لئن كان صِدْقًا ما قيل عن المتنبِّي من أنه زرجل ملأ الدُّنيا وشغل الناسس فإن المقولة ذاتها ربما كانت أكثر صدقًا عن ابن تيمية، ذلك الذي عاش عصرًا مُدْلهمَّا بالخطوب الجسام ، وقضى حياته يخوض غمارها ما بين جهادٍ للتتار، ومٍحَن متعاقبة، وأسفارٍ متتابعة، وجدل عنيف لم ينقطع بمماته في منتصف القرن السابع الهجري، بل استمرت آراؤه تثير أعنف الجدل حتى عصرنا الراهن، فما من نَابِتَة من النََّوابت الشاردة في زماننا هذا إلا وَجدْت فيها أثارة من تلك الآراء، انتماءً، أو انتسابًا، أو تحريفًا!! وربما كان الركن الركين لمواقف ابن تيمية الفكرية المختلفة جميعًا: مَوْقفُه التأسيسي الرافض «للتأويل» في الصفات والأفعال الإلهية الواردة في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة، كاليد والوجه والاستواء على العرش وغيرها، وإصراره العتيد على فهمها بظاهرها الحرفي وحده، وبمقتضى تكوينها اللفظي بمفرده، رافضًا أن تُفهَم فهمًا مجازيًا تتيحه اللغة العربية، وتسيغه العقول والأفهام، ومن ثمَّ فقد كان من أبرز الرافضين لوجود «المجاز» في القرآن الكريم، بل إنه لَيُسارع إلى اتهام من يفهم تلك الصفات والأفعال الإلهية فهمًا «عقليًا» استلهامًا من جماليات اللغة العربية، واستمدادًا من أساليبها التعبيرية: بالتحريف والتبديل، وبأنهم زممن في قلوبهم «يغ» موصدًا الباب جُملةً أمام الفهم العقلي الذي ينفذ إلى دلالاتها القويمة، ومعانيها المستقيمة، وموصدًا الباب ذ من باب أوْلَى ذأمام الاستلهام الروحي البصيري الذي تستشعره القلوب إزاء القرآن الكريم، فتَتَبدَّد به كثافة المادة، وقتامة الحُجُب!! ولا تظنَّن أن هذا المنهج «الحرفي» الرافض للفهم العقلي يقف بمن يتبعه عند حدود النص القرآني وحده، بل إنه ليذهب بأصحابه إلى أن تصير «الحَرْفية» لديهم «منهج حياة» و«مَنْظُور رؤية» ينظرون من خلالها إلى سائر شؤون الكون، وأبعاد الوجود، فتتوقف ذواتهم الباطنة عند المظاهر والسطوح، وتنأى بهم بعيدًا عن الأعماق والآفاق، ولو أنك أَرْجَعت البصر، وأمعنت النظر فيمن يضطلعون بإرث تراث ابن تيمية في عصرنا هذا: لوَجَدْت آثار هذا المنهج بادية لا تخطئها الأعين، مسلكًا، ومظهرًا، ومَخْبرًا، ولَوَجَدت أن هذا «الِّرتاج» اللفظي السميك قد أَغْلق أمامهم آفاق العقل، وأَوْصد فضاءات الروح، فلم يبق لديهم سوى اتجاه أحادي متصلب، يَعِجَّ بمفردات متشنِجة من التكفير، والتشريك، والتبديع، والتفسيق، فَمنْظُور الرؤية «الحرفية» لا يتسع إلا لهذه المفردات، ولا يركن إلا إليها!! أما القضية الثانية عند ابن تيمية فهي مرتبطة بسابقتها بأوثق العرى، ذلك أن مضمون «التوحيد» البسيط الذي دخلت منه عامة الأمة منذ عصر النبوة إلى ساحة «الإيمان» الرحبة يكمن: في الإقرار بحقيقة واضحة ساطعة: وهي الإذعان الباطني، والتصديق القلبي والعقلي بصدق الألوهية، وصدق الرسالة، فهذا «المفهوم - العميق البسيط -في آنٍ معًا: هو مضمون «الشهادة» التي هي أصل أصول الإيمان، وهو أيضًا ما تكفّلت المدرسة الأشعرية على امتداد تاريخها: بالتأسيس العقلي والتأصيل الشرعي له، بل إنه ذلك المفهوم الذي صان للأمة سلامة إيمانها ونَصاعة اعتقادها، بل وسلامها الاجتماعي أيضًا، إذ أنه قَصَر دائرة الشرك والكفر على مَنْ «جحد» الألوهية، والرسالة بقلبه وعقله، وأنكرها بمجامع ذاته وكيانه، وهي دخائل لا يطلع عليها إلاَّ علاَّم الغيوب!! أما ابن تيمية فإن منهجه الحرفي اللفظي آنف الذكر: قد جعله يستبدل بذلك التوحيد البسيط اليسير: توحيدًا مركَّبًا ذا ثلاث شُعَب: هي ما أطلق عليه: توحيد «الربوبية» وتوحيد «الألوهية» وتوحيد «الأسماء والصفات» وفي كلٍّ منها تفصيلات، ومُنْعَرَجات، واشتراطات شتّى تَحَوَّلت «بالتوحيد» من البساطة إلى التعقيد، ثم إذا بآخرين - من تابعيه يضيفون إلى ذلك مفاهيم أربعة، مَثْقَلةً بحمولات فكرية وحَركيْة، تنوء هي الأخرى بمفاهيم مَثْقَلةٍ أيضًا عن: (الإله، والرّب، والعبادة، والدين)، وبهذا أمسى مفهوم التوحيد البسيط اليسير على يدي ابن تيمية ومن اقتفى أثره: مفروشًا بأشواك التكفير والتشريك، فانفتح الباب واسعًا أمام دعاوَى الخروج عن الملة، واستحلال الأموال والدماء، ثم أُضيفَت إلى ذلك قضية «قتال الطائفة الممتنعة» التي استغلتها الجماعات التكفيرية الشاردة لتمارس التكفير ممزوجًا بادِّعاء الجهاد، وما بالهم لا يفعلون، وقد أُصِّلت لهم الأصول وأُسِّسَت لهم القواعد؟؟!! ثم خَلَف من بعدهم خَلْفٌ- من تابعي تابعيه - يضيفون إلى تلك الحمولات المَثْقَلة: ما أسموه «فقه الديار» حيث انشطرت خريطة العالم في أعينهم شطرين: دار حرب وكفر، ودار إسلام وأمان، لا تشمل إلا ما ساده سلطان الشرع وحده!! بيد أن مسيرة ابن تيمية المتدفقة لم تتوقف عن هذا الحد البئيس العنيف، بل إنه قد عاد بعد هذا الزخَم المتراكم من عنف الفكر ليسلك طريقًا يشبه أن يكون نقيضًا لهذا العنف، وأعني به موقفه الذائع الصيت من «القول بفناء النار» فإذا بنا أمام رجل مختلف جد الاختلاف، ذي مزاج رحيم ولهجة متفائلة، وقلب فضفاض، وإذا به يسير في هذا الاتجاه مع إدراكه بأن موقفه هذا قد يخالف موقف جمهرة السابقين القائلين بأبدية النار ودوامها وبقاءها، كما يخالف الظاهر الحرفي للنصوص القرآنية التي تقرر كون أهل النار لهم فيها دار الخلد أبدًا: «كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا»، بل ولا يجد حرجًا من «تأويلها» وكأنه لم يكن يوما منكرًا للتأويل، ثم لا يتوقف هو أو الناطقون عنه عن ترداد الآيات والأحاديث التي تشيع التفاؤل، وتتحدث عن الرحمة والإحسان، بل ومظاهر الجمال في الكون مثل قوله تعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»، أو ما ورد في الحديث القدسي:بإن رحمتي وسعت غضبي، «فإذا كانت النار مَوَجب غضبه، فإن الجنة مَوَجب رحمته»، ورحمته سبحانه وسعت كل شئ، ورحمته تعالى سبقت غضبه، بل إنك لتجد لديه - ولدى الناقلين عنه من مريديه- باعثًا حثيثًا على التفاؤل، «فليس من حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين» كما يضيفون - أن يخلق قومًا يعذبهم أبد الآباد عذابًا «رمديًا لا نهاية له». ثم أقول: هل يمكن لتجربة كتجربة ابن تيمية هذه بثرائها وخصوبتها أن تبعث في طوائف العنف في مجتمعنا المعاصر ضربًا مشابهًا من المراجعة والتريث، رفضًا للتكفير ونأيًا عن العنف، وأوْبَة حميدة إلى سعة المرحمة، ونسيم الروح؟؟ هل يمكن لتجربة كتجربة ابن تيمية هذه ذ سواء في غربته أو أَوْبته - أن تبعث في ذواتهم أسئلة وجودية مصيرية عن «القيم المطلقة» التي أمرنا بها الإسلام من الرحمة، والإحسان، والبر، والعدل، وسائر القيم السامية الرفيعة؟؟ هل يمكن لمثل هذه التجربة أن تضع أمام أعينهم نموذج «عباد الرحمن»: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماًب؟» هل يمكن لتجربة مثل هذه التجربة أن تنزع من نفوسهم «غرائز الموت» و«غرائز الكراهية» و«غرائز العنف» وتزرع مكانها «فقه الحكمة» و«العدل» و«المرحمة» بدلاً: من «فقه الديار»؟ لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى