تنقل الأبنودي منذ قدومه إلي القاهرة في عدة أماكن لكنه استقر لفترةٍ طويلة في شقةٍ صغيرة ببولاق الدكرور. " كانت الشقة ضيقة ومتواضعة جداً وليس بها غير حصيرتين وسرير، رغم ذلك كانت مأوي للشعراء والأصدقاء الذين يجتمعون في كنفه ، كنت أذهب إليه بصورةٍ يومية وأذكر أنني التقيت هناك للمرة الأولي بيحيي الطاهر عبدالله الذي كان يقيم معه وأمل دنقل الذي كان دائم الحضور، وهج العلاقة بين الثلاثة الذين فرّوا من قنا إلي القاهرة كان عجيباً، غمرني حتي انصهرت معهم في صداقةٍ حقيقية. وفي شقته قابلت أيضاً أحمد فؤاد نجم للمرة الأولي. كنت الشاهد علي لحظات ميلاد قصائد الأبنودي، كان يقرؤها علينا كل ليلة بمجرد انتهائه من كتابتها. ديوانه الأول "الأرض والعيال" كان فارقاً لا أنسي دهشتي عندما سمعت منه قصيدة "خيط" التي يبدؤها ب "الليل جدار إذا يدن الديك من عليه يطلع نهار". أذكر أن أوراقه كانت تملأ شقته التي كنا نجتمع فيها، أحتفظ ببعض مسودّات قصائده التي كان يخطها بيده، وكثيراً ماكانت تضيع منه بعض الأوراق لأجدها له، منها قصيدة كان مطلعها "يا دندراوي مال شراعك مال. ومكنش زيك في البحورة دكورة. ومكانش زيك في البلد خيال". مقاهي القاهرة أيضاً أحلت حيزاً كبيراً من الذكريات التي جمعتني بالخال.. في قهوة إيزافيتش بميدان التحرير والتي لم تضق يوماً علينا نحن الشعراء أصحاب الجيوب الفقيرة. كان جرسونها الأشهر (عم جمعة) يعاملنا بحب ويصبر علينا عندما نتأخر في سداد مستحقاته. أحبّه الأبنودي كثيراً حتي أنه كتب عنه قصيدة في ديوانه الأول "الأرض والعيال" يشاكسه فيها "عم جمعة جرسون قهوة إيزافيتش. الأسمر. أبو وش يبش يهش ينش. الكلمة الوحشة بره العش. واحد قهوة للأستاذ سيد. ويقيد. يا سلام يا سي عبد الرحمن" الزواج الأول في حياة الخال، ظلت تفاصيله مخبأة في قلوب أصدقائه من أبناء جيله: كانت تدعي "نعيمة" تعرّف عليها الأبنودي في مسرح العرائس، حيث كانت تعمل لاعبة لعرائس الماريونيت هناك. تزوّج منها عام 1963 واحتضنته في بداية حياته بالقاهرة، عاشا معاً في شقتها بشارع خيرت بالسيدة زينب، إلا أنهما انفصلا بعد تسعة أشهر فقط من الزواج. وبعد انتهاء هذه العلاقة عاد الأبنودي أعزب إلي شقته في بولاق الدكرور حتي تزوّج عطيات عوض التي غيّرت اسمها لاحقاً لتصبح "عطيات الأبنودي". كنت ألتقيهما بشكل دائم وفي كل مرة كنت أري حبها له في عينيها. عطيات والأبنودي تبنيا "أسماء" ابنة يحيي الطاهر عبدالله بعد وفاته إخلاصاً له. كان الأبنودي تلقائياً وعفوياً بشكلٍ كبير، لا أنسي دهشته عندما كنا نسير ذات يوم وسمع صدفةً أغنيته "إنجد قطنك من الدودة" تصل إلينا بصوت فاطمة علي من راديو بعيد في أحد المقاهي، كانت أول كلماتٍ تُغني له، ولم يكن علي علم بذلك لأن صلاح جاهين الذي تبني موهبته هو من أوصل نصه للإذاعة. من بعدها اشتري راديو كبير وضعه في أحد أركان شقة بولاق الصغيرة. كان يسعي ليكون مؤلفاً معتمداً لدي لجنة النصوص، وكان دائم الاطلاع علي مجلة الإذاعة والتليفزيون عندما بدأ في كتابة الأغاني ليعرف مواعيد إذاعتها. ما فعله صلاح جاهين مع عبدالرحمن الأبنودي طبّقه الأخير مع أصدقائه. فتح طريق الإذاعة أمامنا، كان يذهب إلي هناك بصورة يومية بعد اعتماده مؤلفاً للإذاعة. يأخذ نصوصنا ويقدمها إلي لجنة الاعتماد دون أن نعلم، كأنه ساعي بريدٍ يعمل في الخفاء. كنت جالساً معه ذات يوم وفوجئت بالراديو يصدح بأغنيتي "القمح والنورج" بصوت اسماعيل شبانة وألحان عبدالعظيم عبد الحق، كما قدّم نصوصاً لسيد حجاب، وفعل ذلك أيضاً مع عبدالرحيم منصور ومصطفي الضمراني ومحمد عبد النبي الذي اختير نصه "قولوا لعين الشمس ماتحماشِ. أحسن دا جيشنا في الشوارع ماشي". تألق الأبنودي في الأغاني التي أحدثت هزة مدوية آنذاك كان يبدأ من السهرات التي يقيمها مع أصدقائه..كان لدينا سهرة نقيمها بصورةٍ شهرية ولكن كثيرا منها كانت تتم في منزل الملحن سعد الموجي. كانت السهرة تجمع عدداً كبيراً من الملحنين والفنانين، وفيها تعرّف الأبنودي علي محمد رشدي لنشهد ولادة أروع الأعمال التي تمت بينهما، والتي اكتملت ب(تحت السجر يا وهيبة) و (عدوية). قبل أن تملأ أغانيه الشوارع بحناجر كبار النجوم الذين غنوا له مثل عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وشادية وغيرهم". كانت الذكريات تكتنز أيضاً حزناً ناصع السواد وصل إلي ذروته في الغرفة رقم "8" التي كان يرقد فيها أمل دنقل بجسده النحيل علي فراش المرض.كان اشتداد المرض علي أمل دنقل عام 1983 قاسياً علينا جميعا وعلي الأبنودي بصورة أكثر عمقاً ووجعاً، باتساع الحياة التي جمعت بينهما من المدرسة الثانوية بقنا وحتي الغرفة رقم "8" بمعهد الأورام. ترك الأبنودي كل شيء وتفرغ تماماً لأمل، لثلاثة أشهر متواصلة كنا نقضي في غرفة أمل التي توفي بها لاحقاً أكثر من ست ساعات يومياً حتي يصرخ بنا "روحوا ناموا". كان أمل يري وجه الموت جيداً حين أملي وصيته علينا لندفنه مع أبيه في قنا، محدداً خمسة أشخاص فقط ليرافقوه إلي مثواه الأخير كنت أنا والأبنودي وعبدالمحسن طه بدر وجابر عصفور ومني أنيس. لا أنسَ وجه الأبنودي الذي كان يفيض حزناً ونحن عائدون من رحلة الوداع، اتكأ بجواري من شدة التعب، قال لي وهو يتذكر رفيقيه يحيي وأمل اللذين دفنّاهما في قنا " مين فينا هيدفن التاني يا خال" قلت له أنت طبعا، ورغم أنه سبقني لم يمت، الأبنودي لا يموت.