كثيرون منا لا يكادون يعلمون عن الاتجاه الأشعري في التفكير الاعتقادي, ذلك الاتجاه الفريد الذي أرسي لبناته الإمام أبو الحسن الأشعري في القرن الثالث الهجري, وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي من بعد, والذي يؤسسن في جوهره, لرؤية كونية شاملة للعالم والإنسان جميعا, ولعالمي الغيب والشهادة بأسرهما, ثم ترق تلك الرؤية حتي تبلغ عالم الوجدان وآفاق الروح, ثم تتكثف حتي تلامس الواقع البشري المرئي الملموس. كثيرون منا لا يكادون يعلمون عن هذا الاتجاه الأشعري برغم أن المصريين بعامة يستبطنون هذا النهج, ويتشربون رحيقه سواء في تفاسير المفسرين, وشروح المحدثين, وتدقيقات الفقهاء والأصوليين, وفي إسهامات النحاة واللغويين, وفي مواجيد الصوفية والذوقيين, دون أن توضع علي ذلك كله لافتة' الأشعرية', أو عنوانها, أو شارتها, علي حين أن ثمة اتجاهات أخري تقف من هذا الاتجاه موقف الخصومة المستعرة, بل العداء التاريخي, كالتيمية والوهابية والسلفية المدعاة والتشيع وغيرها تظفر بالرواج والذيوع, تدعمها طفرات ثراء باذخ تارة, وتظاهرها دعاوات ودعايات تارة, وتروج لها سطحية فكرية تستهوي البسطاء وتجتلب الدهماء تارة أخري!! قضايا ثلاث من صميم الاتجاه الأشعري يمكن استخلاصها من عجينة السلوك المصري الخالص تتآزر تآزرا عضويا مع شخصية مصر ذات المكونات الفريدة التي صهرت في بوتقة التاريخ والجغرافيا معا, وفق معادلة الموقع والموضع, بحسب ثنائية جمال حمدان الذائعة الصيت, بحيث يحار المرء من أي الضفتين تكون نقطة الابتداء, هل تكون من إطار شخصية مصر, أو من أصول الاتجاه الأشعري؟! أولي تلك القضايا هي' مفهوم الإيمان' فمن أبرز سمات الاتجاه الأشعري التأكيد علي أن هوية الإيمان وجوهره هو' التصديق' بالله تعالي وبرسالة رسوله( ص) فماذا يكون' التصديق' إلا' اليقين' العقلي والقلبي الداخلي الباطن بصدق الألوهية وصدق الرسالة؟. إنه, أي التصديق, تيار جارف من فعالية العقل والقلب والشعور جميعا, ولا شئ أصدق تعبيرا عن جوهر الإنسان من هذه الفعالية, حيث يمارس العقل والقلب والشعور فعل' التصديق' بالحرية الذاتية علي امتلاءها وتمامها, ومن ثم فإن نطق اللسان وأعمال الجوارح والرسوم والأشكال بأسرها ليست سوي' أمارات' و'علامات' علي رسوخ هذا اليقين في الذات البشرية وانغراسه فيها, ثم انعكاسه بعدئذ علي السلوك الظاهر, والعمق الباطن, متجسدا في طهارة جوارح الإنسان, وجوانحه جميعا!! تبعا لهذا التصور' الجواني' للإيمان النابع من التصديق وفقا للاتجاه الأشعري تتسم الذات البشرية حين تؤمن: بالصدق المطلق, وتتنحي المظاهر' البرانية' الشكلية عن أن تكون بمفردها- معيارا وحيدا' للقيمة' أو مرتكزا أحاديا للتقويم, ويصبح الحكم الأصدق والأرفع: هو صدق الذوات الباطنة وطهارة الأعماق المستكنة, ومن ثم ينفر الفكر الأشعري أصولا وفروعا من التكفير, ومن كل ما يشتم منه رائحة التكفير, رافضا رفضا مطلقا كل الانحرافات التكفيرية التي تعاني منها الأمة قديما وحديثا, والتي خرج بعضها علي الأمة المسلمة, يقتل برها وفاجرها, فإذا بالإسلام ذاته وقد اصطبغ, بتأثير تلك الانحرافات, بلون الدم القاني, واتسم بسمة العنف المقيت, وهو من كل ذلك براء. علي الضفة الأخري, فإن شخصية مصر, بطبيعتها النهرية الفيضية, لا تعرف إلا' الصدق' مع' جوانية' الذات, فتلك الطبيعة لا تخفي هدوءها وسكونها, كما لا تخفي ثوراتها وهباتها.. إنها واضحة لا تمالئ, وصريحة لا تداهن, بل إن اللغة المصرية الدارجة تعبر عن هذا الصدق' الجواني' بعبارة عفوية:' ربك رب قلوب', وفي هذه العبارة تجسيد مكثف للتلاقي الحميم بين الاتجاه الأشعري في الإيمان, وبين شخصية مصر ذات الطبيعة الفيضية النهرية, في بساطة لماحة لا تخطئها عيون المتأملين!! إذن فمن الضروري أن يكون ثمة تنافر عقيم, وانفصام وجودي بين شخصية مصر من جهة, وبين التيارات الفكرية الوافدة كالتيمية والوهابية والسلفية المدعاة, تلك التي لا يرضيها أن يكون' الإيمان' هو التصديق القلبي الوجداني وحده, بل لابد في هذه النظرة الصحراوية الجافة التي تدعي وراثة السلف أن يكون الإيمان متضمنا وملتحفا بأشكال ظاهرية شتي, وطقوس خارجية قشرية كثيرة, واعتقادات طاردة يابسة, وكل تلك ظواهر تنفر منها الشخصية المصرية ذات الصدق الفطري كما تنفر مما تحمله تلك التيارات من الجفاف العقلي, والتيبس الشعوري, والضمور الوجداني. ومن جهة أخري فمن الجلي أن تتناقض شخصية مصر المنبسطة المنفتحة الصادقة الذات والمشاعر مع من يمارسون' لعبة السياسة' حيث المناورات والمساومات الملتبسة والمقايضات الخفية, وحيث تمارس البراجماتية والنفعية علي تمامها تحت لافتة الإسلام السياسي, وتحت رايته, بما يعنيه ذلك كله من التنكر والتنائي عن' الصدق' و'التصديق' جميعا. ثانية تلك القضايا تتعلق بالتنزيه وهي واحدة من أبرز سمات الاتجاه الأشعري التي جلبت عليه موجات صاخبة من العداوات والثارات من قبل سائر التيارات الحرفية المتصلبة التي ضاق أفقها في فهم النصوص القرآنية فهما مستقيما, وذلك حين أوصدت أمام العقل فسحة التأويل, وأغلقت أمام اللغة فضاءات المجاز, فإذا بأصحابها تحت ادعاءات السلفية الزائفة علي لسان ابن تيمية تارة, وعلي لسان الوهابية تارة يجرؤون علي وصف الذات الإلهية المتعالية وصفا ماديا غليظا جاسيا ينفر منه العقل والذوق واللغة جميعا, وفي وجه هذه التيارات الظاهرية الخشنة انتهض الاتجاه الأشعري ليفهم النصوص القرآنية فهما رحبا, مسلحا بملكات العقل البشري السامية, وبعبقرية البلاغة العربية الرفيعة تنزيها للذات الإلهية عن تلك الأفهام الغليظة, فالذات الإلهية أقدس من أن تحصرها تصورات البشر, وأعلي من أن تنالها آفاقهم المحدودة علي أي نحو من الأنحاء,' ليس كمثله شيء وهو السميع البصير',' ولم يكن له كفوا أحد'. علي الضفة الأخري: فإن شخصية مصر وعلي مدي تاريخها, تنتصر بطبيعتها