قالها المفكر الجزائرى الكبير مالك بن نبى منذ منتصف القرن الماضي.. نحن شعوب لديها قابلية للاستعمار.. إن المتتبع لسياسات التعليم فى مصر يجب ألا يفوته التأمل والتفكر فى هذه المقولة السابقة.. ودعونا نطرح السؤال الذى يجب أن يتفكر فيه من يخططون لاصلاح التعليم فى مصر... هل ساهمت سياسات التعليم المتعاقبة فى تجذير الانقسام القيمى والسلوكى بين أجيال المجتمع الواحد ومن ثم تعددت وتشتتت مواقفه تجاه قضايا الوطن المصيرية وأهدافه المبتغاة ؟ هل تعددية أنماط التعليم فى مصر بين تعليم حكومى وخاص وأجنبى وأزهرى ودولي، ومهنى وغيره لم تعط الألوية للخيار الديمقراطى فى تفعيل حق كل جماعة اجتماعية فى التعبير عن نفسها وحاجاتها فى التنشئة؟ للدهشة إن المتتبع للمشهد المصرى يرى أن الإجابة على السؤال السابق بلا تردد هى نعم اذ من الملاحظ انه ليس هناك ضامن واحد أن أنواع التعليم المتعددة التى شهدتها مصر فى العقود الثلاثة السابقة أدت المهمة المنوطة بها فى تطوير العقول و خلق مساحة تفاوضية مشتركة يبزغ منها وحدة ثقافية للأجيال المتعاقبة، أو أنه حتى تعدد أنماط التعليم لم تتناقض مع تخليد المنظومة المجتمعية الحافظة للكيانات المجتمعية، أو وحد التعليم مواقف هذه الأجيال تجاه حدود دور الدولة وعلاقتها بالمجتمع وأهدافه فى التقدم والبناء.. بل على العكس ساعدت أنماط التعليم فى تشكيل توجهات كارثية أحيانا من الهوية المصرية الواحدة ومن ثم الانتماء للوطن فوأد التعليم بذلك الشروط المسبقة لبناء أى دولة وتماسك أى مجتمع. وزاد الأمر سوءا تسييس أنواع معينة من التعليم مما يطيح بعدالة المعادلة السياسية ..من يحصل على ماذا؟ وفرغ المسعى الدستوري- للسياسة التعليمية فى مصر من توفير فرص تعليمية متكافئة لكل المصريين- من محتواه بل وجعله ضربا من الكوميديا السوداء ليظل دائما كل ما تردده مؤسسات الدولة عن أحقية التعليم مفردات خطاب واهمة وزائفة بل وهادمة لكل ماهو وطني. ويجيء ازدراء هذا الخطاب الحكومى من ديمومة اخفاق الجكومات المتعاقبة فى تحقيق العدالة التعليمية والتى ترتبط بأحقية كل مصرى متعلم فى سوق العمل.. فتجربة هذه الأجيال أكدت أن تكون مصريا من دارسى إحدى مدارساللغات، أو المدارس الدولية ، فأنت من المحظوظين فى سوق العمل والمحافل العامة حتى لو تضاءلت أو حتى اختفت قدراتك المعرفية عن دولتك وتاريخها وميراثها الثقافى والأدبي، وأضحيت مسخا من الدولة التى تغذيك بثقافتها التعليمية..أما أن تكون مصريا من دارسى مدرسة حكومية وطنية أو من شعب التدريس باللغة العربية داخل الجامعة المصرية الحكومية فستجد - بالكاد اذا كنت محظوظا- مكانا لك فى سوق العمل المماثل لمن ينتمى لنفس جيلك، حتى لو كنت تفوقه أنت معرفيا ومهاريا..ضربا من اختلال منظومات الأحقية فى المجتمع المصرى شكلت طاقة سلبية تجاه الدولة وهويتها وصلت الى أن الأمر لم يعد يقتصر على سوق العمل، بل يصل الأمر الى حد التفاخر ودون خجل فى اللقاءات الاجتماعية العامة، أو فى وسائل الاعلام المأجورة لمن يروجون لمثل هذه القيم الهادمة من أن فلانا فرانكوفوني، أوانجلوسكسوني!!، بل تصل الشيزوفرينيا المجتمعية لأقصاها حينما نفتخر كآباء وأمهات أن بناتنا وأولادنا لا يعرفون اللغة العربية ولا قواعدها بل ويلوكونها بشكل خاطيء، فى حين تعترينا حمرة الخجل من أننا لا نستطيع تقليد اللكنة الفرنسية، أو الألمانية، أو الانجليزية.. أى أمة هذه، وأى قيم مجتمعية ننشيء الصغار عليها؟ ومن ثم لا عجب ان يكون نتاج ذلك كله تراجع مقولة أن التعليم محفز للحراك الاجتماعى اذ سيقتصر التعليم فى هذه الحالة على تعليم الأغنياء الذين سيزيدهم غنى ليتحكم المال فى مخرج العلم وليس العكس.. ويبقى تعليم الفقراء مخلدا للإحباط والقهر الاقتصادى لتضيع قيمته وتتناثر فوائده..ناهيك عن تبنى هذه الطبقة الغنية والتى من المفترض أن تقود المجتمع لقيم التغريب، وحب السلطة والمال، والاستعلاء على كل ماهو تقليدى وأصيل، وتشيع الأنانية وحب الذات.. ولم لا ، وقد حقن معظمهم منذ نعومة أظافرهم بالتمحور حول تضخيم الأنا، ونسيان الآخر الأدنى دائما لأنه غير قادر على تبنى نفس منظومتهم...فالآخر بالنسبة لهم ليس من حقه أن يعارض توجهاتهم، أو ينتمى الى تجمعاتهم، أو يشاركهم قاعات محاضراتهم، أو حتى يطالبهم بدراسة موادهم وكتبهم، وكأن لسان حاله يقول.. لكم مجتمعكم ولى مجتمعي، ولكم قيمكم ولى قيمي، ولكم وطنكم ولى وطني.. ليتآكل الأسمنت المجتمعى فى مجتمعاتنا، وتتناثر أشلاء قيمه وسلوك أفراده القويم، ويسود نفوس أبناء الجيل الواحد نفور وانقسام استعلاء غريبا يذكرنا بنفور الغرب من الحضارات الشرقية العظيمة فى الماضى السحيق بحثا فى انتيكات التاريخ عن حضارة مختلفة، وذات مختلفة ولم يكن ليتحقق له ذلك بالطبع الا اذا روج لهذه الذات الجديدة بأن كل ما جاء من الآخر الشرق يرتبط بالسحر والشعوذة والبربرية.. لتسعى هذه الفئة الساذجة والسطحية المتبنية نفس فكرة الغرب الى ترويج ثقافة استعلائية على كل ماهو وطنى ومحلى حتى لو طال ذلك لغة التخاطب والتواصل بين الناس لتزيد فجوة التباعد الاجتماعى بين أبناء الجيل الواحد فى أكذوبة لامثيل لها فى كل نظم التعليم فى العالم والتى ارتضت أن تسمى التعليم الأجنبى تعليما متميزا والتعليم المصرى تعليما أقل ليكون ذلك فى المجتمعات مدعاة لحسابها سياسيا ومجتمعيا لأنه ببساطة يعنى عجزها أن تنهض بكل أنواع التعليم واعترافا ضمنيا منها ليس فقط بأنه على أرضها الحضارية تعليم غير متميز، بل إن تعليم الدولة دائما هو الأقل!! لقد سادت معايير الغرب فى سوق العمل المصرى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لمزيد من مقالات د. أمانى مسعود الحدينى