عندما تعيش تجربة العبور من كوة صغيرة فى الباب الخشبى الضخم، الفاصل بين عالم الحرية وعالم السجون، تستطيع تخيل شعور من تودع أهلها وتترك الدنيا وراءها، لتبدأ فى تنفيذ عقوبة جريمة ارتكبتها، ربما يكون التصور لديها وقتها أو لدينا نحن أيضا أن هذه هى النهاية. . ليست بالضرورة أن تكون نهاية العمر، ولكنها نهاية الأمل فى عودة مواطنة صالحة للحياة، فهى إما ستعود بعد خروجها لمواصلة نشاطها وإما أن تتقوقع على نفسها وتعتزل البشر من حولها.. ولكن ما شاهدناه عندما شاركنهن نهارا كاملا وراء الباب الخشبى الذى تترك عنده متاعك وهويتك، أنهن يبدأن بالفعل حياة جديدة وراء القضبان، وكل ما تحتاجه السجينة فرصة عفو من المجتمع لفتاة أو إمرأة أخطأت ودفعت الثمن.
فى سجن النساء بالقناطر اقتربنا مكانيا ونفسيا من عالم السجينات الذى يمتلئ بالعديد والعديد من المشكلات، والتعقيدات، أولها الرغبة فى إحداث تغيير فى هذه الشخصية التى ليس شرطا أن تكون مصرة على الإنحراف أو غارقة فى عالم الجريمة، فلربما انزلقت بدافع قلة التجربة أو ضعف التوجيه، أو ضغوط الفقر والبيئة غير الصالحة، ومطلوب ألا نتركها تستمرئ الجريمة أو تكون مضطرة إلى إمتهانها، وبالطبع العامل الإقتصادى يلعب دور البطولة هنا وكما يؤكد اللواء جمال شعير مدير الإدارة العامة للتأهيل بقطاع السجون أن الأنشطة التأهيلية داخل السجون تستهدف مساعدة السجين بصفة عامة على تعلم وممارسة نشاط انتاجى يدر عليه أثناء عائدا ماديا أناء فترة بقائه بالسجن، بالإضافة إلى مساعدته على وجود فرصة عمل بعد خروجه لافتا إلى أن الأمر يستلزم تكاتف المجتمع لتغيير الصورة الذهنية السلبية المستقرة فى أذهان العامة عن شخصية المفرج عنه،
أسرة المسجون يمتد إليها بصورة أو أخرى شكل من أشكال العقاب المادى والاجتماعى للجريمة التى ارتكبها عائلها، وهو ماتهتم به إدارة الرعاية اللاحقة بوزارة الداخلية وكما يقول مديرها اللواء هشام ثروت أنه بالاضافة لما يلقاه السجين من رعاية دينية وصحية داخل السجن فإن هناك متابعة لأسرته وأولاده وذلك من خلال التعاون مع عدة جهات ووزارات كالصحة والتربية والتعليم والتعليم العالي، لمساعدتهم فى أمور منها إعفاؤهم من مصروفات الدراسة، وتوفير أجهزة تعويضية .. وبتفصيل أكثر أوضحت لنا العقيد كوثر كمال أن هذه الرعاية تستمرللسجينة بعد خروجها مدى الحياة، فهى تظل تتردد علينا لمساعدتها فى إستخراج تصاريح كشك مثلا أو توفير ماكينات خياطة لها من خلال التعاون مع الجمعيات الأهلية، وأيضا إذا كان الزوج هو المسجون فإننا نساعد زوجته على إستخراج معاش للضمان الإجتماعي.
سجينات الفقر
الغارمات ربما أكثر قضايا السجينات التى نالت شهرة وذيوعا فى الأعوام الأخيرة، وتعاطف المجتمع مع ضحاياها نفسيا وماديا، خاصة بعد عرض لحالات منها وكيف أنها تورطت فى شيكات وإيصالات أمانة لتزوج ابنتها أو تعالج أحد أبنائها ولما عجزت عن السداد كان مصيرها وراء القضبان .. الكاتبة الصحفية والأديبة نوال مصطفى مؤسسة جمعية رعاية أطفال السجينات والتى تعمل ببروتوكول تعاون مع قطاع مصلحة السجون كان آخر ثماره افتتاح ورشة للتدريب وتصنيع الملابس بسجن النساء بالقناطر.. تقول: كنا من أول من اكتشف قضية سجينات الفقر والغارمات، وأيضا أطفال السجينات والحقيقة أنه يجب تغيير النظرة إليهن على أنهن مجرمات لا يستحققن أى لون من العطف و المساعدة بل بالعكس فالتجربة أثبتت أن الكثير منهن يرفض باصرار العودة إلى القضبان، ويحتجن لمن يمد إليهن يد العون والأمان، وأضافت: يجب أيضا أن ننتبه ونحن فعل ذلك أننا لسنا فقط نحمى إمرأة من مواصلة الضياع ولكننا نحمى أيضا المجتمع من قنابل موقوتة يمكن أن نتفجر فى وجهه فى أى وقت إذا ماتركت مهملة تعانى الضياع، وليس الهدف أن نحول السجينة التى أمضت عقوبتها إلى متلقية للصدقات والهبات وإنما يجب أن نساعدها على التكسب والانتاج حسب ظروفها وقدراتها، ونحن نفعل ذلك بكل الأمل والتفاؤل مما دفعنا لإطلاق اسم ( حياة جديدة ) على مشروعاتنا .
جولتنا وراء الباب الخشبى الضخم الذى تطل منه المفرج عنها غالبا فى الأعمال الدرامية على عالم الحرية، جعلتنا نقترب أكثر من هؤلاء .. وجدنهن فى حالة عمل بكل همة وحماس، كل واحدة تجلس أمام ماكينة خياطة أو تطريز، أو تجلس لأدواتها وتصنع مشغولات يدوية من مفارش الكروشيه، وقطع قماش «الأوبيسون» الفاخرة المطرزة يدويا، ثلاثة عشر عاما قضتها (؟؟؟) وراء الأسوار وهى تعمل بكل همة ونشاط فى الأعمال الفنية والتطريز بل وتعلم السجينات المبتدئات، رفضت ذكر اسمها ورفضت التصوير أيضا كيلا يتأثر ابناؤها وأحفادها ولكنها حكت لنا عن أسباب الحكم عليها بالسجن فى قضايا شيكات، تقول: كنت أمتلك شركة وفجأة تعثرت وضاع كل شئ ولم يتبق لى سوى ديون وشيكات لم أستطع سدادها، ووتضيف: أدركت أن اليأس والندم لن يفيداننى بشئ وسرعان ما أعلنت عن مواهبى وخاصة أننى كنت أمتلك مصنعا صغيرا للمفروشات، والحمد لله حققت عائدا ماديا ومدخرات من عملى بالسجن، وتقول: بعد الخروج لن تواجه من تعلمت شيئا مشكلات فى العمل والتكسب بإذن الله لافتة نظرى إلى أن تطريز قطعة واحدة من قماش الأوبيسون الذى يستخدم فى كسوة كراسى الصالونات الفاخرة يستغرق العمل فيها قرابة شهر ولكنها تباع بما لايقل عن ألف وخمسمائة جنيه فى السوق، وتوضح أن إدارة السجن أتاحت لهن التعرف على محال ومعارض ونواد تعرض إنتاجهن وتبيعه، وأنها تعتزم مواصلة ذلك بعد خروجها القريب.
نفس الكلام سمعناه من فتاة صغيرة اسمها منى تقضى عقوبة مدتها ثلاث سنوات قضت معظمها فى قضية أموال عامة، تقول: أصبحت أتقن الكروشيه وبعد خروجى سأقوم بعمله فى البيت وتعليم جيرانى وصديقاتي.
الخوف من المجتمع
الشعور بالخزى وبوصمة العار شعور يلازم الكثيرات فكلما دخلن لأحد ورش الحياكة والتطريز وحاول زميلى رفع الكاميرا وجدنا اعتراضا من البعض، أو محاولة لستر الوجه بقطعة قماش بيضاء، (هنا) تقول: أنا لا أجيد الحياكة ولكننى رغبت فى التعلم بمجرد فتح الورشة الجديدة، أنا دخلت فى قضية سرقة وأمضيت عاما ولا يزال يتبقى لى عام آخر وأريد أن أخرج للمجتمع وفى يدى أى شئ أنفق منه على نفسي، لأننى أعلم أنه ماحدش هيرضى يشغلني.
الأمر المحزن داخل السجن أن تجد مواهب فنية وأصابع ساحرة تصنع لوحات تشكليلية ورسومات مبهرة قد تورطت فى هذا الطريق.. تحدثنا إليها وهى تقف بكل سعادة أمام لوحاتها: اسمى دكتورة مروة تخصصى فنون جميلة وقضيتى سجن أربع سنوات فى واقعة تزوير !!
ماذا عن الدخل الذى تحققه السجينات ؟
العميد محمد عليوة مدير إدارة الإعلام والعلاقات بقطاع مصلحة السجون أكد أن السجينة لا تتلقى يومية عمل وإنما يتم تقدير جهدها حسب ماتنتجه وأن أى دخل يتحقق لها من عوائد العمل والبيع يتم وضعه فى الأمانات باسمها، ويحق لها أن تطلب ماتحتاجه أو أن تعطى جزءا لأولادها أو أسرتها.
التغيير بالفن
تغيير الصورة الذهنية السلبية عمن ارتكب جريمة وقضى عقوبة لدى المجتمع أمر يحتاج لتكاتف الإعلام والفن كأبرز جناحين مؤثرين فى عملية التغيير المنشودة، هذا كان كلامى للفنان الكبير حسين فهمى الذى يحرص دائما على المشاركة فى افتتاح أى مشروعات تفتح باب لأمل للسجينات، قال لى معقبا: طبعا أؤيد كلامك والأعمال الدرامية بالفعل تخدم فى هذا المجال وإن كان يجب أن يتم تكثيفها بشكل أكبر لمعالجة الصورة السلبية ومساعدة السجين الخارج للاندماج مرة أخرى فى المجتمع، ويجب التفرقة بين الأخطاء والجرائم فليس من سرق ليأكل يتساوى بكبار اللصوص أو تجار المخدرات، ويلفت الفنان الكبير لضرورة مراعاة نفسية أسر وأبناء المسجونين لأنهم لم يقترفوا ذنبا ومع ذلك فالمجتمع يعاقبهم بأشد ألوان العقاب النفسي، ويوضح أن من رسالة الفن وهو شخصيا قام بأكثر من عمل أن يكشف حياة السجن ويوضح للناس عالما لا يعرفوه، ويجب أن تكون الرسالة مؤثرة بحيث تنفرهم وتحذرهم من دخول هذا العالم.
الجانب النفسى للسجينة أثناء بعد خروجها سألنا عنه الدكتورة هبة عيسوى أستاذ الطب النفسى بجامعة عين شمس تقول: لا تخرج السجينة بدون ألم أو عقد فهى يتمزقها إحساس مابين الخوف من مواجهة المجتمع ومابين الرعب من العودة إلى القضبان والسجان، ولذا فهى مع مبدأ عدم تسجيل أول سابقة جنائية فى أوراق المفرج عنهم، لأن ذلك يزيد من معاناتها مع مجتمع لا يرحم ويصر أن يجعلها أسيرة لجريمتها أو خطئها، وتوضح أن هناك ألوانا كثيرة من العقاب النفسى للسجينات منها إبتعادهن عن أطفالهن الصغار فبحكم القانون من تلد داخل السجن لا يجوز بقاء طفلها معها بعد إكماله عامين، وعندما يؤتى لهن بأطفالهن لرؤيتهن يكون المشهد مؤثرا ومؤلما للغاية.