يبدو أن القمة الثلاثية التى جمعت قادة كل من مصر واليونان وقبرص تأسست فكرتها المركزية على أن التعاون متعدد الأطراف ومتنوع الأهداف يمكن أن يعظم المصالح الجماعية، ويدرأ فى الوقت عينه المخاطر المحتملة، وذلك من خلال إيجاد آلية يمكن أن تتبلور مستقبلا مؤسسيا لتعاون ثلاثى الأطراف، يستهدف من ناحية التنسيق المشترك فى الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي، وفى إطار مبادرة «الاتحاد من أجل المتوسط». ومن ناحية ثانية فإنه يسعى إلى استكشاف إمكانيات الاستفادة اقتصاديا من الجوار الجغرافى غير المباشر للدول الثلاث، خصوصا بعدما تصاعدت ملفات التشابك والمنافع الاقتصادية بفعل الاكتشافات الحديثة لحقول الغاز فى شرق البحر المتوسط. ومن ناحية ثالثة، فإن التعاون المشترك، يرمى فى «أجندته الضمنية» إلى مواجهة التصعيد التركى مع الدول الثلاث، سياسيا وأمنيا مع مصر، واقتصاديا وعسكريا مع «قبرص اليونانية»، خصوصا بعد تحريك قطع حربية تركية فى مياه المتوسط لدعم عمليات المسح لأبار الغاز قبالة السواحل القبرصية، بما أدى إلى تعليق المحادثات المتعلقة بتوحيد شطرى الجزيرة القبرصية، فضلا عن مطالبة كل من قبرص واليونان الاتحاد الأوربي، برفض مطالب تركيا الخاصة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بما يجعل هذه القمة أقرب ما تكون ل«قمة استباقية» تضمن مصالح أطرافها فى مواجهة أية تهديدات محتملة أيا كان مصدرها. اقتناص الفرصة ربما قد يشكل ذلك تفسيرا للأهمية المتصاعدة لتوثيق العلاقات المشتركة بين الدول الثلاث، ويبرر دلالات توقيت والإجراءات العملية السريعة لتحقيق ذلك، والتى تأتى استنادا على أساس تاريخى صلب يسوده المواقف الايجابية والتعاون السلمى والمساندة المتبادلة على الساحات الدولية، كما يرتبط بمرتكزات الموقف القبرصي-اليونانى الداعم لمصر فى مرحلة ما بعد ثورة الثلاثين من يونيو، والذى نظر إليها باعتبارها فرصة يجب استغلالها لإنهاء المعادلات الإقليمية التى حاولت توثيق العلاقات مع تركيا على حساب علاقات مصر السياسية والاقتصادية والأمنية مع كل من قبرص واليونان، فكان السعى الثنائى من قبل الدولتين مدفوعا بمسعى مصرى عملياتى مقابل لتوظيف ذلك بمقتضى ما يعرف فى الأدبيات ب»أقتراب الفرصة»، وذلك لتحقيق مصالح مصر الاقتصادية والتجارية من جانب، ورفع تكلفة سياسات تركيا حيال مصر إن على الصعيد السياسى أو الاقتصادي، من جانب آخر، سيما بعدما بدا أن ذلك يشكل أيضا مطلبا قبرصيا –يونانيا مشتركا. غاز المتوسط إن حقول الغاز المكتشفة حديثا فى منطقة شرق المتوسط وفق نمط التحالفات السائد ستدفع بنشوء نظام إقليمى جديد يضم دول هذه المنطقة، بما قد يعنى أن محاور التحالف والصراع ستكون وسيلة كل أطرافه لترسيخ المصالح الاقتصادية، والتى قد تفضى عطفا على ذلك إلى الوصول إلى شركات إستراتيجية لاستغلال حقول الغاز الموجودة على جانبى الحدود بين هذه الدول، وهو الأمر الذى يعنى أن القاعدة التى قد تسود بين الدول المعنية هى win to win، بمعنى أن جميع الأطراف بإمكانها أن تحقق مكاسب، وهى صيغة تٌطرح من قبل مختلف دول شرق المتوسط، خصوصا فى مواجهة مصر، والتى تسعى بدورها إلى ربط مصادر اكتشاف الغاز بالمنشآت النفطية المصرية، غير أن العائق الوحيد يتمثل فى تضارب المواقف السياسية، بين مصر وتركيا من جانب، والأخيرة وكل من قبرص واليونان من جانب آخر. هذا دون غض النظر عن أن الاكتشافات الأخيرة للغاز فى حوض المشرق قد تؤدى إلى تأجيج النزاعات بين الدول المتجاورة - هو الحال بين إسرائيل ولبنان فيما يتعلق بتقسيم ثروة قاع البحر – غير أن هذا لا ينفى فى الوقت عينه أنها قد تساعد على تطوير أطر للتعاون الإقليمي، وتحويل شرق البحر المتوسط إلى منطقة للسلام والتعاون، وليس إلى منطقة للحروب والنزاعات. وعلى الرغم من