فى يوم 11ابريل من هذا العام اتصلت هاتفيا بالشاعر الأكبر عبد الرحمن الابنودى لاهنئه بعيد ميلاده، وكنت أتوقع بسبب الأنباء المتواترة عن سوء حالته الصحية أن يرد على شخص آخر فأطمئن منه على صحته وأبلغه تهنئتى بعيد ميلاده، ولكنه رد على بنفسه، وأتانى صوته مفعما بالمرح، وبعنفوانه المعتاد مرحبا ومسترسلا فى حديث الذكريات عن أيام (وليس أعوام، الستينيات، وعن جيلنا وعن أستاذنا عبد الفتاح الجمل، وعن الأحلام المسكونة بها، ولكن وبعد عشرة أيام فقط من هذا الحديث الهاتفى تلقيت النبأ الفاجع برحيله عن عالمنا فى 21 ابريل عام 2015، ورحل معه جزء عزيز من ذكريات الصبا والشباب والكهولة كان عبد الرحمن الابنودى واحدا من أبرز عناوينها... ثمة شىء تأكد لدى من هذا الحوار الهاتفى، وكان قد سبقه ما يشبه الوصية، أو فلنقل التوصية، على صورة اهداء خطه بيده لكتابة «أيامى الحلوة» وقدمه لى أثناء زيارتى له فى بيته الريفى بمدينة الإسماعيلية التى أقام بها لأكثر من ثمانى سنوات متتالية لأسباب تتعلق بحالته الصحية، ولم يحضر خلالها إلى مدينة القاهرة إلا لحضور الاحتفال بعيد ميلاده السادس والسبعين الذى اقامته مؤسسة الأهرام عام 2014، وكان الاهداء كالتالى: «العزيز المؤتمن على ركن هام من ثروة جيل الستينيات.. د. محمد القليوبى.. مودة وثقة» ورغم اختلافى معه فى حجم تقديره لشخصه المتواضع، حيث لم أكن سوى شاهد من بين الكثير من الشهود على الحياة الثقافية فى الستينيات، مساهما بالكتابة النقدية المحدودة فى مجالات الأدب والفن فى عدد من الصحف والمجلات المصرية والعربية، ولكن بما أن الابنودى قد أوصى على نحو ما بأن أدلى بشهادتى عن هذه الفترة، فلابد من تنفيذ وصيته على الاقل فيما يخصه منها باعتباره احد أكبر الشخصيات التى تصدرت المشهد الثقافى والابداعى خلالها. وعلى الرغم من أن أول لقاء بعبد الرحمن الابنودى قد تم منذ أكثر من خمسين عاما فى عام 1964، إلا أنه مازال ماثلا فى ذهنى، كما لو كان قد حدث بالامس... اصطحبنى زميل الدراسة بمدرسة التوفيقية الثانوية الصديق الشاعر الراحل سيد القطان إلى مقر احدى الجمعيات الادبية التى كانت منتشرة وقتها بمدينة القاهرة كى أستمع إلى الشاعر الوافد حديثا إلى القاهرة، والذى اعجبنا بشعره الذى نشره صلاح جاهين فى مجلة «صباح الخير» تحت عنوان «شاعر يعجبنى» عبد الرحمن الابنودى، وهكذا توجهنا إلى مقر الجمعية فى شقة بوسط البلد، حيث توافد عدد من شباب الكتاب والمثقفين، وبعض المستمعين وافراد من المخبرين التابعين لجهاز مباحث أمن الدولة الذين كانوا يتوافدون على الجمعيات والمقاهى التى يتجمع بها المثقفون، وعلى رأسها مقهى «ايزافيتش» ومقهى «ريش» حتى يدونوا تقاريرهم عن استتباب الأمن الثقافى من عدمه، وكانت وجوه هؤلاء المخبرين معروفة لدينا، حيث ينطبق عليهم مقولة صلاح جاهين الساخرة «وقد سمى المخبر مخبرا لأن مظهره يدل على مخبره»... وهكذا استمعت للابنودى للمرة الأولى، وهو يلقى اشعاره، كانت القصيدتان اللتان القاهما «حكاية بياع البلح فى هيروشيما» وتحكى عن بائع للبلح فى طرقات هيروشيما أثناء سقوط القنبلة الذرية عليها، وقصيدة «الخواجة لامبو العجوز مات فى إسبانيا» وتحكى عن مغن وعازف جوال «تروبادور» يغنى للفقراء فى احدى قرى إسبانيا الفقيرة. وعلى الرغم من معرفتى بأن النخل الذى يطرح بلحا غير موجود فى اليابان وبالتالى يستحيل وجود بائع للبلح فى عرض الطريق هناك إلا أننى أخذت بالقصيدتين، ومثلا لى ملمحا جديدا فى الشعر المصرى المعاصر، أننا امام شاعر من طراز خاص يؤرقه العالم وقضاياه، لا محليا فقط، ولكن امميا، والمدهش فى قصائده أنه يستطيع ببراعة وبموهبة لغوية فذة أن يحول قضايا إنسانية كبرى إلى هموم محلية لصيقة بابناء الشعب، ويوحد بينهم وبين العالم: شاعر تتسع همومه لتشمل الكون باكمله، وينطلق محلقا بقضايا البشر من أصغر وأدق تفاصيلها إلى أكبر همومها.. من القرى النائية فى الصعيد إلى مدن مصر والعالم، وبثراء لغوى بالغ.. ولا أحسب أن عبد الرحمن الابنودى يدين بهذه اللغة المتفردة لاحد بقدر ما يدين للتراث الشعبى المصرى، وفنون القول والحكى والانشاد فى أعلى نماذجها، ولذلك، فالابنودى هو الشاعر الوحيد الذى لا نجد تأثيرا لشاعر سبقه أو لحقه عليه، وإنما نجد أنه صاحب التأثير الأكبر على شعراء العامية الذين تلوه، فلن نجد مثلا تأثير فؤاد حداد على صلاح جاهين، ولا تأثير صلاح جاهين نفسه على سيد حجاب «فى مراحله الأولى» ولا تأثير بيرم التونسى على فؤاد قاعود، وأحمد فؤاد نجم، وإنما سنجد شيئا نابعا من بيئة وثقافة بالغة الخصوصية، تحمل قصائده مذاقا فريدا، وهى تتغنى بأناس وشخصيات عالمه الذى يحتوى هموم البسطاء واحلامهم، ويتحول معها همس الكلمات والجمال المسكون بها الى صراخ وأنين، والى ما يكاد ان يكون بيانا ثوريا بواقع الحال، كما يتجلى فى أول دواوينه الأرض والعيال عام 1964، ثم فى دواوينه التالية «الرحمة» عام 1967، و«عماليات» عام 1975، و«الاحزان العادية» عام 1980، ثم مربعاته التى طارد بها حكم الاخوان المسلمين يوميا على مدار حكمهم، والتى صدرت فى ديوان كتب مقدمته محمد حسنين هيكل عام 2014، وجميع هذه الدواين الشعرية تشكل حوليات لأنين وطن ولمشاعره وأحداثه وأحزانه العادية والاستثنائية ايضا. كان حضور الابنودى من مسقط ر أسه أبنود بمحافظة قنا الى القاهرة، اشبه بعاصفة عاتية آتية من الجنوب، فلقد صحبه فى هذا الحضور زميلان مثلا له صداقة العمر، وهما الشاعر الكبير صاحب الموهبة الفذة أمل دنقل، وكاتب القصة الموهوب بصورة استثنائية وشاعرها الذى كان يحفظ قصصه عن ظهر قلب ويتلوها علينا من ذاكرته، كما لو كانت قصيرة من الشعر يحيى الطاهر عبد الله، ثم لحق بهم الشاعر الجنوبى الموهوب عبد الرحيم منصور، وجميعهم من محافظة قنا. واذا كان كل من عبد الرحمن الابنودى وأمل دنقل قد هربا من الدراسة فى كلية الآداب، فان يحيى الطاهر عبد الله هرب من التجنيد قافزا سور ادارة التجنيد بمحافظة قنا بعد تسجيله وتسليمه (المخلاة) واتخاذ إجراءات ترحيله.. وبينما كان اسمه يلمع ككاتب بالغ التميز للقصة القصيرة، كان يحمل بطاقة شخصية (مضروبة)، دون فى محل المهنة بها «كاتب قصة قصيرة»، ولعله الوحيد فى مصر الذى دون فى بطاقته مهنة كهذه حتى لو كانت بطاقة (مضروبة)!!... ولم يتم توفيق اوضاعه القانونية إلا بعد القبض عليه عام 1976 عقب فترة هروب استمرت ما يقرب من اربعة اشهر، فاضطرت وزارة الداخلية لان تصدر وثائق صحيحة له حتى يتمكنوا من اعتقاله والإفراج عنه، وبالتالى لم يعد مطلوبا للتجنيد أو هاربا منه لان تجنيده اصبح مرفوضا من الناحية الامنية السياسية. فى بداية حضورهم القاهرة، كان الجميع يتوجهون الى مكان شهير فى الستينيات الى الدرجة التى كاد يتحول معها الى احد معالم القاهرة الثقافية، وهو شقة الشاعر والكاتب محمد جاد بالعجوزة، كان يكفى ان يكون المرء شاعرا أو كاتبا أو فنانا تشكيليا متميزا فنيا وإبداعيا، ومتوافقا فكريا وسياسيا مع مجموعة من يقطنونها كى يجد فى هذه الشقة مأوى له فى القاهرة، حتى ولو مجرد حشية موضوعة على الأرض وعليها وسادة اذا ما سمحت الظروف، ومكتبة عامة قوامها مجموعة الكتب، أحضرها سكان الشقة أو على الاصح الوافدون عليها موضوعة على الأرض... وهكذا استقبلت شقة محمد جاد بالعجوزة عبد الرحمن الأبنودى وامل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله وسيد حجاب وسيد خميس وصلاح عيسى وعبد الرحيم منصور والفنانين التشكيليين عدلى رزق الله والفلسطينى مصطفى الحلاج الذى استقرت عائلته بعد النزوح من فلسطين عام 1948 فى مدينة ابو كبير بمحافظة الشرقية، وآخرين من مبدعى مصر وفنانيها... وكنوع من الاعلان عن سكان هذه الشقة أصدر قاطنوها مجموعة قصصية بعنوان «عيش وملح» واستكتبوا الكاتب والباحث فى التراث الشعبى سيد خميس القصة الوحيدة التى كتبها فى حياته لمجرد الوجود معهم فى اطار العيش والملح (القصصى) الذى تقاسمته هذه الكوكبة الرائعة من كتاب ومبدعى مصر فى ستينيات القرن الماضى. انتقل الابنودى بعد ذلك ومعه امل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله الى شقة صغيرة ببولاق الدكرور، واصبحوا بين عشية وضحاها قبلة لشباب الحى الذين التفوا حولهم واحتفوا بإبداعهم حفاوة شديدة، ويرجع ذلك الى (كاريزما) الابنودى بزوجته الاولى نعيمة مصطفى لاعبة عرائس (الماريونيت) بمسرح القاهرة للعرائس، وانتقل للعيش معها فى شقتها بميدان السيدة زينب، ثم ما لبث ان حدث الطلاق بينهما بعد اقل من عام، وتزوجت بعدها من الشاعر عبد الرحيم منصور مما ادى الى حدوث فراق وتباعد بينه وبين الابنودى، وبعد ذلك اقترن عبد الرحمن الابنودى، بعطيات عوض محمود خليل الممثلة بمسرح الجيب والتى اصبحت فيما بعد المخرجة التسجيلية الكبيرة عطيات الابنودى، بعد ان حملت اسمه، او على الاصح نسبت نفسها الى قريته كما فعل هو نفسه... وبعد سنوات تعد طويلة نسبيا، إذ استغرق زواجهما نحو عشرين عاما، افترقا بصورة عنيفة ومفاجئة للقريبين من الطرفين، اذ كنا نود ان يتم الافتراق بينهما مقترنا بنوع من الصداقة الجديرة بإهداء عبد الرحمن الابنودى لديوانه «احمد سماعين» (قصة اسنان): الى عطيات... زوجتى ، رفيقة التعب.. والرحلة»، وبالكتاب الذى نشرته عطيات بعد افتراقهما بعنوان «ايام لم تكن معه»، وهو رسائل اشبه بالمذكرات عن فترة اعتقاله فى اكتوبر عام 1966 ولمدة ستة اشهر. وكان الابنودى وعطيات يقطنان شقة فى باب اللوق بوسط القاهرة،اعتلى سطحها شقة صغيرة سكن فيها يحيى الطاهر عبد الله وكمال الأبنودى وهو شقيق اصغر لعبد الرحمن الابنودى، مارس كتابة القصة والشعر بموهبة لا بأس بها، ولكنه توارى تحت شمس الأبنودى الساطعة، واتصور ان اقترانه باسم الابنودى قد ظلمه كثيرا... انتقل الابنودى بعد ذلك الى شقة بشارع يحيى ابراهيم بالزمالك، وهى الشقة التى تم بها التسجيل الصوتى للسيرة الهلالية بمجموعة من الرواه والمنشدين مثل جابر ابو حسين وسيد الضوى وفوزى جاد والنادى عثمان والحاج الضوى وعم مبروك الجوهرى، وقد استخدمت هذه التسجيلات الصوتية فى برامج اذاعى شهير للابنودى عن السيرة الهلالية استغرق 356 (نصف ساعة)، كما تمت صياغتها أو على الاصح ترتيبها وتنسيقها ودراستها كنص. مطبوع مع الاحتفاظ باصولها، وهو امر سنتناوله فى حينه... اما زواجه الثالث والاخير الذى وجد فيه السعادة والاستقرار الاسرى، فهو اقترانه بالمذيعة ومقدمة البرامج التليفزيونية نهال كمال التى وهبته نعمة الابوة، وأنجب منها ابنتيه آية ونور، وحسب الإهداء المطبوع للجزء الثانى من كتابه «ايامى الحلوة» والذى يرصد فيه مجموعة من ذكرياته، فلقد اعطته نهال كمال مع ابنتيه آية ونور أيامه الحلوة، ويصفه من فى اهدائه لمختاراته الشعرية قائلا: «الى نهال كمال... زهرة النور.. والى آيه ونور... عطر الحياه»، وكان ذلك بمثابة مرفأ الامان الذى استقرت عليه سفينة الخال الابنودى فى نهاية رحلته... اما حياة الخال قبل ان يصبح خالا خلال ستينيات القرن الماضى فمازال الكثير مما يستحق أن يقال. وللحديث ان شاء الله بقية