وزير الزراعة: دعم محصول القمح وصل إلى 5 مليارات جنيه في الموسم الجاري    «تحالف الأحزاب»: الرئيس السيسي أكبر داعم حقيقي للقضية الفلسطينية في الشرق الأوسط    لميس الحديدي: مصر ستظل شريكا في القضية الفلسطينية وليست وسيطا    أحمد موسى: فوز الأهلي مكسب ل100 مليون مصري.. والتنظيم على أعلى مستوى    عمرو أديب عن تتويج الأهلي بدوري أبطال إفريقيا: المكسب الحلال أهو    نجوم الفن يهنئون الأهلي بالفوز على الترجي وتحقيق لقب دوري أبطال أفريقيا    الباز: الرئيس السيسي حريص على وصول المعلومات للناس منذ اللحظة الأولى    مراسل القاهرة الإخبارية: الطائرات الحربية تقصف مدينة رفح الفلسطينية    أستاذ علوم سياسية: رغم الارتباك والتخبط إسرائيل تتأرجح بين خيارين    بدون وسطاء أو سماسرة.. تفاصيل وخطوات التقديم في فرص العمل باليونان وقبرص    العاصمة الإدارية: تغطية 19% من احتياج الحي الحكومي بالطاقة الشمسية    ولا فيه غيره يفرحنى.. مقاهى القليوبية تمتلئ بمشجعى الأهلى فى نهائى أفريقيا    يوفنتوس يفوز على مونزا بثنائية في الدوري الإيطالي    خلال أيام.. موعد ورابط نتيجة الصف الثاني الإعدادي الفصل الدراسي الثاني    رئيس «إسكان النواب»: حادث معدية أبوغالب نتيجة «إهمال جسيم» وتحتاج عقاب صارم    محمود بسيوني: الرئيس يتعامل مع المواطن المصري بأنه شريك فى إدارة البلاد    انطلاق الامتحانات النظرية بجامعة قناة السويس داخل 12 كلية ومعهد اليوم    مصدر مطلع: عرض صفقة التبادل الجديد المقدم من رئيس الموساد يتضمن حلولا ممكنة    سلوى عثمان تنهمر في البكاء: لحظة بشعة إنك تشوفي باباكي وهو بيموت    شيماء سيف تكشف:" بحب الرقص الشرقي بس مش برقص قدام حد"    الأزهر للفتوى يوضح العبادات التي يستحب الإكثار منها في الأشهر الحرم    الأزهر للفتوى يوضح حُكم الأضحية وحِكمة تشريعها    خلال زيارته لجنوب سيناء.. وفد «صحة النواب» يتفقد أول مستشفى خضراء صديقة للبيئة.. ويوصي بزيادة سيارات الإسعاف في وحدة طب أسرة وادى مندر    أب يذب ح ابنته ويتخلص من جثتها على شريط قطار الفيوم    «الري»: إفريقيا تعاني من مخاطر المناخ وضعف البنية التحتية في قطاع المياه    لعنة المساخيط.. مصرع شخصين خلال التنقيب عن الآثار بقنا    مصلحة الضرائب: نعمل على تدشين منصة لتقديم كافة الخدمات للمواطنين    بعد استخدام الشاباك صورته| شبانة: "مطلعش أقوى جهاز أمني.. طلع جهاز العروسين"    نتيجة الصف الرابع الابتدائي 2024 .. (الآن) على بوابة التعليم الأساسي    وائل جمعة مدافعا عن تصريحات الشناوي: طوال 15 سنة يتعرضون للأذى دون تدخل    موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات.. ومواعيد الإجازات الرسمية المتبقية للعام 2024    عاجل.. تشكيل يوفنتوس الرسمي أمام مونزا في الدوري الإيطالي    المدن الجامعية بجامعة أسيوط تقدم الدعم النفسي للطلاب خلال الامتحانات    شريف مختار يقدم نصائح للوقاية من أمراض القلب في الصيف    نائب رئيس جامعة عين شمس تستقبل وفداً من جامعة قوانغدونغ للدراسات الأجنبية في الصين    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولي العلمي للمقالات العلمية    «فوبيا» فى شوارع القاهرة    5 أبراج محظوظة ب«الحب» خلال الفترة المقبلة.. هل أنت منهم؟    