الأطباء تبحث مع منظمة الصحة العالمية مشاركة القطاع الخاص في التأمين الصحي    محافظ الإسكندرية يطلق مبادرة توظيفك علينا لتشغيل 1000 شاب وفتاة    حدث ليلا.. تل أبيب تشتعل واعتقالات بالجامعات الأمريكية وإصابة بن غفير    مصرع 76 شخصا وتشريد 17 ألف آخرين بسبب الفيضانات في كينيا    صحفي إنجليزي يكشف كواليس وأسباب أزمة مشادة محمد صلاح مع كلوب    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    طارق السيد: الزمالك سيتأهل إلى نهائي الكونفدرالية    موعد مباراة توتنهام وآرسنال اليوم في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    السكك الحديد تعلن عن رحلة اليوم الواحد لقضاء شم النسيم بالإسكندرية    حالة الطقس اليوم الأحد على القاهرة والمحافظات    سيد رجب: بدأت حياتى الفنية من مسرح الشارع.. ولا أحب لقب نجم    لتضامنهم مع غزة.. اعتقال 69 محتجاً داخل جامعة أريزونا بأمريكا    ماكرون يعتبر الأسلحة النووية الفرنسية ضمان لبناء العلاقات مع روسيا    أسعار الأسماك واللحوم والدواجن والخضروات.. اليوم 28 أبريل    التصريح بدفن جثة شاب صدمه قطار أثناء عبوره المزلقان بقليوب    تتبع المنهج البريطاني.. ماذا قال وزير التعليم عن المدرسة الدولية؟    زلزال بقوة 6.1 درجة يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    الفرح تحول إلى جنازة، لحظة انتشال سيارة زفاف عروسين بعد سقوطها بترعة دندرة (صور)    14 مليار دولار في طريقها إلى مصر بسبب رأس الحكمة    تسليم أوراق امتحانات الثانوية والقراءات بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    اشتباكات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    غدا.. محاكمة عاطل متهم بإنهاء حياة عامل في الحوامدية    أتلتيكو مدريد يفوز على أتلتيك بلباو 3-1 في الدوري الإسباني    السفير الروسي: انضمام مصر للبريكس مهم جدا للمنظمة    فضل الصلاة على النبي.. أفضل الصيغ لها    25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل عن 65 عاما    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    عضو اتحاد الصناعات يطالب بخفض أسعار السيارات بعد تراجع الدولار    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الأحد 28 إبريل 2024 بالصاغة    حسام البدري: أنا أفضل من كولر وموسيماني.. ولم أحصل على فرصتي مع منتخب مصر    هيئة كبار العلماء السعودية تحذر الحجاج من ارتكاب هذا الفعل: فاعله مذنب (تفاصيل)    بعد التراجع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 28 أبريل 2024 بالأسواق    هل مرض الكبد وراثي؟.. اتخذ الاحتياطات اللازمة    الأردن تصدر طوابعًا عن أحداث محاكمة وصلب السيد المسيح    الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري للبيع والشراء اليوم الأحد 28 إبريل 2024 (آخر تحديث)    تحولات الطاقة: نحو مستقبل أكثر استدامة وفاعلية    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا    بعد جريمة طفل شبرا، بيان عاجل من الأزهر عن جرائم "الدارك ويب" وكيفية حماية النشء    حسام غالي: كوبر كان يقول لنا "الأهلي يفوز بالحكام ولو دربت ضدكم (هقطعكم)"    وفاة الفنان العراقي عامر جهاد    عمرو أديب: مصر تستفيد من وجود اللاجئين الأجانب على أرضها    غادة إبراهيم بعد توقفها 7 سنوات عن العمل: «عايشة من خير والدي» (خاص)    نيكول سابا تحيي حفلا غنائيا بنادي وادي دجلة بهذا الموعد    نصف تتويج.. عودة باريس بالتعادل لا تكفي لحسم اللقب ولكن    ملف يلا كورة.. أزمة صلاح وكلوب.. رسالة محمد عبدالمنعم.. واستبعاد شيكابالا    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    بشرى للموظفين.. 4 أيام إجازة مدفوعة الأجر    متحدث الكنيسة: الصلاة في أسبوع الآلام لها خصوصية شديدة ونتخلى عن أمور دنيوية    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    دهاء أنور السادات واستراتيجية التعالي.. ماذا قال عنه كيسنجر؟    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إحسان عبدالقدوس
سبيلة الفلاحة.. وإنفتاح على بابا.. وحذاء الملك فاروق وزيادة الأجور ودور الصحافة.. ومعارك عبدالسميع

أغرب ما فى هذه السطورهو نقطة بدايتها .. إذ تتعلق بواقعة شخصية مدهشة أضيفها إلى قائمة طويلة جداً مما يربطنى بالأستاذ إحسان عبد القدوس.
فقد تعود الأستاذ محمد حسنين هيكل فى كل المحافل التى جمعتنا فى أثناء فترات وجوده السنوى فى لندن، وقت عملى هناك أن يذكر عبارة- بعينها- كثيرا ما تأملتها، إذ كان يقول: «تعيين عمرو دا .. هوه أهم قرار أخذته عند مغادرتى الأهرام»..
وبالطبع فإن العبارة تشرف (على المستوى المهني) أى صحفي، ولكن ما شغلنى فيها ليس التكريم الذى تضمنه، وإنما (غياب الحقيقة) فى كلماتها.
إذ أننى دخلت «الأهرام» على يدى إحسان عبد القدوس- حين كان رئيساً لمجلس إدارة هذه الدار الصحفية العريقة- بعد سنتين من ترك الأستاذ هيكل لمقعد رئيس التحرير (عام 1974)، كما أننى لم أتعين، وإنما عملت لبعض الوقت، إذ كنت- وقتها- معيداً بقسم الصحافة بكلية اعلام القاهرة.
لقد أراد هيكل أن يضمنى إلى باقة كبيرة من مقتنياته البشرية ومن خلالها ينسب أى ناجح إليه، وكأن أحداً لا يمكن أن ينجح- فى الصحافة بالذات- إلا إذا ارتبط به وبات أحد عناصر الجوقة التى تحوطه وتتطوف به فى دائرة هو مركزها.
وحتى عندما كنت على وشك الفروغ من عملى فى لندن (عام 2000) والرحيل لتبوء منصبى الجديد مديراً لمكاتب الأهرام فى الولايات المتحدة الأمريكية، وحين راحت السفارات والصحف والجمعيات والاتحادات العربية والأصدقاء يقيمون لى حفلات وداع أو ما يعرف بإسم .. (Far Well Parties) – وقد بلغ عددها ثمانية وعشرين حفلاً- ، فإن هيكل قال لي:»دلوقتى يا أستاذ أنا مدعو لحضور أربع من حفلات وداعك، فأيها تحبنى أن أحضر؟» .. وكان أن اخترت دعوة جريدة (الحياة) التى وجهها الأستاذ جهاد الخازن، فقد كنت أعتبر «الحياة» هى واحدة من أهم وأمتع تجارب عملى المهني، كما رأيت الأستاذ جهاد الخازن أفضل من عملت معهم فى حياتى من رؤساء التحرير.
وفى الموعد المضروب ذهبت مع الأستاذ هيكل إلى ذلك الحفل، وتعالت الكلمات الكريمة من الحضور باللغة الإنجليزية تمنحنى محبة غامرة، وصداقة رائعة، وإحساساً بالرفقة والونس، وتعترف بإنجازى المهني، وبكفاحى الذى يتواصل حتى الآن وسط ظروف قاسية أحياناً وغير مواتية فى معظم الأحيان.
وحين قام صاحب الدعوة بطرق كأس فارغة بظهر يد شوكة طعام (فى تنبيه المدعوين إلى كلمة مهمة) إشارة إلى ما سيتحدث به هيكل، تعلقت الأبصار بالرجل وأنصتوا حتى كادوا يستمعون إلى رنين الإبرة .. وفى إنجليزيته الأنيقة قال: (London-would-not-be-the-same-after-Amr-Abdel-Samie) أى :«لندن لن تصبح هى نفسها بعد عمرو عبد السميع».
وبعد أن فرغ هيكل من كلمة مليئة بإطراء أشكره عليه حتى اليوم وبعد اليوم، كرر- للحضور- فى أثناء العشاء، نفس مقولته عن أن تعيينى فى الأهرام هو أهم قرار إتخذه عند مغادرته الأهرام!!
والحقيقة أننى لم أتعرف بالأستاذ هيكل شخصياً إلا عام 1978، بجوار ملعب الجولف فى نادى الجزيرة، وكان فى ذلك التوقيت محل تحقيق فى جهاز المدعى الاشتراكي، وهو ما جمع وثائقه- فيما بعد- بين دفتى كتاب عنوانه: (وقائع تحقيق فى جهاز المدعى الاشتراكي)
فى ذلك اليوم كنت أمارس رياضتى مع زميلى فى «الأهرام» الأستاذ شريف العبد، ولما لمحنا هيكل يأتى من بعيد ووراءه الكادى (الرجل الذى يسوق حقيبة ذات عجلات توضع فيها عصى وأدوات الجولف ويسير خلف اللاعب) خففنا للسلام عليه.
نهايته ..
فقد كانت تلك المعلومة المغلوطة التى حرص هيكل على تكرارها كلما التقانى وسط جمع من الناس، شيئاً يذكرني- دوماً- بالأستاذ إحسان عبد القدوس، وما أحسبنى فى احتياج إلى أن يذكرنى شئ بإحسان فهو حياتى كلها!.
مازلت أذكر حين رأيت إحسان- للمرة الأولي- مع أبى فى منزلنا وقت كنت طفلاً كيف تطلعت إلى فوق .. فوق .. فوق حتى أرى أبى وضيفه الحبيب يتبادلان حوارات ملؤها الحماسة (عرفت- فيما بعد- أنها أحاديث الصحافة والبلد والكفاح وبعض دفقات من تيار وطنى نشأ فى أحضان مجلة) وكان شعر إحسان أسود لامعاً والانسيال الذهبى يتدلى من معصمه، فيما يمسك سيجاراً كوبياً كبيراً بإصبعى يده، وقد مضى وقت طويل منذ ذلك المشهد، حتى وجدتنى أمامه- من جديد- فى منزله بالزمالك (بشعر أبيض ولكن بنفس الانسيال ومشهد السيجار)، أستمع إلى بعض ذكرياته، وأجرى معه أحد حواراتنا الصاخبة على كرسى أمام مكتبه الذى يعلوه تكوين تشكيلى بديع لوجه إحسان أبدعه الفنان رجائى ونيس.
شئ من التشابه جمعنى والأستاذ إحسان، فقد فرضت ظروف النشأة أن أجد نفسى مبكراً جداً بين عمالقة فى السياسة والأدب والفن، وكذلك هوه فقد كان- باستمرار- يذكر لى أنه نشأ فى قلب الوسط الفني، فأبوه هو الأستاذ محمد عبد القدوس ووالدته هى السيدة فاطمة اليوسف، وكان يقبل أيادى صديقات والدته مثل زينب صدقى أو دولت أبيض ويقول لكل منهما: (يا طنط).
ومن الطبيعى أن يحلم إحسان بأن يكون فناناً، وأن تعيش تلك الرغبة داخله، فمال- أحياناً- إلى أن يكون ممثلاً غير أنه استهول التجربة حيث راقب المجهود العنيف الذى يبذله والده فى التمثيل، وفكر أن يكون أديباً فعارضت فاطمة اليوسف ذلك على نحو شديد، لابل عاقبته - وهو فى سن الخامسة عشرة - حين كتب قصيدة منثورة اسمها : (أخيراً وجدها) وأرسلها للنشر- بدون توقيع- فى باب رسائل القراء، فلما فوجئ بنشرها، طار إحسان من الفرحة، وجرى على والدته ليخبرها بذلك الانتصار الكبير، فما كان منها إلا أن عنفته بشدة، ومنعت عنه مصروفه الاسبوعى (20قرشاً)، وصرخت: «لا أريدك أن تكتب مثل هذا الكلام الفارغ مرة أخري»، فقد كانت السيدة فاطمة اليوسف لا تريده إلا صحفياً.
أما أنا فقد كان أبى يرفض- بتاتاً- أن أصبح صحفياً ربما تحت وطأة شعوره بأن تلك المهنة وأخطارها السياسية بالذات سببت له متاعب أراد أن يجنبنى إياها .. وإن كنت قد صرت صحفياً بعد فترة تلكؤ أمضيتها فى ساحة الأكاديمية حتى أنفذ رغبة والدي، الذى خضع بعد ذلك لإلحاحى الجنوني، وطلب من الأستاذ إحسان أن يلحقنى بالعمل فى الأهرام.
على أى حال .. أصبح إحسان صحفياً كما أرادته والدته، ولكنه تسلل - بعد ذلك - إلى الفن من باب الرواية، التى قدم فيها للشاشة الكبيرة بعض أجمل أعمالها، وصار جزءاً من عالم السينما الذى كثيرا ما حلم به وهو يجمع- طفلاً-صور الممثلات الأمريكيات وبالذات أنجريد برجمان، وقد حكى لى الأستاذ إحسان- مرة- كيف كان يدخر- صغيراً- خمسة قروش كى يذهب إلى السينما سراً وكان ينتهز فرصة نوم أهل المنزل ظهراً، ويتسلل ليحضر حفلة الثالثة، ولكيلا يكتشفه أحد كان يخرج بالبيجامة، وقد عاتبه صاحب سينما (رويال) إحدى دور السينما فى وسط القاهرة قائلاً: «لا تأتى إلى السينما بالبيجامة مرة أخرى يا ولد».
بات إحسان إذاً- فناناً عبر طريق دائري- ليتجنب معارضة والدته لأن يكون أى شئ آخر غير (كاتب صحفي).
وفى أثناء تلك المناورة- إذا جاز التعبير- حاول إحسان الاقتراب من أشكال أخرى للتعبير الفنى ضمنها الشعر، وكان تلقائياً- كما أخبرني- فى كتابته للشعر، فلم يك دارساً لأصول الأدب، ولكنه اعتمد على جرس ووقع ما يكتب، أى أنه كان أديباً (سماعياً)، وكذلك كان فى (النحو) يعتمد على أذنه أكثر من اعتماده على الدراسة .. وذكر لى الأستاذ إحسان أنه كتب مرة قصيدة من تسعين بيتاً- وهو فى الثانية عشرة من عمره- وقام بعرضها على والده، الذى قرأها بدقة من يريد أن يكون ابنه أديباً فناناً حقيقياً، فشطب 86 بيتاً من القصيدة، وأبقى أربعة أبيات هي- فى رأيه- الأبيات الوحيدة (الموزونة)، وظل إحسان معتزاً بتلك الإبيات الأربعة، حتى كبر وأصبح صديقاً للشاعر مأمون الشناوى وأقرأه الأبيات، فشطب ثلاثة منها، وقال له ان البيت المتبقى هو الوحيد (الموزون)، وكان البيت يقول: (وعشت أنتظر اللقاء بحرقة .. حتى لقيتك دون سابق موعد)!
ظل إحسان يدور حول الفن، حتى حين بات كاتباً سياسياً مشتبكاً مع قضايا الكفاح الوطنى فى أكثر حالاتها اشتعالاً، إذ امتلأ بشحنة هائلة من الحماس، فلم يكتف بما كتب من مقالات، ولكنه أبدع روايات من الإلهام السياسى للمرحلة مثل: (فى بيتنا رجل) و(شئ فى صدري)، وحتى فى رواية (الحياة فوق الضباب) التى كتبها فى سنوات الرقابة على الفكر السياسى بعد ثورة يوليو فقد كان ذلك الهاجس الوطنى حاضراً، وإن راح يشحب فى أعماله الأدبية الأخرى التى غلب عليها الطابع العام وليس السياسي.
.....................................................
من كبرى النكبات الثقافية التى عشتها فى مصر مسألة تسييس وتصنيف وتنميط المبدعين وهى مسألة تبارى فيها بعض الجهلاء من مدعى اليسار، فوصموا توفيق الحكيم ومحمد عبد الوهاب والسيدة أم كلثوم بالرجعية، واحتفلوا باسماء أخرى لم يظهر أى منها على سطح الحياة العامة أو الاعتراف الجماهيرى رغم كل ما تلقوه من دعم سياسى وأيديولوجى من منظرى اليسار أولئك!.
وكان إحسان ضمن الذين نمطهم من أرادوا احتقار الحياة الأدبية والحياة العامة واعتقالها فى فصيل سياسى واحد، فوصفوه بأنه (أديب الفراش)، وبأنه رجل بعيد عن (الواقع الثوري)، لابل ومالوا إلى التشكيك فى قدرته على الصمود (شخصياً) فى أى معركة سياسية.
والحقيقة كانت غير ذلك تماماً، فقد خاض إحسان معارك صاخبة كبرى ضد السراى والإنجليز والأحزاب التقليدية القديمة، وإنضم إلى بعض التشكيلات اليسارية منها- مثلاً- منظمة السلام مع الفنانة التشكيلية إنجى أفلاطون، وقد جاء ذكر تلك الواقعة فى كتاب طارق البشرى (الحركة السياسية فى مصر) .. لم يجد إحسان غضاضة إذاً أن يكون عضواً فى توسعة كتلك رغم أنه ليس يسارياً.
كان إحسان متمرداً ولا يحب الانصياع الخانع للسلطة، وحتى حين قرأت مقالاته القديمة (أثناء إعدادى أطروحتى الماجستير والدكتوراه عن الكاريكاتير والتى كانت روزاليوسف ضمن عينة المصادر فيها) وجدت أن هاجس المعارضة هو الذى كان يسكن إحسان بأكثر من كل أولئك اليساريين الذين اتهموه بأنه «دلوع» بعيد عن الواقع.
هو نفسه إحسان الذى طالب بعودة الجيش للثكنات فى مارس 54، وهو ذاته الذى خاض معركة صاخبة ضد قوى الرجعية والجمود حين اعترضت على روايته (أنف وثلاثة عيون) فى البرلمان فانبرى مدافعاً عن حرية التعبير وسانده- شفهياً- أعضاء المجلس الأعلى للفنون (توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وآخرون).
هو- نفسه - إحسان الذى واجه اعتقال ابنه محمد ضمن حملة سبتمبر 1981 بشجاعة، وحين خاطبه السادات فى أحد اجتماعاته مع رؤساء التحرير، متسائلاً عن رأيه فيما فعل ابنه، ومنتظراً أن يسمع كلمة تراجع من إحسان (صديقه القديم الذى كان يستقبله فى روزاليوسف، وينشر بيانات الضباط الأحرار وقت المعركة السياسية الكبرى التى استبقت ثورة يوليو 1952) ولكن إحسان لم يتراجع، وقال وقتما عجز غيره عن القول: (محمد دلوقتى كبير يا ريس ويقدر يتحمل نتيجة موقفه).
وأذكر أننى دخلت مناقشة مع الأستاذ إحسان فى كابينته فى الاسكندرية حول موضوع تنميط اليسار له فأجابنى فى شهادة مسجلة: لقد امتلأت بمشاكل مجتمعى وعبرت عنها جميعاً حتى مجتمع الفلاحين الذين اعتبرنى بعض النقاد بعيداً عنه فقد عكسته فى الكثير من كتاباتى مثل: (علبة من الصفيح الصدئ) وأحسست أننى أعبر فيها عن مجتمع قريتى : (شبرا اليمن- كفر ممونة- مركز زفتي- محافظة الغربية فى أواسط دلتا النيل)، وعبرت ذهني- وقت كتابتى هذا النص أطياف وصور كثيرة - تنتمى لمجتمع تلك القرية بالذات، مثل جدى الشيخ أحمد رضوان أول أبناء العائلة فى الهجرة إلى القاهرة، الذى درس فى الأزهر وأصبح أحد رجال القضاء الشرعي.
ومن الشخصيات التى استلهمتها- كثيراً- سبيلة الفلاحة وقد كانت مسئولة عن رعايتى فى أثناء الاجازة التى أقضيها فى القرية وحتى الآن كلما كتبت قصة عن الفلاحين لا أجد سوى سبيلة اسماً لبطلتها.
وبمناسبة أسماء الفلاحين
فقد كتب الأستاذ إحسان مقدمة كتاب أبى الرسام العملاق عبد السميع (أبيض وأسود) الذى جمع فيه بعض رسومه/ الوثائق عن معارك الأسلحة الفاسدة والكفاح ضد الإنجليز والسراى والأحزاب التقليدية القديمة، لابل أزمة مارس 1954 ، والتى رافق فيها كاريكاتير عبد السميع مقالات إحسان ليقدما- معاً- مشهداً مجيداً لا ينسى فى تاريخ صحافة مصر.
وفى تلك المقدمة التى سطرها إحسان لكتاب أبى بعنوان: (من صميم الشعب) أشار إلى أنه استغرب اسمه للوهلة الأولى حين اكتشفه بعد أن أعجبته رسومه فى مجلة إسمها (الشعلة) 1946.
وقال إحسان مردداً الاسم: (عبد السميع .. يا حفيظ ..) ولكنه عدل عن الاستنكار حين تذكر أن اسمه هو (عبد القدوس)!
ولقد احترم إحسان رأى عبد السميع (الذى كان أول رسام يضع أفكاره لنفسه)، وفى أحد الحوارات الاستكشافية التى أجريتها قبل إعدادى للماجستير وقد أجريتها مع أحمد بهاء الدين وكامل زهيرى ومحمد حسنين هيكل والدكتور حامد ربيع والأستاذ صلاح السقا وإحسان
قال لى الأخير: (لم تك روزاليوسف داراً غنية وقد تعودت الدور الثرية خطف رسامينا مثلما فعل التابعى مع صاروخان وفعل على ومصطفى أمين مع رخا، وقد احتل عبد السميع مكانة خاصة فى روز ومع ذلك فقد تركنا فى الخمسينيات إلى الأخبار مع على ومصطفى أمين ثم إلى جريدة الشعب مع صلاح سالم)
وضمن تلك (الوضعية الخاصة) ما أخبرنى به كل رفاق المرحلة عن أبي، واختصاصه بإحدى الغرف الثلاث فى دار روزاليوسف (كانت إحدى الأخريين لإحسان والثانية للست فاطمة اليوسف) بينما كان كل المحررين يجلسون فى صالة التحرير، وربما كان ضمن الوضعية- كذلك- الخاصة قاعدة رخامية جميلة تصلح لوضع تمثال أو فازة أهدتها الست روزاليوسف إلى أبى فى عيد ميلاده، ومازلت أحتفظ بها فى منزلى حتى اليوم، وكانت تلك القاعدة مثار تعليقات لأصدقاء أبى من نجوم روزاليوسف، لأن الست فاطمة اليوسف كانت (حريصة) إلى حد كبير، ومن ثم فقد اعتبروا هديتها لعبد السميع شيئاً يؤرخ به.
المقصود أن الست فاطمة كانت محبة لأبي، وذكرت لى والدتي- رحمها الله- أن روز اصطحبتها يوماً إلى دار سينما وأهدتها شالاً جميلاً أحمر، وأن بلاسيرات السينما كانوا يتسابقون على خدمة الست فاطمة ووضع (باف) أو كرسى منخفض صغير دون ظهر، لتضع قدمها عليه بسبب معاناتها النقرس.
ولقد ظلت العلاقة التى ربطت أبى بإحسان عبد القدوس دليلاً يخبرنى عن شكل المشهد الصحفى والوطنى أيام كانت هناك صحافة، وأخشى أن أقول أيام كانت هناك وطنية.
مازلت أذكر التأثر البالغ الذى اعتلى ملامح إحسان حين زار أبى فى مرضه الأخير بمستشفى القوات المسلحة، قبل أن يبدأ (خطوة أخري) وربما أخيرة فى رحلة حياته.
ومازلت أذكر ما واسانى به إحسان فى سرادق عزاء والدى عام 1986، متمتماً- بلدغة الراء الشهيرة التى علمت نطقه وتعبيره - : «عبد السميع ده .. كان عمرى كله .. بل أجمل عمري»!
................................................
فى برج الدور السادس بجريدة الأهرام، حيث كانت مكاتب كبار الأدباء والمفكرين (نجيب محفوظ- بنت الشاطئ- توفيق الحكيم- زكى نجيب محمود)، وحيث تعود بقية أهل الضفة الأخرى من الدور السادس (يوسف إدريس- ثروث أباظة) أن يعاودوهم للمجالسة والمحاورة.
كانت هناك غرفة على يسار مدخل برج ذلك الطابق، وعرفتها- طالباً- وقتما دخلت «الأهرام» للمرة الأولى ملبياً دعوة أستاذ مادة (التحرير الصحفي) فى كلية إعلام القاهرة، والذى علمنى أشياء كثيرة جداً ضمنها تلك الصحافة، أعنى الأستاذ جلال الدين الحمامصي.
كان جلال الحمامصى قيمة كبيرة ولقد أخذ بأيدينا إلى طقس ما أسميه (الطابع الرسالى لمهنة الصحافة) وحين قرر علينا فى السنة الثالثة من دراستنا كتابه (الصحيفة المثالية) كنت دهشاً من أن معظم الأمثلة- التى أوردها فى الكتاب عن الأخطاء المهنية الكبري- هى ما وقعت فيه جريدة «الأهرام»، وربما كان ذلك درسا إضافيا تعلمته من جلال الحمامصي، وأعنى (الموضوعية) وعدم الانحياز القبلى أو العشائرى الأهوج لمؤسستي، وإنما الارتباط بالقيم (المهنية) الصحيحة وإدانة الخطأ أينما وقع، وبالذات فى جريدتي.
وحين انتقل جلال بك إلى الأخبار بعد عودة على ومصطفى أمين، صار ساكن الغرفة التى عليها الكلام فى الدور السادس بالأهرام، هو الأستاذ إحسان عبد القدوس، وهناك دار بيننا- مرة- حوار عجيب عن رواياته، وكيف شاع وذاع عنه أنه يكتبها عن حكايات حقيقية، وعن سير أبطال واقعيين.
ويومها ضحك إحسان وقال: (قصص الحب فى رواياتى ليست قصصاً حقيقية ولكنها قد تكون من وحى قصص حقيقية، فأنا أصنع هذه القصص وأتخيلها من إلهام بعض عناصر الواقع الذى أراعيه فى كل ما أكتب بصفة عامة .. وقد قالوا- مثلاً- ان بطل رواية «وعاشت بين أصابعه» هو أستاذ كبير، ولكن تلك الرواية كانت من وحى حكاية هذا الأستاذ الكبير مع إحدى المطربات، وكل أحداث القصة وشخوصها وتحليلها- بعد ذلك- لا علاقة لها بالأستاذ الكبير، فليس معنى بحثى عن الواقع أن أنقله بحذافيره وإلا كنت أقوم بعمل الصحفى وليس الأديب .. التكوين الفنى للأديب يأتى نتيجة اختلاطه بالناس ودراسته للشخصيات التى قد توحى له بموضوع قصة وليس بتفاصيلها .. أنا أصنع وأتخيل كل قصص الحب أكتبها)
ومع ذلك ورغم كلمات الأستاذ إحسان فقد كانت القاهرة- كلها- تثرثر فى مجالسها عن بطل رواية (وعاشت بين أصابعه) ورآه الكثيرون الأستاذ كامل الشناوي، أما المطربة فقد قال لى الأستاذ أحمد بهاء الدين مرة (كنا- وقتها- نعد لإصدار مجلة الشموع) أنها اتصلت به غاضبة، وطلبت منه التدخل، لأن البلد كله يتحدث عنها بسبب رواية إحسان، وأن ذلك الكلام لا يجوز لأنها كبرت، وصار ابنها شاباً كبيراً، وقد نصحها الأستاذ بهاء بالتوقف عن إثارة ذلك الموضوع تماماً حتى (يموت)، وكذلك الإقلاع عما كان يراودها من أفكار إقامة دعوى قضائية.
والحقيقة أن مسألة نظرة الجمهور المصرى للحكاية الروائية الواقعية على أنها حقائق وأنها تتناول سير شخصيات حقيقية هى مسألة عجيبة، ربما جاءت تأثراً بنسق ثقافى سائد يرى فيه الفلاحون أو أبناء الطبقة الشعبية أن أبطال المسلسلات هم شخصيات واقعية، وقد استشرى ذلك الفهم حتى عند الطبقات المتعلمة نظراً لمحدودية الفهم الثقافى السائد، وعدم إدراك طبيعة الإبداع ومستوياته وعملياته المتشابكة المعقدة، وقلة التعرض للأعمال الفنية والروائية العالمية التى ينبغى أن يتعلم الناس منها أساليب (التعبير الأدبي).
وقد استرجعت هذا المعنى مؤخراً، حين أخبرنى أحد أساتذة الإعلام الكبار أن واحدة من طالباته تود إعداد رسالة للماجستير عن (صورة الصحفى فى الرواية عند موسى صبرى وفتحى غانم وعمرو عبد السميع وإبراهيم عيسي)، وقد أخبرته عن خطة حديثى إليها قبل أن تبدأ البحث والتى تقوم على عدم رغبتى فى إجابة أسئلة من نوع :من الذى كنت تقصده ببطل روايتك «الأشرار» الصحفى صبرى عكاشة، فأنا لم أتقصد شخصاً بالذات، كما لا أبغى القفز- قبل بداية البحث- إلى تعميمات من طراز أن ما ظهر فى أعمال الأدباء الأربعة هو ما يمكن وصفه بأنه (صورة الصحفي) ولكنه تعبير عن بعض أنماط الصحفيين.
وعلى أى حال .. فإن تصور بعض الناس عن (حقيقة) الشخصيات الروائية يظل ظاهرة- فى تقديري- معبرة عن الحالة النفسية والمزاجية فى المجتمع والمفعمة بالترصد والرغبة فى السخرية والإيذاء والتجريس والنيل من الخصوم أو المنافسين.
ولقد كانت أكثر المقولات إثارة لدهشتى حول روايتى (الأشرار) هى ما وجهه محمد حسنين هيكل لى من تساؤل حول ما إذا كنت أقصده- شخصيا- ببطل تلك الرواية، وقد غلب غلبي- يومها- وأنا أشرح لهيكل أن الشخصية الروائية هى خليط من رؤى وتجارب وصور وشخصيات وأفكار وفلسفات ووقائع، ولا يمكن لأى أديب حقيقى أن يجزم أين- بالضبط- يتشابه هذا الجانب أو ذاك من الشخصية الروائية مع عناصر شخصية حقيقية هذا إن وضع الروائى يده عليها والأرجح أنه لا يدركها إذا كان أديباً حقيقياً.
.............................................
كان رأى إحسان فى شكل المشهد السياسى فى الثمانينات ومطلع التسعينيات يختزل نفسه فى مقولته التى أخبرنى فى حوار مسجل عام 1988 وهي:
«لم نعد نعيش فى (قضايا) وطنية ولكننا نعيش (حالات) سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية .. الحالة تقتصر على دفع الأفراد إلى التصرف لحل مشكلاتهم، أما القضية فتقوم على تحريك المجتمع كله لحل مشكلاته .. حينما يعيش (حالة) تسود روح الفردية، ولا نشعر فى مجال الاقتصاد- مثلاً- أن الشعب كله يحمل المسئولية، ويسود مبدأ (كل واحد وشطارته) ويصبح الاعتماد على الحكومة وليس الشعب هو أساس التصدى لأى أزمة أما حين نعيش (قضية) فإن كل إنسان على أرض الوطن يجب أن تنتظمه دعوة عامة كبرى تكون وسيلته ووسيلة مجتمعه للخلاص الوطنى .. وعلى سبيل المثال نعرف- جميعاً- أن إنقاذ الوضع الاقتصادى يعتمد فى الأول والآخر على زيادة الإنتاج، والطريق إلى أن تكون زيادة الإنتاج (قضية وطنية) وليست (حالة) أن نصل إلى إقناع الجماهير بزيادة ساعات العمل دون زيادة الأجور، ولكن لأن الحكومة تعودت على أن تواجه (حالة) فهى تلجأ للحل السهل الذى لا يكلفها مشقة الدعوة الشعبية بالإقناع، وهو زيادة الأجور والرواتب، وبالطبع لأن تلك الزيادة لا ترتبط بالإنتاج، فإن النتيجة هى خفض قيمة الجنيه .. وياليت إحسان كان بيننا الآن ليشهد كيف لجأت الإدارة إلى الحل السهل ولكن بالانصياع لابتزاز الوقفات الاحتجاجية والتهديد بتعطيل العمل، وهو ما أدي- كذلك- إلى تآكل قيمة الجنيه!
كان إحسان الذى انشغل بعض مستثقفى اليسار بتنميطه وتصنيفه على أنه (غير تقدمي) أكثر تقدمية منهم جميعاً حين قام- مرة- بتوصيف طبقة الانفتاح لي:
«طبقة الانفتاح تشبه جماعة من الناس اكتشفت مغارة على بابا، وأقبلت على ما فيها من ذهب وفضة وياقوت ومرجان، وهى تشعر ألا صاحب لتلك المغارة، وتلك النفسية لا تخلق مبادرة وطنية، بل تخلق انحرافاً عن الوطنية»
كل آراء إحسان التى حاورته فيها تبدو صالحة للقراءة اليوم، وبالذات ما يتعلق بدور الصحافة الذى يحاول البعض إكتشافه من جديد كمثل اختراع العجلة .. وعنه يقول:
«إذا كنا نتكلم عن (دور) الصحافة فيجب أن نتحدث عن (مجال) ذلك الدور.
الوضع الشعبى العام أو حتى الوضع الحكومى العام يفرز حالات من السخط تزداد فى أوقات الأزمات.
وحين يمارس المجتمع سخطاً عاماً تجاه أمر أو سياسة أو وضع فهو يفعل ذلك بغنيه وفقيره .. وفى هذه الحالة فإن الصحف القومية تعبر- أحياناً- عن السخط ولا تستطيع أن تنكره، فهى قد تنكر النواقص والأخطاء ولكنها لا تستطيع إلا أن تعكس الروح العامة .. هنا يأتى دور الصحافة الكبير فهى القادرة على ترجمة روح السخط التى تعترى المجتمع فى وقت ما، أو تجاه سياسة ما، أو توجه ما لتقوم بترجمتها إلى قضايا وطنية شعبية جماعية شاملة وهى تسعى للتحرك الإجابي، ولا تمارس فى سخطها لوناً من ألوان التحرك السلبي»
.....................................................
تأمل ذلك الفهم الذى رآه إحسان عبد القدوس للصحافة يشى بأنه كان الدافع إلى الجسارة التى تحلى بها هذا الرجل سواء فى تحديه للسلطة السياسية عند الملك أو ناصر أو السادات أو تحديه للسلطة الاجتماعية المتمثلة فى التزمت الرجعى الكبير و(التابوهات) المقدسة والمغلقة التى فرضت على أحلام الناس ومشاعرهم حتى جاء إحسان أو من هم مثله ليخترقوا الممنوع، وقد فعل بروايات جسورة، أذكر أن بنات عائلتى كن يقرأنها فى الحمامات من فرط ما كان فيها مما يعد اختراقاً لما استقر عليه المجتمع من قيم متخلفة ورجعية ثم إن إحسان عبد القدوس تحدي- كذلك- سلطة الأعراف الأدبية والنقدية السائدة، حين صاغ رواياته على غير السائد والمألوف فى أدب زمانه وأوانه، وربما كانت آية ذلك عناوين رواياته التى كانت غريبة جداً قياساً على ما استقر عليه الناس والمبدعون وتعارفوا .. (لا أنام) .. (القضية نائمة فى سيارة كاديلاك) .. (أنا حرة) .. (فى بيتنا رجل) .. (الرصاصة لا تزال فى جيبي) .. (حتى لا يطير الدخان) .. (لا تطفئ الشمس) .. (لا شئ يهم) .. (النظارة السوداء) .. (الخيط الرفيع) .. (وعاشت بين أصابعه) .. (إمبراطورية ميم) .. (صانع الحب) ..
لابل أجازف وأقول ان إحسان أسس لمدرسة جديدة فى كتابة العناوين الروائية التى كثيرا ما حاول بعض منتقديه من النقاد أو الأدباء مدعى اليسار أن يستلهموها أو يستنسخوها رغم انتقادهم له.
المهم أن الشجاعة فى تحدى سلطات الاستبداد (السياسى والاجتماعى والأدبي) كانت المحرك الذى شكل ظاهرة إحسان الأدبية.
وعن تلك الشجاعة قال لى الأستاذ إحسان عبد القدوس:
«حين ذهبت بروايتى (أنف وثلاثة عيون) إلى مجلس الفنون الأعلى حتى أستطلع رأيه فيما اعترض عليه أعضاء البرلمان وبعد ما أمضى أعضاء المجلس ساعتين فى امتداح الرواية وتأكيد أنها لا تحتوى على ما ينبغى حجبه أو منعه، طلبت من توفيق الحكيم- بوصفه رئيس الجلسة- أن يكتب لى ورقة تحمل ذلك المعنى حتى أحاجج أعضاء البرلمان المعترضين، وإذا بالرجل يصدمنى حين قال- بعد تردد- (لا أستطيع أن أكتب هذه الورقة لأننى لا أعرف ماذا تريد الحكومة، وقد يكون وراء روايتك شئ ما!) .. وهذا دليل على أن جميع المؤسسات فى الدولة بما فيها المؤسسات الفنية كانت خاضعة للحكومة .. ماذا تريد الحكومة والجميع خدم لما تريد!!»