أن «الطموح الثلاثي» بين مصر وقبرص واليونان لتعميق العلاقات الاقتصادية يصطدم بما تعتبره بعض الاتجاهات المصرية أخطاء اكتنفت عملية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص، فضلا عن عدم التوصل إلى اتفاق نهائى يقضى بتعين الحدود البحرية بين مصر واليونان، وبين مصر وإسرائيل، وبين مصر وقطاع غزة، غير أن الإرادة السياسية التى عبر عنها «إعلان القاهرة» الصادر عن القمة بين قادة الدول الثلاث يشير إلى أن ثمة توجه للبحث عن أرضية مشتركة تحقق مصالح مختلف الأطراف، وترفض الحلول الفردية أو الجزئية التى تحاول انتهاجها تركيا عبر سياسات فرض الأمر الواقع، وذلك فى ظل توتر علاقاتها بمختلف القوى المعنية والتى تتمثل فى قبرص واليونان ومصر ولبنان وسوريا وإسرائيل، وهى دول جميعها بأمس الحاجة لمصادر الطاقة. ورغم هذه المعطيات وما قد تفضى إليه من توترات، فقد يكون من المتصور أن تغدو مصر الطرف الأقوى نسبيا فى معادلة «توازن المصالح» بين هذه الدول لاعتبارات تتعلق بكون أغلب الأطروحات من قبل هذه الدول ومن ضمنها إسرائيل تسعى إلى ربط حقول الغاز بالمنشآت والموانئ المصرية، فضلا عن أن الموقف التركى ذاته من ترسيم الحدود يدعم حقوق مصر فى ثروات غاز المتوسط، وهى مواقف من الممكن أن تؤكد الرؤى المصرية حيال أى نزاع محتمل حول أحقية استغلال أبار الغاز، التى تصنف فنيا باعتبارها قد تكون الأضخم عبر العالم. يأتى ذلك مدعوما بالتطورات الايجابية المتسارعة التى شهدتها علاقات مصر مع قبرص واليونان خلال الشهور الأخيرة، سيما بعد أن أصدر الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى فى التاسع من سبتمبر الماضى قرارا بالموافقة على اتفاقية إطارية وقعت آخر العام الماضى بين مصر وقبرص بشأن التعاون فى تنمية حقول الغاز فى مياه البحر الأبيض المتوسط، كما اتفقت الدولتان على الاستفادة المشتركة من الحقول التى تتداخل عليها الحدود المائية، والاشتراك معاً فى جهود استخراج المواد الهيدروكربونية، بحصص متوازية، آخذا فى الاعتبار أن قبرص كان لها الأسبقية فى إرسال بعثات استكشافية لهذه الحقول، وبدأت العمل فيها فعلياً. ومن شأن التقارب بين العواصم الثلاث، أن يلبى مطالب القاهرة لاستيراد الغاز الطبيعى من الحقول البحرية القبرصية واليونانية، خاصة أنه من المتوقع أن تحصل مصر على تسهيلات فى الاستيراد، لم يكن من السهل الحصول عليها فى السابق. هذه التطورات قد لا تنفصل على جانب آخر، عما تشهده العلاقات المصرية مع الدولتين فى جميع المجالات من تطورات تتسم بالايجابية، حيث شهدت خلال الفترة الأخيرة حراكا سياسيا غير مسبوق، ففى 25 سبتمبر الماضى شارك وزير الخارجية سامح شكرى على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، فى اجتماع آلية المشاورات الثلاثية مع وزيرى خارجية كل من اليونان وقبرص، والتى تعقد اجتماعاتها بشكل دورى بهدف دعم العلاقات الثنائية وتعزيز التشاور المشترك بين الدول الثلاثة حول القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، سيما بعد التعهدات العلنية من قبل كل من اليونان وقبرص بالعمل ك«سفراء لمصر» داخل منظومة الاتحاد الأوروبي. علاقات متعددة الأبعاد تشير التحركات المصرية الأخيرة إلى الرغبة فى الاستفادة اقتصاديا من المواقف السياسية الايجابية التى تبنتها كل من قبرص واليونان حيال تطورات الشأن المصري، لبلورة شراكة لا تقتصر مهامها على البعد السياسى أو الأمني، وإنما أيضا الاقتصادي، باعتباره أحد أهم محددات السياسة الخارجية المصرية التى غدت تتشكل بمقتضى أجندة اقتصادية تحدد الأولويات وتصوغ خطوط التحرك العريضة، وهو ما يفسر مشاركة وزير الخارجية، سامح شكري، آخر الشهر الماضى فى قمة ثلاثية على مستوى وزراء الخارجية مع نظيريه اليونانى والقبرصى فى نيقوسيا، بهدف تعزيز العلاقات فى كل المجالات، سواء التجارية أو الثقافية أو السياحية، أو فى مجال النقل البحري، حيث تم بحث إمكانية توقيع مذكرات تفاهم للتعاون فى مجالات النقل البري، وتشغيل خط ملاحى بين الدول الثلاث، وذلك بعد القرار المصرى الخاص بعدم تجديد اتفاقية «الرورو» مع تركيا. يرتبط ذلك أيضا بكون الجانب الاقتصادى يمثل أحد أهم دعائم العلاقات المشتركة، فَتجمع مصر واليونان علاقات اقتصادية قوية وتزداد باستمرار، فقد بلغ حجم الاستثمارات اليونانية فى مصر نحو 3 مليارات دولار، لتحتل بذلك المركز الرابع بين دول الاتحاد الأوروبى من حيث الاستثمار فى مصر، وبلغ عدد المشروعات الاستثمارية اليونانية زهاء 104 مشروعات، تتوزع فى عدد من القطاعات الإنتاجية والخدمية، من أبرزها الصناعات الكيماوية، وصناعة النسيج، ومواد البناء، وصناعة الأغذية، والخدمات التجارية والاستشارية، ومشروعات النقل والخدمات العامة. وبلغ التبادل التجارى بين البلدين خلال النصف الأول من عام 2014 نحو 1.3 مليار دولار، بنسبة زيادة قدرها 79% مقارنة مع الفترة نفسها من عام 2013، ومن المتوقع أن يصل حجم التبادل التجارى إلى أكثر من 3 مليارات دولار بنهاية العام الجاري. فى المقابل، تحتل مصر المركز السادس بين شركاء اليونان على مستوى العالم، نظرا لزيادة صادراتها بنحو 150%، فيما زادت الصادرات اليونانية إلى مصر بنحو 41% مقارنة بالعام الماضي، فقد كانت تحتل المركز التاسع، وهو ما يوضح أن مصر تمثل الشريك الاقتصادى الأهم بالنسبة لليونان فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفى مجال السياحة فقد أعادت اليونان تشغيل رحلات الطيران إلى مصر مع بداية العام الجاري، تأسيسا على ارتباط أثينا بأواصر متعددة مع القاهرة أهمها تاريخ الجالية اليونانية بمختلف المدن خلال القرنين الماضيين، بالإضافة إلى البعد الدينى المتمثل فى وجود البطرياركية اليونانية بالإسكندرية ودير سانت كاترين بجنوب سيناء. وعلى صعيد العلاقات المصرية - القبرصية، فحجم التبادل التجارى بين البلدين بلغ خلال عام 2013 نحو 67.5 مليون يورو، وهو الأمر الذى يتطلب المزيد من التنسيق والتعاون لزيادة حجم التجارة والاستثمار المشترك، ويصل إجمالى عدد الشركات القبرصية المستثمرة فى مصر زهاء 140 شركة. مستقبل العلاقات يبدو من المرجح أن يفضى التعاون المصرى اليونانى القبرصى سواء على الصعيد السياسى أو الاقتصادى إلى تعميق البعد الأمنى فى العلاقات، خصوصا أن ثمة تعاون عسكرى مصرى يونانى آخذ فى التصاعد. كما أن العلاقات فى شقها الاقتصادى ستكون الركيزة الدافعة لتوثيق العلاقات فى مختلف المجالات، حيث من المتصور أن تسعى مصر إلى تسريع العمل على تفعيل مجلس الأعمال المشترك بين الجانبين، ويجرى حاليا الانتهاء من تشكيل الجانب المصرى بالمجلس، الذى قد يلعب دورا كبيرا ومؤثرا فى فتح مجالات عديدة للتعاون المشترك بين الشركات المصرية ونظيرتها القبرصية، خاصة فى المشروعات التنموية والمقاولات والبنية التحتية وتدوير المخلفات والطاقة وتجارة التجزئة. إن زيارة الرئيس المصرى السابق عادلى منصور إلى اليونان فى يناير الماضي، واستقبال الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الرئيس القبرصي، وذلك بعد أن كان قد شارك فى حفل تنصيب السيسى كرئيس للجمهورية، هذا فضلا عن المشاورات واللقاءات التى جمعت وزراء خارجية الدول الثلاث خلال الشهور الأخيرة، إنما يؤكد أن ثمة نظام إقليمى مؤسسى فرعى فى شرق المتوسط آخذ فى التبلور، نواته الرئيسية تتمثل فى كل من مصر وقبرص واليونان، وهو قد يتخذ من تعميق العلاقات فى شقها التجارى والاقتصادى دافعا لتعزيز العلاقات فى جوانبها الأمنية والعسكرية، ولعل قراءة ما تمخضت عنه أعمال القمة الثلاثية من تفاهمات جسدها «إعلان القاهرة»، يشير إلى ما قد يؤكد ذلك ويدعمه.