسبوقة وانحيازه علي رؤي تعكس هويتنا، تلك الأفكار التي التف حولها العديد من الفنانين والفنانات عبر مرسمه بجزيرة الروضة، فقد كان يتردد علي المرسم "أنجي أفلاطون"، "صفية حلمي حسين"، "رجاء الخولي" (أخت المفكر لطفي الخولي)، "بدر حمادة" (زوجة فنان الكاريكاتير "بهجت عثمان"). القاهرة الإسلامية من جزيرة الروضة وسط القاهرة اتجهت "سوسن عامر" شرقاً إلي القاهرة الإسلامية وشارع المعز لدين الله الفاطمي بداية من قلعة صلاح الدين حتي حي الجمالية، تنقب عن ملامح الأصالة، وتتعرف علي كنوز التراث المعماري، وصور الحرف التقليدية التي أبدعها الفنان المصري، كما تجولت في حي مصر القديمة حيث أغلب المزارات القبطية وحصن بابليون والكنيسة المعلقة. لم يقتصر اهتمام "سوسن عامر" علي الآثار سواء القبطية أو الإسلامية بل ارتادت أسواق القاهرة الشعبية كسوق المنيب يوم الثلاثاء وسوق إمبابة يوم الجمعة وغيرها تسجل حركة الناس وشغفهم بالشراء بألوانها التي استعارت من الذهب والفضة لونيهما.