وفى موضع آخر من ذات الحوار ذكر لى إحسان شيئاً عن والدى فقال:«الكاريكاتير يصبح لا معنى له إذا فكر الرسام لحظة فى الموانع، وإذا تحسب للتداعيات التى تترتب على ما يرسمه فإن إبداعه لن يكون كاريكاتير وإنما سيكون أى شئ آخر .. وقد كانت لأبيك شجاعة كبيرة فى إبداء رأيه، حتى أننى فوجئت- شخصياً- حين اخترع رمزاً ثابتاً يكرره فى رسومه، يشير فيه للملك فاروق على أنه حذاء يمعن فؤاد باشا سراج الدين ومصطفى باشا النحاس فى تلميعه .. وقد صار الحذاء الذى يرمز إلى الملك فى رسوم عبد السميع بروزاليوسف حديث البلد كله.. تلك الشجاعة هى التى أقصدها فى حديثى عن العمل السياسى أو العمل الصحفي، والفارق بين توفيق الحكيم فى حالة (أنف وثلاثة عيون) وعبد السميع فى رمز (حذاء الملك فاروق) أن توفيق الحكيم خاف وعبد السميع لم يخف»!!
......................................................
الشجاعة والبحث عن فكر جديد وجيل جديد كانا- بالضبط- السمتان الأكثر حضوراً فى شخصية إحسان، ولعل نظرته إلى إجيال (كانت صاعدة) من الفنانين هى التى عكست شخصيته وهاجس التجديد الذى تلبسه.
وقد قال لي- مثلاً- عن الغناء:
«عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم وسيد درويش- قبلهم- كانوا يقيمون بناء موسيقياً جديداً، وهذا هو تميزهم الحقيقي، أما- الآن- فلا توجد موهبة كبيرة يمكن أن تدفع إلى شئ جديد .. عبد الوهاب وعبد الحليم قدما الجديد ذا الإيقاع السريع، ولكن فى وسطه نجد لمسة (طرب) حقيقية مثلما حدث فى (جفنه علم الغزل) أو (صافينى مرة).
ما شد الناس إلى عبد الحليم هو (شخصية صوته) وليس (جمال صوته)، أما اليوم فلا أستطيع تمييز المطرب الذى يغنى فكلهم بلا شخصية» .
وقد تستعجب كيف عرفت عبد الحليم .. جاءنى مرة صديق صحفى هو فوميل لبيب، وقال لى يا أستاذ إحسان، هناك مطرب جديد ممتاز أودك أن تسمعه، وكنت- وقتها- فى اجازة بالاسكندرية، فقلت له: يا فوميل لا أريد أن أسمع أحداً .. أنا هنا فى اجازة .. فقال لي: إذن قابله دون أن تستمع إليه وجاء عبد الحليم لزيارتي- بالفعل- ولم يغن بل جلس مع الأولاد فى الكابينة، إلى أن سمعته- بعد ذلك- بالمصادفة فى أغنية (صافينى مرة) فلفتنى بشخصيته الغنائية، وبدأت أبحث عنه بعد أن كان يبحث عني.
شخصية المبدع هى أخطر ما يحدد مكانته الفنية، وأحمد زكي- مثلاً- هو أكثر ممثل أعجبت به، فله قدرة خطيرة على الأداء، وهو يمثل- بوضوح- الانقلاب الذى حدث فى مفهوم الفتى الأول، وقد طلب منى أن أعطيه قصة (الحياة فوق الضباب)، وهى قصة سياسية صعبة، فأعطيتها له بترحيب كبير جداً، لأن شخصية ذلك المبدع تترك فى نفس من يتابع أداءه أثراً لا يزول.
.............................................
لم يك احسان يقبل أن يكون الوطن- أبدا- بلا قضية، أو أن تكون قضيته (نائمة فى سيارة كاديلاك) ولذلك قال فى أحد أهم حواراته معى :
«اعتمادنا على رؤوس الأموال الأجنبية، وتطرفنا فيه، هو من المؤثرات الخطيرة على كياننا ومستقبلنا الوطني، فحين يكون رغيف الخبز (أمريكاني) يصبح علينا أن نتبنى جميعاً (قضية وطنية) تقول: «رغيف مصرى لكل مصرى ونتحرك كلنا من أجل تلك القضية».
وقال فى حوار آخر:
«قضية التجديد لابد أن تكون عنوان حياتنا السياسية، وأنا أعتقد أن كل الأحزاب القائمة تمثل الماضى (كان ذلك عام 1988) ولا تمثل الواقع أو المستقبل، فالعقليات التى تقود تلك الأحزاب تعيش وتستغرق فى الماضى تماماً، بل إنها مرتبطة ومقتنعة بالأسلوب السياسى والحركى القديم .. لا ألمح جيلاً جديداً عاش الوضع فيما بعد الثورة ثم نجح فى تولى مسئولية حزب يسعى للوصول إلى الحكم .. كل نجوم الساحة من عواجيز الماضى .. كلهم .. والذى يجب أن يتولى المسئولية الحزبية هو الجيل الجديد .. ولكن ما يجب أن يفهمه الجميع أن هذه المسألة ليست قضية سن ولكن ما أعنيه هو سيادة العقلية المفكرة للجيل الجديد»
................................................
نعم .. أشعر كلما تصفحت أوراقى أو شرائط التسجيل التى تحتوى آراء الأستاذ إحسان عبد القدوس أنها بنت اليوم .. طازجة .. حقيقية .. مستقبلية .. تقدمية .. أكثر بكثير جداً من مدعى اليسار الذين أرادوا تنميطه، ومن ثم فقد شرفني- ومازال- أن يكون رئيس المؤسسة الذى قدمنى إلى عالم الصحافة ذات يوم من 39 عاماً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.