للتنزيه, وإن بدا هذا التنزيه في بعض مراحله مضطربا أو مختلطا. لقد سمت الحضارة المصرية القديمة' بالعدالة' عن مظاهرها المتجسدة وارتفعت بها إلي معني'غير مجسد',( ماعت), كما أن الأساطير الفرعونية رفعت( رع) إلي مرتبة الألوهية في السماء تنزيها له عن سكني الأرض, بل إن فكرة' الضمير' ذاتها كما كشف عنها برستد في كتابه' فجر الضمير' لم تكن البتة إلا' معني' مجردا يكشف في جلاء عن ذلك الميل الأصيل في شخصية مصر إلي الارتفاع عن أوحال التجسيم إلي سمو التنزيه. ثالثة تلك القضايا هي التوحيد, فماذا يتوقع المرء أن يكون موقف الاتجاه الأشعري من قضية' التوحيد' لا سيما وقد اتسم المضمونان السابقان' الإيمان والتنزيه' بهذه الرحابة العقلية والوجدانية والشعورية؟ هل يتوقع إلا أن يتسم مفهوم' التوحيد' لديه كسابقيه بالرحابة ذاتها؟, ماذا يتوقع إلا أن يكون مفهوم التوحيد الأشعري عنده هو ذلك المفهوم البسيط السمح, أعني أن لا يكون ثمة إله للكون غيره سبحانه, فبهذا يتسع مفهوم الإيمان حتي ليوشك بابه أن يكون مفتوحا أمام البشر جميعا, كما يضيق باب' الشرك' حتي لا ينطبق إلا علي من جحد وجوده تعالي, أو أشرك معه شركاء غيره. بيد أن تلك التيارات الظاهرية الخشنة تأبي إلا أن تجعل' للشرك' أبوابا عديدة لا يكاد ينجو منها إلا الأقلون, بينما تضع علي' التوحيد' قيودا عديدة لا يكاد ينفذ منها إلا الأقلون, فابن تيمية والوهابية التي اقتفت أثره تجعل' التوحيد' علي ثلاثة أنحاء, فتصطنع فهما خاصا للتوحيد, تفرض عليه الحواجز الاعتقادية التي تجعل أبوابه أضيق من سم الخياط, بينما تجعل جبهة الشرك مفتحة الأبواب, وحسبك أن تقرأ كتابا من الكتب الوهابية المنتشرة في الأسواق أو علي شبكة المعلومات الدولية لتري كم تتردد كلمات' الشرك' و'نواقض الإيمان' وصفا لكثرة كاثرة من التصرفات اليومية التي يأتيها الناس دون أن يخطر علي بالهم الشرك من قريب أو بعيد. علي الضفة الأخري فإن مصر انتصرت طوال تاريخها لقضية التوحيد, سواء علي المستوي السياسي علي يدي موحد القطرين, أو علي المستوي الديني علي يدي إخناتون, بل علي مستوي الجغرافيا السياسية أيضا, ذلك أنها كما يقول جمال حمدان أيضا( جسم بشري واحد ووحيد, ووسط جغرافي واحد بالتأكيد, ونهر سائد وفريد). ثم أقول: إن سريان الاتجاه الأشعري في شرايين التدين المصري لم يكن البتة فعلا اتفاقيا من أفاعيل التاريخ, كما لم يكن أيضا فعلا قسريا من أفاعيل الطغيان والسلطان, بل كان انسجاما وجوديا اجتمعت له أسبابه وتوفرت له دواعيه. ثم أضيف: إن الاتجاه الأشعري لا بواكي له, وحسبه أن يكون فعالا صامتا في البواطن والعقول والصدور, متآزرا مع مكونات الشخصية المصرية العبقرية, راضيا بتلك الفعالية الصامتة التي تمثل طوق النجاة مما يحيط بنا من أمواج الإلحاد من جهة ومن وهدة الحرفية والغلظة والجمود من جهة ثانية؟! لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى