تعرض الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي لما هو أكبر من وعكة صحية بقليل، انتقل على إثرها لمستشفى الجلاء العسكري بالإسماعيلية، لكن الوعكة كانت كافية لتسقط قلوب ملايين من المصريين المحبين للأبنودي، في انتظار الاطمئنان على حالته الصحية. بهاء طاهر يتذكر: القصيدة التي كتبها الأبنودي على «قهوة إيزافيتش» عن «عم جمعة الجرسون» منع الأطباء المعالجين الزيارة عن الأبنودي، حيث دخل المستشفى وهو يعاني من ضيق شديد في التنفس، لكن الأطباء أكدوا أن حالته الصحية تتحسن تدريجيا، وأنه يتماثل للشفاء، بعد استعادة الأبنودي للتنفس بشكل شبه طبيعي. ثلاثة روائيين وشعراء كبار التقتهم "الأهم"، لديهم نفس الشغف لمعرفة أخبار "الخال" والاطمئنان عليه، يود بهاء طاهر لو يقول له "سلامات وطيبون"، وأن يقول له الروائي يوسف القعيد "مررت بوعكات صحية كثيرة من قبل.. استجدع وقم لتكتب وتبدع". في السطور القادمة، سيسترجع بهاء طاهر والشاعر زين العابدين فؤاد والروائي يوسف القعيد يوما من "أيامهم الحلوة" التي قضوها في صحبة الخال. قهوة إيزافيتش الروائي بهاء طاهر يتذكر "يومًا رائعا جمعه بالأبنودي"، ويقول: "رغم انقباض قلبي من الحديث عن ذكرياتي مع الأبنودي في هذا التوقيت؛ حيث يرقد الصديق في فراش المرض، إلا أنني أتذكر يوما من أيام شبابنا، صحيح أنا أكبر من الأبنودي في السن، لكنه كان وما زال أحد أصدقائي المقربين، كنا نجلس في شرخ شبابنا على مقهى إيزافيتش في ميدان التحرير". يتابع بهاء طاهر: "كان سر اختيارنا لهذا المقهى الذي أنشأته عائلة يوغسلافية جاءت إلى مصر في عصر الملك فاروق، هو أنها كانت صدرًا رحبًا لكل المثقفين من أصحاب الجيوب الفقيرة والطموحات والأحلام الكبيرة، كنا نجتمع مجموعات أو فرادى في هذا المقهى، حتى جاءت لحظة تجلي، وكتب الأبنودي قصيدة يمتدح فيها جرسون القهوة عم جمعة، الذي كان يتعامل معنا كأننا من أفراد أسرته ويصبر على الجيب الفقير؛ وجاء في مطلع القصيدة: عم جمعة جرسون قهوة إيزافيتش الأسمر.. أبو وش يبش يهش ينش الكلمة الوحشة برة العش واحد قهوة للأستاذ سيد ويقيد يا سلام يا سي عبد الرحمن للدنيا لسة جرح صعب محتاج لطبيب". وأستأنف طاهر حديثه: "سمعت القصيدة من عبدالرحمن، وتحدثنا فيها وضحكنا طويلا، وعم جمعة شاركنا الأمر، بعدها بفترة نُشرت القصيدة في إحدى الجرائد أو الدوريات الثقافية لا أذكر؛ ولأن عم جمعة كان لا يجيد القراءة والكتابة، فجاءنا يحمل الصحيفة ليجعلنا نقرأ له ما بها فقرأناه". ويواصل الأديب الكبير: "عم جمعة ملأته الحيرة، ومال على أذني متسائلا بهمس: يعني يا بيه الموضوع ده حلو ولا وحش، صمتُّ قليلا قبل أن أجيبه ضاحكا: حلو يا عم جمعة ما تخفش". يختتم طاهر بقوله: "وقتها عرفت من أين يأتي الأبنودي بكلماته التي تلمس البسطاء والعامة، وتطربهم، ويفهمونها ويحسونها، كان يلتقط بعين الشاعر الماهرة وقلب الإنسان الكبير، النماذج الإنسانية المختلفة التي تحمل من الجمال الإنساني أكثر مما تخفي ويصيغها على طريقته". النائب العام في ضيافة الأبنودي الروائي الكبير يوسف القعيد يتذكر يومًا قضاه مع الأبنودي، يفتش في ذاكرته: "لا أستطيع تذكر تاريخ اليوم تحديدًا، فقد ذهبت لزيارة الشاعر الكبير ومعي أحمد ابني المقيم في كندا، وكان في زيارة إلى مصر، ومعنا السيد محمود طاهر، الذي تولى بعد ذلك رئاسة النادي الأهلي، وانضم إلينا المستشار عبدالمجيد محمود النائب العام وقتها". يضيف القعيد: "كان سبب الزيارة هو الاطمئنان على صحة الأبنودي الذي استفاق من أزمة صحية، كانت أخف وطأة من التي يمر بها الآن – شفاه الله- وعلى الرغم من عشرتي الطويلة بعبد الرحمن الأبنودي، بحكم الصداقة الوطيدة بيننا، والزمالة الأدبية، إلا أنني وجدت يومها أبنودي آخر، إنسان بكل ما تحلمه كلمة الإنسانية من معانٍ". ويستأنف الروائي حديثه: "خصوصية اليوم تأتي من التركيبة الإنسانية التي شهدت الأبنودي عليها، واستيعابه لتلك التركيبة، والتي تعد إحدى أوجه الأبنودي التي لا يعرفها إلا القليل، وهي قدرته على استيعاب البشر باختلافتهم". يوم وداع أمل دنقل الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد يتذكر يوما قضاه مع الأبنودي، فيقول: "يوم لا يُنسى بأي حال من الأحوال؛ حيث كان الشاعر الراحل أمل دنقل قد أوصى قبل وفاته أن يصاحب جثمانه من القاهرة إلى مدفنه في الصعيد أشخاص محددين بالاسم وهم عبد الرحمن الأبنودي، والدكتور عبد المحسن طه بدر، والدكتور جابر عصفور، والسيدة منى أنيس، والصحفية عبلة الرويني، زوجته، وأنا". وأشار زين العابدين إلى أنه "حينما صاحبنا نعش دنقل رأيت على وجه الأبنودي نفس الحزن الذي رأيته على وجهه ووجه أمل دنقل حينما رافقنا جثمان صديقنا الراحل الروائي والقاص الكبير يحيى الطاهر عبدالله، الذي وافته المنية إثر حادث سيارة على طريق الواحات، يومها رأيت وفاء الأبنودي لصديق عمره، ورفيق دربه، ويومها أيضا رد الاثنان على الشائعات التي انتشرت حول قطيعة أو جفاء حدثت بين الصديقين".