واين روني مديرا فنيا لفريق بليموث أرجايل الإنجليزي    تفاصيل مالية مثيرة.. وموعد الإعلان الرسمي عن تولي كومباني تدريب بايرن ميونخ    بروتوكول تعاون بين جامعتيّ بنها والسادات في البحث العلمي    ضبط تشكيل عصابي تخصص في الاتجار بالمواد المخدرة فى المنوفية    عقيلة صالح: جولة مشاورات جديدة قريبا بالجامعة العربية بين رؤساء المجالس الثلاثة فى ليبيا    توقيع برتوكول تعاون مشترك بين جامعتي طنطا ومدينة السادات    وزير الأوقاف: تكثيف الأنشطة الدعوية والتعامل بحسم مع مخالفة تعليمات خطبة الجمعة    «أشد من كورونا».. «البيطريين» تُحذر من مرض مشترك بين الإنسان والحيوان    مهرجان الكى بوب يختتم أسبوع الثقافة الكورية بالأوبرا.. والسفير يعلن عن أسبوع آخر    علاج 1854 مواطنًا بالمجان ضمن قافلة طبية بالشرقية    كيف تعالج الهبوط والدوخة في الحر؟.. نصائح آمنة وفعالة    مفاجآت جديدة في قضية «سفاح التجمع الخامس»: جثث الضحايا ال3 «مخنوقات» وآثار تعذيب    ضبط 14 طن أقطان داخل محلجين في القليوبية قبل ترويجها بالأسواق    "كاف" عن نهائى أفريقيا بين الأهلى والترجى: "مباراة الذهب"    وزارة التجارة: لا صحة لوقف الإفراج عن السيارات الواردة للاستعمال الشخصي    مساعد نائب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية يتفقد محطات الصرف الصحي والصناعي بالعاشر    برنامج تدريبى حول إدارة تكنولوجيا المعلومات بمستشفى المقطم    متصلة: أنا متزوجة وعملت ذنب كبير.. رد مفاجئ من أمين الفتوى    عيد الأضحى 2024 الأحد أم الاثنين؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    مباحثات عسكرية مرتقبة بين الولايات المتحدة والصين على وقع أزمة تايوان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موسى وعيسى ومحمد [2]
نشر في المصريون يوم 18 - 07 - 2010

(1)الدين المجرد: هذا مصطلح صكّه بيجوفيتش لأول مرة ليصوّر به فروقا جوهرية بين الدين بمفهومه الغربي وبين الإسلام .. فالإسلام فى ضوء هذا المفهوم الغربي ليس مجرد دين .. أو بالأحرى ليس [دينا مجردا] وفى إطار هذا المفهوم يسهل على بيجوفيتش أن يتحدث عن [الإسلام والدين] كفكرتين مستقلتين .. يستغرق الإسلام الدين ويزيد عليه .. بينما الدين المجرد يستحيل عليه أن يستوعب الإسلام .. وقصاراه: أنه يقابل الجانب الروحي الفردي الخالص فى المركّب الإسلامي [ثنائي القطب] .. وبيجوفيتش هنا يحاول تأصيل الفكرة مبتدئا بدراسة مقارنة لليهودية والمسيحية ..حيث يقول:
" المادية اليهودية أو الوضعية هي التي لفتت العقل الإنساني خلال التاريخ اليهودي إلى العالم، وأثارت الاهتمام بالواقع البرّاني.. أما المسيحية، فقد لفتت الروح الإنسانية إلى ذاتها. فالواقعية الصريحة «للعهد القديم» لا يمكن التغلب عليها إلاّ بمثالية حاسمة من «العهد الجديد»..." ففى المسيحية لا يصح شطر الطاقة الإنسانية إلى اتجاهين متعاكسين: اتجاه السماء واتجاه الأرض. «فلا يستطيع إنسان أن يخدم سيدين، فهو إما أن يكره أحدهما ويحب الآخر، أو يتمسك بأحدهما ويستخف بالآخر: "إنك لا تستطيع أن تخدم الله وتخدم [مامون].." وينطلق «تولستوي» من هذه الفكرة فيطوّرها، حيث يقول: «لا يستطيع إنسان أن يُعنى بروحه وبمتاع الدنيا في الوقت نفسه، فإذا كان الإنسان يطمح إلى المتاع فعليه أن يتنازل عن روحه، وإذا كان يطمح إلى خلاص روحه فعليه أن يتخلى عن متاع الدنيا.. وإلا فإنه يتمزق بينهما، فلا يصل إلى هذه أو تلك.. لقد اعتاد الناس أن يسعوا للحصول على الحرية عن طريق تجنبهم ما يعوقهم ويعوق أبدانهم، أو يحول بينهم وبين الحصول على رغباتهم.. ولكن الوسائل التي يتخذونها لتحقيق متعهم البدنية المادية ، من ثراء ومراكز عالية وسمعة بين الناس كلها لا تؤدي إلى الحرية المرغوبة، بل على العكس تقيد هذه الحرية أكثر وأكثر. فإذا أراد الناس أن يحققوا حريتهم، عليهم أن يبنوا من خطاياهم وأهوائهم وضلالاتهم سجنًا يحبسون فيه أنفسهم بين جدرانه..» ولقد لاحظت السلطات الكنسية وجود اختلافات جوهرية بين روح «العهد القديم» و«العهد الجديد»، حيث يذهب إنجيل مرقص إلى أن المسيح عيسى قد ألغى قانون موسى، واستبدل ب «يهْوى» إله العدالة ومنقذ العالم المادي، إله الحب الذي خلق عالم الغيب اللامرئي.
ولذلك، فإن الدين منذ البداية ينبذ أي توجّه لتغيير العالم الخارجي أو محاولة جعله عالمًا كاملاً، فالدين المجرد( من هذا المنطلق) يحكم على أي اعتقاد إنساني، يهدف إلى تنظيم العالم البرّاني أو تغييره إلى عالم أفضل بأنه خطيئة، أو هو في الحقيقة نوع من أنواع خداع النفس.. فالدين بهذا المفهوم ينحصر فى الإجابة على سؤال: كيف تحيا في ذاتك وتواجه هذه الذات..؟، وليس إجابة على سؤال: كيف تعيش في العالم مع الآخرين..؟، إنه (كما يصفه بيجوفيتش): معبد على قمة جبل.. ملاذ على الإنسان أن يرتقي إليه، تاركًا خلفه خواء عالم لا سبيل إلى إصلاحه.. عالم يهيمن عليه الشيطان وحده.. وهذا هو الدين المجرد.. فى مفهوم الكاثوليكية الأصلية...!
(2) يقول المسيح عليه السلام: «لا تقلق على حياتك فتقول ماذا ستأكل وماذا ستشرب».. «إذا أوقعتك عينك اليمنى في الزلل فاقتلعها، وإذا أوقعتك يدك اليمنى في الزلل فاقطعها».. «كل من ينظر إلى امرأة بشهوة فكأنه قد زنى بها في قلبه».. «إنه مكتوب أني سأدمر حكمة الحكيم وسأحيل عقل الحصيف إلى عدم.. أين الحكيم..!؟ وأين الكاتب..!؟ وأين المُجادِل عن هذه الدنيا..!؟»... «وسأله الناس قائلين: وماذا نفعل إذن..!؟» فأجاب المسيح: «من كان له ثوبان فليعط واحدًا لمن لا ثوب له.. ومن كان عنده لحم فليفعل بالمثل...»..
ويعلق بيجوفيتش قائلا: "إن التشابه بين هذه العبارات الإنجيلية وبين بعض المبادئ الاشتراكية ليس إلا تشابهًا ظاهريًا.. فلا مناقشة هنا لمجتمع وما فيه من علاقات، وإنما الأمر كله منصبٌّ على الإنسان الفرد وروح الإنسان التى تتطلّلع إلى الخلاص... فالدين يدعو إلى العطاء، والثورة «الاشتراكية» تدعو إلى الأخذ.. وقد تكون النتيجة البرّانية واحدة، ولكن النتيجة الجُوانيّة مختلفة كل الاختلاف...!"
ويتابع بيجوفيتش :" الطريق الذي يدعو إليه الدين طريق شاق، ولا يصلح لسلوكه إلا من كرَّسوا أنفسهم له.. وعندما صرح القرآن: {لا يُكلِّف اللهُ نفسًا إلا وُسْعها...} كان يوجه الإشارة بوضوح إلى المسيحية.. ولذلك عرفت الأديان المجردة طريقين أو برنامجين: ففى البوذية مثلا يوجد ما يُسمى ب (الماهايان) أو الطريق العظيم، وهو طريق شاق أليم مكرَّس للصفوة، وطريق آخر يسمى (الهنايانا)، وهو طريق ميسر، وأقل قسوة مفتوح لعامة الناس.. و كذلك في المسيحية تقسيم أخلاقي مماثل: فهناك حياة خاصة للقساوسة والنظام الأكليروسي، في مقابل الحياة العادية لعامة الشعب؛ فالعزوبة [الكاثوليكية] لرجال الدين فقط، في مقابل الزواج المسموح به لعامة الناس.. والمفهوم ضمنا فى إطار الثقافة والهوية الكاثوليكية أن العزوبة هي الطريق الصحيح والأمثل ، أما الزواج فتسوية.. أو حل وسط.. أوهو شر لابد منه.." ويرتب بيجوفيتش على هذه الفكرة المركزية نتائج بالغة الأهمية خلاصتها: " أن القوى الجوانية المصحوبة بنكران الذات مسألة شخصية بأسرها ترتبط دائمًا برفض كل نشاط اجتماعي.. فالمسيحية أوالدين المجرد بصفة عامة، من حيث معارضتهما للعنف، لا يمكن لهما التأثير في أي شيء من شأنه أن يحسِّن من وضع الإنسان من الناحية الاجتماعية.. فالتغيير الاجتماعي لا يأتى بواسطة الصلوات أو الأخلاقيات، وإنما عن طريق قوة مدعمة بالأفكار و المصلحة.. ومن هنا جاء الاتهام (الذي قد يبرره التاريخ ولكن لا تبرره الأخلاق) بأن الدين إنما يدعم الأمر الواقع السائد في عصره.. وأنه بهذا يخدم الطبقة الحاكمة بصرف النظر (عن المعارضة الروحية).. ولذلك نلاحظ أن القرآن يسمي المسيحية (بلاغًا)، وتسميها الأناجيل (بشارة).. فهى بشارة لأعمق ما في الوجود الإنساني من حقائق؛ (حبّ جارك كما تحب نفسك)..(حبّ أعداءك وبارك لاعنيك) .. (لا تقاوم الشر) .. ولكن هذه المطالب تسير ضد فطرة المنطق العملي في حياة الإنسان، مما يوجهنا نحو البحث عن معناها الحقيقي.. إنها توحي بالبشارة لعالم آخر، ولذلك أعلن المسيح عليه السلام بوضوح لا لبس فيه: (مملكتي ليست في هذا العالم)...!
يقول بيجوفيتش: "إن الإلهام الواضح الحاد للأناجيل يعتبر نقطة تحول في التاريخ، فلأول مرة يتضح للبشرية الوعي الكامل بالقيمة الإنسانية، ومن خلال هذا الوعي تحقق التقدم الكيفي لا التقدم التاريخي.. ولذلك كان ظهور عيسى (عليه السلام) مَعْلَم من معالم تاريخ الإنسانية.. (آية للعالم..)، وقد تجسدت رؤيته والأمل الذي بثه في جميع الجهود الإنسانية من ذلك الوقت.. ولا تزال الحضارة الغربية (برغم كل انحرافاتها وضلالاتها وشكوكها) تحمل بصمة التعاليم المسيحية الأولى.. ففي الصراع المبدئي بين المجتمع والإنسان، بين الخبز والحرية، بين الحضارة والثقافة، يجد الغرب نفسه (وهو ملتزم بالتقاليد المسيحية ربما بلا وعي منه) منحازًا إلى الاختيار الثاني.." ويفسر لنا هذا [الانحياز الواضح] المترسّب بين نخبة من المثقفين وجموع غفيرة من الجماهيرفى الغرب إلى قضايا الحرية وحقوق الإنسان، [وانحيازها ضد الحروب الإمبريالية فى العراق وأفغانستان وضد الحصار على غزة وفلسطين.. وضد تكبيل الدول الفقيرة بالديون ونهب ثراواتها لصالح الرأسمالية الجشعة...!]
(3) يؤمن بيجوفيتش بأن الدين يؤثر في العالم فقط عندما يصبح هو نفسه دنيويًا، بمعنى أن يصبح معنيًا بالسياسة في معناها الواسع.. ومن هذه الناحية، يعتبر الإسلام فى نظر البعض مسيحية أُعيد تكييفها تجاه العالم.. هذا التعريف يكشف لنا عن التشابه، و فى الوقت نفسه عن الاختلاف بين المسيحية والإسلام.
يقول بيجوفيتش: إذا نظرت إلى الإسلام من برّانيه كمفكر أجنبيّ تجد أنه يشتمل على عنصر يهودي واحد، ولكنه يشتمل أيضًا على عناصر كثيرة غير يهودية.. وفي تصنيف «هيجل» للأديان اعتبر الإسلام استمرارًا لليهودية.. وهذه الفكرة عن الإسلام تنبع من وجهة نظر مسيحية، وذهب «شبنجلر» إلى رأي يشبه هذا، عندما قال: إن [كتاب أيوب فى العهد القديم] كتابة إسلامية.. و قد ضعت «مِرْسيا إلْيادي» فى كتابها: (أنماط من الأديان المقارنة) النبيَّ محمدا على مفترق طريق التحول من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة (والأخيرة) من مراحل التحول الروحي للجنس البشري. ومن ثَََمّ فالمرحلة الثالثة التي لم تنته بعد بدأت بمحمد، حيث تذهب «إليادي» إلى أن تاريخ العقل الإنساني هو عملية «علْمَنَة» عامة، وبهذه الرؤية، يقف محمد على حافة مرحلة سيادة المسيحية وبداية العصر العلماني الحديث.. بمعنى أنه يقف في النقطة البؤرية للتوازن التاريخي...
يقول بيجوفيتش: "إذا نحّينا جانبًا رؤية «إليادي» التاريخية ذات البعد الواحد.. وهي رؤية غير مقبولة من وجهة نظرنا.. نستبقي منها إشارتها إلى الموقف الوسط للإسلام ولمحمد الذي تتميز به هذه الرؤية..هذا الانطباع يظل ثابتًا بصرف النظر عن اختلاف المقتربات أو التفسيرات..."
لقد تجنب المسيح دخول القدس لأنها مدينة «الفرّيسيين» والمجادلين والكتّاب والكفار وأصحاب الإيمان السطحي.. وبالمقابل لا توجه الاشتراكية خطابها لأبناء الريف، وإنما تتوجه به لأبناء المدن الكبرى.. أما محمد، فكان يذهب إلى غار حراء (ليتعبّد)، ولكنه كان يعود في كل مرة إلى المدينة الكافرة (مكة) لكي يؤدي رسالته فى خضمّ مجتمع مقاوم رافض للإيمان الجديد...
ويعلق بيجويتش قائلا: "ومع ذلك، فإن كل ما حدث في مكة لا يمكن وصفه بأنه «الإسلام»، لأن الإسلام اكتمل وبلغ ذروته في (المدينة).. لقد كان محمد في غار حراء صائمًا متنسكًا متصوفًا حنيفًا، وكان في مكة مبشرًا بفكرة دينية.. أما في المدينة، فقد أصبح داعية إلى [الفكرة الإسلامية].. إن الرسالة التي حملها محمد صلى الله عليه وسلم اكتملت وتبلورت في المدينة.. فهناك، وليس في مكة، كانت «بداية ومصدر [لنظام الإسلامي الاجتماعي كله]...
كان لا بد لمحمد أن يعود من «الغار»، فلو أنه لم يعد لبقي «حنيفيًا»، ولكنه عاد من الغار وشرع يدعو إلى الإسلام.. وهكذا تم الامتزاج بين العالم الجواني وعالم الواقع، بين التنسك والعقل، بين التأمل والنشاط.. لقد بدأ الإسلام صوفيًا روحيا وأخذ يتطور حتى أصبح دولة.. وهذا يعني أن الدين قد تقبّل عالم الواقع وأصبح «إسلامًا».
(4) الإنسان ونفسه: هذه هي الصلة بين محمد وبين عيسى (العهد الجديد).. فبين الكتب المقدسة وبين النفس تشابه في الطبيعة.. في جوهرها جميعًا سر واحد.. فالنفس والكتب المقدسة يمثل أحدهما الآخر بطريقة رمزية.. وكلاهما يلقي الضوء على الآخر.. أما الإسلام فهو نسخة من الإنسان بجمعه وكلّيته .. ففي الإسلام تمامًا ما في الإنسان.. فيه تلك الومضة الإلهية، وفيه تعاليم عن الواقع والظلال.. يقول بيجوفيتش: "بالإسلام جوانب قد لا تروق للشعراء الرومانسيين.. فالقرآن، كتاب واقعي لا مكان فيه لأبطال الملاحم.. والإسلام بدون إنسان يطبقه يصعب فهمه، وقد لا يكون له وجود بالمعنى الصحيح.."
مُثُلُ «أفلاطون» وملائكة المسيحية، تشير في جوهرها جميعًا إلى شيء واحد: مملكة عالم سرمدي كامل مطلق ثابت.. أما الإسلام، فإنه لا يعطي لهذا العالم قيمة مثالية.. فالملائكة وهم ينتمون إلى هذه المملكة سجدوا للإنسان الذي علّمه الله «الأسماء كلها». مما يؤكد غلبة الحياة والإنسان والدراما على الكمال الساكن المخلّد..
(5) فى نظر بيجوفيتش: أن المسيحية لم تبلغ أبدًا الوعي التام بوحدانية الله..صحيح أن بها مفهوم مفعم بالحيوية عن الألوهية.. ولكن لا توجد بها فكرة واضحة عن الله.. وكانت مهمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يجعل الفكرة الإنجيلية عن الله أكثر وضوحًا وأقرب إلى عقل الإنسان وفكره. فالله هو الإله (الواحد) الذي تتوق إليه النفوس وتصبو إليه أفكار نبيلة في عقولنا.. يقول بيجوفيتش: " في الأناجيل، الإله «أب»، وفي القرآن الله "رب العباد".. الإله في الأناجيل محبة، وفي القرآن «جلال يستحق الحمد والثناء».. هذه الخاصية في فهم المسيحية للألوهية انقلبت فيما بعد إلى سلسلة من الصور المختلطة ضحَّت بالوحدانية الأصلية للمسيحية في سبيل الثالوث.. وتكريس الأم العذراء والقديسين..»ثم يضيف مؤكدا: "مثل هذا التطور يستحيل أن يحدث في الإسلام، فبرغم كل ما مرّ به الإسلام من نكبات تاريخية، ظل أنقى أديان التوحيد.. ومن الضروري أن نلحظ هنا حقيقة جوهرية وهى أن النفس الإنسانية قادرة على تصور الألوهية فحسب.. أما خلال العقل، فإن الألوهية تتحول إلى فكرة (الله الواحد الأحد) ...
إله المسيحية، هو رب عالم الأفراد (الناس والأنفس)، بينما يملك الشيطان زمام العالم المادي.. ولذلك، فإن الاعتقاد المسيحي في الله يتطلب الحرية الجوانية، بينما العقيدة الإسلامية في الله تنطوي [إضافة إلى ذلك] على الحرية البرانية أيضًا.. والعقيدتان الأساسيتان في الإسلام: «الله أكبر» و«لا إله إلا الله» هما في الوقت نفسه أعظم القوى الثورية في الإسلام..إنهما بحق ثورة ضد السلطة الدنيوية التي تغتصب الحق الإلهي في حكم العالم.. ويذهب سيد قطب إلى أنهما يعنيان: «انتزاع السلطة من الكهان ومن زعماء القبائل والأغنياء والحكام، وإعادتها إلى الله»، ولذلك كانت «لا إله إلا الله» ضد جميع أصحاب السلطة في كل عصر وفي كل مكان»...!
(6) لم تستطع المسيحية كذلك أن تتقبل فكرة أن يظل الإنسان الكامل إنسانًا، ومن ثَمَّ استنتج المسيحيون من كلام عيسى فكرة (الإله الإنسان)، واعتبروا عيسى ابنًا لله.. ولكن محمدًا ظل إنسانًا فقط، وإلا أصبح زيادة لا ضرورة لها.. لقد أعطى محمد (صلى الله عليه وسلم) المثل الأعلى للإنسان والجندي في الوقت ذاته، أما عيسى (عليه السلام)، فقد خلّف انطباعًا ملائكيًا...
كذلك كان الأمر بالنسبة للنساء، فقد احتفظ القرآن بوظائفهن الطبيعية كزوجات وأمهات، على عكس صورة مارتا ومريم في الأناجيل وهما أختان قرويتان وأخوهما يسمى «إليعازار».. تذكر الأناجيل أنه الشخص الذي أحياه المسيح بعد موته كمعجزة من معجزاته، وكانت المرأتان من أتباع المسيح ومحبيه وتحكي قصتهما الأناجيل بشيء من التفصيل ...
يقول على عزت: "إن الهجوم المسيحي على طبيعة محمد (الإنسانية الخالصة) هو هجوم ناتج في الواقع عن سوء فهم.. فالقرآن نفسه يؤكد أن محمدًا ليس إلا إنسانًا.. وقد كشف عن الاتهامات التي ستُوجّه إليه في المستقبل حيث قال: { وقالوا ما لِهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق...!} الفرقان آية7 ، وفى آيات أخرى يؤكد القرآن بشرية محمد وإنسانيته لينفرد الخالق سبحانه بالوحدانية والتنزيه دون سائر مخلوقاته.. من هذه الآيات: { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولاً...} الإسراء آية93.. و { قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحد...} الكهف آية 110..
(7) كان محمد صلى الله عليه وسلم موضع تصديق مطلق من أتباعه وقد عرفوه معرفة حميمة ورصدوا كل كلمة نطق بها وكل تصرف وكل لمحة وكل نظرة بدرت منه .. رأوه ليل نهار بينهم وهو يتعبد ويأكل ويشرب ويلبس ويتحدث ويتصرف (فى مختلف المناسبات والمواقف) .. وكادوأ أن يعدّوا عليه أنفاسه .. أحبوه أكثر من حبهم لأنفسهم .. ولو أنه كان دعيّا كما يزعم الأفاقون والمفترون لما جاء القرآن الذى بلّغه [هو] إليهم بنفسه يؤكد بشريته بهذه القوة والوضوح .. ولما تضمّن عتابا له من ربه فى بعض المواقف.. لو كان القرآن كلام محمد كما زعم المبطلون لما تضمن هذا التأكيد ولا سجّل هذا العتاب على نفسه أبدا.. ولما أورد فيه هذه الآية الصاعقة: {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين} الحاقة:44-47
وتلك نقطة بالغة الأهمية على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. ومن ثمّ كانت محورا مركزيا لكتاب كامل ألّفه مفكر إسلاميّ عظيم آخر هو (مالك بن نبي) بعنوان (الظاهرة القرآنية) يؤكد فيه أن القرآن وحده و فى حد ذاته هو أكبر برهان على صحة رسالة محمد وصدقها...!
ونتابع الحديث فى حلقة قادمة إن شاءالله...
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.