عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الأحد 28 إبريل 2024 بالصاغة    بعد التراجع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 28 أبريل 2024 بالأسواق    أمطار رعدية على هذه المناطق.. بيان عاجل من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم (لا تنخدعوا)    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    هيئة كبار العلماء السعودية تحذر الحجاج من ارتكاب هذا الفعل: فاعله مذنب (تفاصيل)    نشرة التوك شو| بطيخ مسرطن ومشادة بين "صلاح ويورجن كلوب" وبيان لصندوق النقد    موعد مباراة ليفربول المقبلة بعد التعادل مع وست هام في الدوري الإنجليزي    عاجل.. حسام البدري يفجر مفاجأة حول عرض تدريب الزمالك    هل مرض الكبد وراثي؟.. اتخذ الاحتياطات اللازمة    لأول مرة بالمهرجانات المصرية.. "الإسكندرية للفيلم القصير" يعرض أفلام سينما المكفوفين    العالم الهولندي يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة ويكشف عن مكانه    أهالي الأسرى يُطالبون "نتنياهو" بوقف الحرب على غزة    مصدر أمني إسرائيلي: تأجيل عملية رفح حال إبرام صفقة تبادل    قصف كثيف على منطقة ميرون شمال إسرائيل وعشرات الانفجارات في المنطقة (فيديو)    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم عدة قرى غرب جنين    المجموعة العربية: نعارض اجتياح رفح الفلسطينية ونطالب بوقف فوري لإطلاق النار    بشرى للموظفين.. 4 أيام إجازة مدفوعة الأجر    متحدث الكنيسة: الصلاة في أسبوع الآلام لها خصوصية شديدة ونتخلى عن أمور دنيوية    تشيلسي يفرض التعادل على أستون فيلا في البريميرليج    حسام غالي: كوبر كان يقول لنا "الأهلي يفوز بالحكام ولو دربت ضدكم (هقطعكم)"    نصف تتويج.. عودة باريس بالتعادل لا تكفي لحسم اللقب ولكن    المندوه: هذا سبب إصابة شيكابالا.. والكل يشعر بأهمية مباراة دريمز    اجتماع مع تذكرتي والسعة الكاملة.. الأهلي يكشف استعدادات مواجهة الترجي بنهائي أفريقيا    ألميريا يهبط إلى دوري الدرجة الثانية الإسباني بعد الخسارة من خيتافي    الأردن تصدر طوابعًا عن أحداث محاكمة وصلب السيد المسيح    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا    أول تعليق من الأزهر على جريمة طفل شبرا    مصدر أمني يكشف تفاصيل مداخلة هاتفية لأحد الأشخاص ادعى العثور على آثار بأحد المنازل    ضبط 7 متهمين بالاتجار فى المخدرات    قطار يدهس شاب أثناء عبوره مزلقان قليوب    «مينفعش نكون بنستورد لحوم ونصدر!».. شعبة القصابين تطالب بوقف التصدير للدول العربية    وفاة الفنان العراقي عامر جهاد    عمرو أديب: مصر تستفيد من وجود اللاجئين الأجانب على أرضها    غادة إبراهيم بعد توقفها 7 سنوات عن العمل: «عايشة من خير والدي» (خاص)    نيكول سابا تحيي حفلا غنائيا بنادي وادي دجلة بهذا الموعد    الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري للبيع والشراء اليوم الأحد 28 إبريل 2024 (آخر تحديث)    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    تحولات الطاقة: نحو مستقبل أكثر استدامة وفاعلية    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    دهاء أنور السادات واستراتيجية التعالي.. ماذا قال عنه كيسنجر؟    السفير الروسي بالقاهرة يشيد بمستوى العلاقة بين مصر وروسيا في عهد الرئيس السيسي    «الأزهر للفتاوى الإلكترونية»: دخول المواقع المعنية بصناعة الجريمة حرام    ضبط وتحرير 10 محاضر تموينية خلال حملات مكبرة بالعريش    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    رئيس جامعة أسيوط يشارك اجتماع المجلس الأعلى للجامعات بالجامعة المصرية اليابانية للعلوم    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    "مدبولي" يصل الرياض للمشاركة في المنتدى الاقتصادي العالمي    شرايين الحياة إلى سيناء    جامعة كفر الشيخ تنظم احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة    أمين صندوق «الأطباء» يعلن تفاصيل جهود تطوير أندية النقابة (تفاصيل)    سمير فرج: طالب الأكاديمية العسكرية يدرس محاكاة كاملة للحرب    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لبيك يا عُراق
نشر في الأهرام اليومي يوم 04 - 07 - 2014

بينما كان الأوروبيون يعيشون الظلمات كانت شعوب ما بين النهرين ترتع فى ساحات النور،
وبقدوم عام 3000 قبل الميلاد كانوا قد اخترعوا كل شيء من الكتابة إلى الرى، وارتدى ملوكهم التيجان المرصعة بأحجار اللازورد والعقيق، وانعقدت مجالس السمر تلعب النرد وترمى الزهر وتسمع موسيقى القيثارة فى مدن مثل «بابل» التى شيدت قبل الميلاد بستمائة عام وضمت برج بابل والحدائق المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع، ومثل «أوروك» التى بلغ حجم سكانها 400 ألف نسمة يعيشون فى منازل بطوابق تتوسطها الميادين والنوافير وغيرها من المدن عشرات تتصل فيما بينها بشبكة طرق تمتد شرقاً إلى وادى الأندلس «شمال غرب الهند» وغرباً إلى البحر المتوسط.. حضارة دونت سجلاتها الرسمية قبل الميلاد بالخط المسمارى ووضعت حساباتها فى ظل علوم الرياضيات.. تاريخ حافل تعاقب على بلاد ما بين النهرين يحمل حضارات السومارية والأكدية والبابلية والآشورية، وبقيت آثاره تصارع الأزمان لتمثل فى متحف العراق من العصر الحجرى البسيط حتى عصرنا الحجرى المخيف ليتم نهبها وتدميرها عام 1991 عندما أسقطت قوات التحالف على العراق فى أقل من شهر ما زنته أكثر من ألف طن من القنابل العنقودية والنابالم وقذائف اليورانيوم، أى ما يعادل القوة التفجيرية لسبع قنابل ذرية من نوعية قنبلة هيروشيما وُزِّعت على العراق بأكمله فأجهزت على البنية الأساسية للبلد بما فيها المتاحف والأماكن الأثرية.. واليوم تقضى «داعش» فى مسيرة الإبادة على ما تبقى من حضارة العراق فتدمر تمثالى الملحن اسحق الموصلى والشاعر أبى تمام وقبر فيلسوف العرب فى القرن الثانى عشر «ابن الأثير».. وأين من العراق الآن شاعرها الجواهرى الذى كتب يوماً «يا دجلة الخير»:
يا دجلة الخير خلينى وما قَسَمتْ
لى المقادير من لدغ الثعابين
وكان الجواهرى فى خطاباته لا ينطق اسم العراق على الإطلاق «بكسر العين» ولكنه كان ينطقها على الدوام «عُراق» بضم العين، ويسألونه عن السبب وراء نطقه الغريب فيقول: «يعز علىّ كسر عين العراق»! وقد رحل الجواهرى دون أن يشهد انكسار العراق على مختلف المستويات: سياسياً واجتماعياً وجغرافياً.. وإذا ما كان فتى البصرة وعالم الكوفة وأفصح شعراء العراق «أبو نواس الحسن ابن هانئ» قد أفرط يوماً فى شعر المجون فإنه عندما هبطت الشدائد على بغداد رفع يديه إلى السماء ابتهالا ليقول:
إلهنا ما أعدلك.. مليك كل من ملك
لبيك إن الحمد لك.. والملك لا شريك لك
ما خاب عبد أمّلك.. أنت له حيث سلك
لولاك يارب هلك.. لبيك إن الحمد لك
كل نبى وملك.. كل عبد سألك
سبح أو لبىّ فلك.. لبيك إن الحمد لك
يا خاطئا ما أغفلك.. اعمل وبادر أجلك
واختم بخير عملك.. لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك.. مليك كل من ملك
رياض السنباطى.. القيّمة والقِمة
أزيح الستار عن رياض السنباطى عازف العود الشاب الموهوب ممسكا بريشته ليرتجل تقاسيمه بفيضها المتدفق السريع الزاخر حينا الهادئ حينا كأنه الهمس الرقيق الرفيق، متنقلا بخبرة الدارس مع الخيال الخصب والإلهام المسترسل وفهم المقامات، لتتمايل الرءوس.. الله.. الحفل كان بمناسبة تغيير اسم نادى الموسيقى إلى معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية ويحضره فؤاد ملك مصر وحاشيته وكبار القوم.. وما أن بدأت ريشة اليد اليمنى تقرع الأوتار مرات لتعفق اليسرى بالعود من رقبته لتضيف زخارف تزيد العزف جمالا ورونقا، وما أن بدأ روقان العازف ينجلى ويتجلى فى حضور الملك حتى انبثقت ضجة الجارسونات وصولات وجولات تقديم الأطباق والمرطبات فوق موائد الضيوف ليهرب وحى الموسيقى مما أعاق سرد الأنغام الملهمة لساعتها، وأهان الفنان فى أوج عطائه فلزم الصمت الفجائى ووضع الريشة جانبا وحمل عوده وقام مغادرا ليس إلى البهو الخارجى وإنما إلى بيته رأسا ليقدم استقالته من المعهد الملكى مع الصباح التالى..
محمد رياض السنباطى أعظم وأبرع عازف عود ظهر على مدى التاريخ.. من كان عندما يجلس إلى عوده تشعر كأنه فرقة موسيقية مستقلة.. الذى غادر قاعة يترأسها الملك فؤاد الأب ليعزف بعدها للملك فاروق الابن لتغنى على ألحانه أم كلثوم كوكب الشرق فى ليلة عيد الفطر مساء الأحد17 سبتمبر1936 فى حديقة النادى الأهلى بالجزيرة طقطوقة «يا ليلة العيد أنستينا» لتحول تشكيل كلمة الكوبليه الأول عند دخول الملك القاعة من «هلالك هل لعنينا» إلى «هلالك هل بعنينا» ليتحول المعنى احتفاء بالملك الذى هل على الحفل، ولهذا أنعم فاروق على أم كلثوم بوشاح الكمال لتغدو بموجبه صاحبة العصمة، وليلتها نودى على مصطفى أمين من بين الحاضرين وطلب منه أن يصعد معلنا نبأ حصول أم كلثوم على منحة نيشان الكمال من الملك المفدى.. وكانت أم كلثوم قد غنت نت قبل فى معهد فؤاد للموسيقى العربية أمام الملك فؤاد الذى صفق لها كثيرا خاصة حين غنت له «أفديه إن حفظ الهوى وملك الفؤاد».. وتواكب ألحان السنباطى بصحبة حنجرة أم كلثوم تاريخ مصر منذ عام1936 فيقدمان من كلمات أحمد شوقى بمناسبة تولى فاروق سلطته الدستورية قصيدة مطلعها: «الملك بين يديك فى إقباله عوذت ملكك بالنبى وآله» وفى عيد ميلاد الملك عام1937 يقدمان من أشعار أحمد رامى الأغنية المسجلة التى مطلعها «اجمعى يا مصر أزهار الأماني»، وبمناسبة زفافه إلى فريدة تترنم أم كلثوم بألحان السنباطى «أشرقت شمس التهانى تملأ الدنيا بهاء وضياء».
ومن كلمات بديع خيرى يلتقى اللحن والصوت أم كلثوم والسنباطى فى أغنية الزفة ليلة فرح الإمبراطورة فوزية وإمبراطور إيران الشاهنشاه محمد شهبور، حيث طلبت الملكة نازلى من أم كلثوم أن تزف العروسين بعد أن رأت الخروج عن تقاليد العائلات الكبيرة التى تلجأ فى زفة أى عروس إلى فرقة بديعة مصابنى أو فرقة ثريا سالم، ووقعت أم كلثوم فى حرج شديد حيث كانت قد وضعت مبدأ لا تحيد عنه وهو غناء وصلتها فقط فى أى زفاف مع عدم الاشتراك فى السير وراء دفوف العروسين للجلوس فوق الكوشة، ونزولا على أوامر الأسرة الحاكمة قبلت أم كلثوم على أن يكونا أول وآخر عروسين تزفهما، وقد أعدت سريعا للمناسبة الإمبراطورية فستان من الدانتيل الأسود، وعلمت نازلى من الخياطة ريتا بأمر اللون الأسود فسارعت تطلب فورا تغييره إلى البمبي، وكانت أول مرة يبطن فيها فستان غامق باللون الفاتح حتى أنها أصبحت موضة أطلقت عليها ريتا الخياطة اسم موضة ثومة..
وتبث الإذاعة بمناسبة عيد ميلاد المليك في11 فبراير1946 أغنية السنباطى بصوت كوكب الشرق الآنسة أم كلثوم «أيقظى يا طير نعسان الورود»، وتغنى أم كلثوم «سلوا قلبي» لأمير الشعراء أحمد شوقى من ألحان السنباطى بعد أن أضاف لها الشاعر محمد الأسمر خمسة أبيات احتفاء بضيف البلاد الملك عبدالعزيز آل سعود ومضيفه جلالة الملك فاروق لتظل القصيدة تذاع يوميا طوال أيام تشريف عاهل السعودية فى مصر وإلى ما بعدها بأيام لتحذف الإضافة من بعدها وكانت بعد البيت الأخير فى قصيدة شوقي:
وما للمسلمين سواك حصن إذا
ما الضر مسهمو ونابا
فأضافت الأبيات:
وكيف ينالهم عنت وفيهم
رضا ملكين بل روضين طابا
إذا الفاروق باسم الله نادي
رأى عبدالعزيز قد استجابا
فصن يا ربنا الملكين واحفظ
بلادهما وجنبها الصعابا
هما فجر العروبة أنجبته
فقالت يومى المرجو آبا
إذا اتحدت أسود الشرق عزت
عروبتهم وصار الشرق غابا
ويواكبا معا السنباطى وأم كلثوم أحداث تاريخ مصر لتغنى من ألحانه 96 طقطوقة وأغنية وقصيدة منها33 أغنية سياسية ووطنية بينها «طوف وشوف» وهى الأغنية الوحيدة التى حضرها السنباطى بنفسه إذ قاد الفرقة الموسيقية أمام جمال عبدالناصر فى احتفالات1963 عندما أبدى ناصر لأم كلثوم رغبته فى ملاقاته، وغنت من أشعار صالح جودت أيضا بعد الهزيمة من ألحان السنباطي:
انت الناصر والمنصور
ابق فأنت حبيب الشعب
قم للشعب وبدد يأسه
واذكر غده واطرح أمسه
وهى أغنية تناشده فيها البقاء فى الحكم أذيعت لمدة يومين فقط، وغنت من ألحان السنباطى عند موت عبدالناصر قصيدة لنزار قبانى «رسالة إلى عبدالناصر» وبعدها لم تغن أية أغنية سياسية أو وطنية، هذا مع أن الثورة عندما قامت ألغت جميع الألقاب بما فيها لقبها الملكى «صاحبة العصمة» فخلع عليها الأصدقاء لقب «كوكب الشرق» تخفيفا عليها من فقدان التميز، وبلغ الغضب منتهاه بأم كلثوم عندما منعت الإذاعة جميع أغانيها باعتبارها من آثار العهد الملكي، لكن عبدالناصر عندما بلغه الأمر من مصطفى أمين سارع يعيد الكروان إلى سماواته قائلا: إذا كانت أم كلثوم من رموز العهد الماضى فلماذا لا نردم النيل ونهدم الهرم؟!.
ويأتى السادات الذى يريد تكريم السنباطى بمنحه جائزة الدولة التقديرية فى عام1980، وحدث أن انتظره السنباطى على مدى ساعتين، غادر بعدها اعتزازا بنفسه قائلا: ابقوا ابعتولى عندما يحضر..وطلب السادات منه الغناء والعزف أمامه فى إحدى الحفلات لكنه رفض الأمر مما أثار استياء السادات منه حتى وفاته في9 سبتمبر عام1981، ورغم ذلك منحه السادات التقديرية ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولي، والدكتوراه الفخرية عام1977 لدوره الكبير فى الحفاظ على الموسيقى العربية، وفى العام نفسه حصل رياض السنباطى على جائزة اليونسكو العالمية باعتباره مبدعا وخلاقا ومؤثرا بموسيقاه فى شعوب المنطقة، وهو الوحيد فى الوطن العربى الذى نال هذه الجائزة، كما أنه كان واحدا من خمسة فقط فى العالم الذين حصلوا عليها.. وأبدا لم يحضر السنباطى حفلة واحدة من حفلات أم كلثوم كمستمع فى الصف الأول مثل الشاعر أحمد رامى ليرقب تأثير فنه على حنجرتها، ولا مثل محمد عبدالوهاب الذى كان يقف خلف الستار يتلمس إعجاب الجمهور بألحانه فى لقاء السحاب مع أغنيته لثومة انت عمرى.. كان زاهدا فى مثل هذا الموقف، ومنذ بدأت معه أم كلثوم كان يفضل الانفراد بصوتها فى حجرته الخاصة حيث لا يقطع خلوته ومتعته أحد.
بلبل المنصورة رائد النهضة الكلثومية حارس الموسيقى العربية الصارم الذى ألغى تسجيلا مع إحدى الفرق لضبطه عازفا يدخن.. اللائذ بالصمت لأنه يمتلك بصيرة الأعماق. فن استماع القلب للكلمات. فن تواصل الذهن بجنين الخلق عبر حبل الإلهام السرى.. فن التلقى. فن التوحد فى سكون واستغراق يسمع فيه نداء الكلمة وصوت اللحن ونبض الآلات.. وحسبوه بصمته متكبرا، وفات عليهم الخيط الدقيق بين التكبر والكبرياء.. بين الشموخ وعزة النفس لمن لم يتهافت على الظهور ولم يشتر رياء الثناء أو سلطان النفوذ أو ابتغاء المنفعة أو اشتهاء المال، بل كان متوحدا عزيزا معتزا..
فنان القيمة والقمة صاحب العطاء الموسيقى بتراثه الخالد، والخالدون كما قال شوقى أربعة: شاعر سار بيته، ورسام ضحك زيته، ونحات نطق حجره، وموسيقى بكى وتره.. ولقد بكى وضحك وعشق ورق وهجر وذاب وأذاب وسهر وأطال السهر وتر رياض السنباطى على مدي50 عاما قدم فيها1000 لحن و13أوبريت كان من كتاب كلماتها أحمد شوقي، ومحمد إقبال، وصالح جودت، وحسين السيد، ورامي، وبيرم التونسي، والشناوي، وعزيز أباظة، وصلاح جاهين وإبراهيم ناجى.. وعباس العقاد الذى كتب له أغنية «يا نديم الصبوات أقبل الليل فهات» والتى أذيعت للمرة الأولى مساء الأحد 14 نوفمبر1943.. مسيرة ألحان يقول عنها صاحبها: تأثرت بالملحنين القدامى.. بأداء عبده الحامولى ومحمد عثمان وعبدالحى حلمي، وبموسيقى سيد درويش، كما تأثرت بالشيخ محمد رفعت والشيخ على محمود والشيخ محمد صبح، وكان لهؤلاء جميعا أثرهم فى تكوينى الفني» وما بين «بلد المحبوب» لأم كلثوم و«الثلاثية المقدسة» استطاع مع كوكب الشرق سريعا التخلص من جاذبية أسلافه فى التلحين لينطلق كالصاروخ فى الفضاء الفسيح لهذا الفن العظيم، فن تلحين القصائد الذى فتح له صوت أم كلثوم عبرها أبوابا سحرية لم تكن تخطر له على بال، فتفتحت موهبته ليظل حريصا على تلبية متطلبات صوتها ويرتفع إلى مستوى الإمكانات العبقرية لهذا الصوت النادر التى كانت صاحبته بدورها لا تناديه باسمه وإنما بلقب «العبقري».. العبقرى الذى لم يستخدم جملة موسيقية آتية من أى اتجاه، فموسيقاه نابعة من زخم عطاء عبقريته.. من «السنبطة» فى أوج قدرتها على الكشف عن أجمل مناطق كل صوت. والغالبية لا تعرف من السنباطى إلا كلثومياته، مع أن من يغفل ألحانه غير الكلثومية يكون قد أسقط ظلما أكثر من نصف ميراثه الموسيقى الضخم فى الموسيقى العربية المعاصرة، فهناك97 أغنية لم تشدو بها كوكب الشرق، و12أغنية غناها بنفسه إلى جانب36 معزوفة كانت تبثها الإذاعة المصرية فى بداياتها لمدة ساعتين مرتين فى الأسبوع أشهرها معزوفة «رقصة شنغهاي» و«عرائس البحر» وإليها و«رحيل الفلك».. هذا إلى جانب ظهوره فى ثلاثة أفلام أولها فى فيلم «الوردة البيضاء» بطولة محمد عبدالوهاب وسميرة خلوصي، حيث لم يتعد ظهوره نصف دقيقة فقط كعازف للعود فى التخت المصاحب لمحمد أفندي، والفيلم الثانى بعنوان حلم الشباب ظهر فيه يقود سيارته وهو يغنى قصيدة حلم الشباب، والثالث قام فيه بدور البطولة أمام هدى سلطان لتغنى من ألحانه «قتلونى يابوي».. وقد غنت له أم كلثوم «على بلد المحبوب ودينى زاد وجدى والبعد كاويني» على أسطوانة وكان قد وضعها أصلا لها لفيلم وداد فلم تعجبها ليغنيها عبده السروجي، وندمت بعدها لعدم ظهورها فى الفيلم، ويقول السنباطى إنها كانت من أندر هفوات أم كلثوم فى تقديرها للألحان.
ورغم ندرة أحاديثه يقول السنباطى عن بداياته: ولدت فى الثلاثين من مارس عام1911 ببلدة فارسكور، وفى سن الثامنة رحلت مع والدى إلى المنصورة، وحدث لى ما يحدث لكل هاو للفن.. كنت أهرب من المدرسة إلى دكان نجار من هواة العزف، ولكن معلمى الحقيقى كان أبى.. ويلتقى السنباطى وهو فى الثالثة عشرة بسيد درويش الذى يعجب به فيصحبه إلى حلوانى المنصورة الشهير راندو بولو ليعزمه على الجاتوه، ويزداد اقتناعه به عندما يغنى أمامه أغانيه الشهيرة أنا هويت وانتهيت وضيعت مستقبل حياتي، وأدرك سيد درويش أنه أمام موهبة نادرة فأراد أن يصحب رياض معه، لكن الوالد محمد السنباطى لم يكن فى استطاعته الابتعاد عن الابن الذى أصبح بلبل الفرقة، ولا يسافر رياض السنباطى فى صحبة والده إلى القاهرة إلا فى عام1930، ويقول: قبلت فى معهد الموسيقى العربية كأستاذ عود وليس كتلميذ، وفرحت لأن هذا سيغطى نفقات دراستى بل سيكون لى راتب، وقد رشحنى مدحت عاصم للتعاون مع شركة أسطوانات أوديون لتلحين عدد من الأغنيات لعدة مطربين وكان أول لحن لى مع أم كلثوم «النوم يداعب عيون حبيبي» وكانت أصعب ألحانى معها «الأطلال».. كنت خائفا من الأداء.. لم أكن واثقا لأول مرة فى حياتى من أداء أم كلثوم، ولما أخبرتها بالتليفون بمخاوفى قبل الحفل قالت لي: ماتخفش يا جدع، وحتشوف حاعمل إيه فى العمق اللى انت عاوزه وخايف عليه. وطغت الأطلال ولم يعد هناك سواها، لتتضاءل أمامها كل الألحان التى أتت بعدها بما فيها ألحان السنباطى نفسه.
وتلتقى الشهرة مع الحب مع مالكة القلب والدار.. الزوجة.. كوكب عبدالبر المنوفي، من التقى بها فى قعدة بمنزل الوجيه حافظ بك بهجت من عشاق الطرب الأصيل، ويبتسم صاحب الإعجاب الفورى ليسألها صاحبه: تحبى تسمعى إيه؟ فترد باستحياء وبساطة شديدة: أحب أسمع الجندول، ويأتى رده الدبلوماسى برقة بالغة: والله الجندول دى مش بتاعتي، وأنا مش حافظها أنا حاسمعك حاجة تانية.. وتتلاحق مقدمات وقرارات الإعجاب ليتم الزفاف مساء الأحد الموافق17 مارس1940 الذى تشترك فيه أم كلثوم بالحضور والغناء بوصلتين منها «يا طول عذابى واشتياقي».. وينتهى الحفل مع خيوط الفجر بوصلة محمد عبدالمطلب «شفت حبيبى وفرحت معاه ده الوصل جميل حلو يا محلاه»..
وفى إنصاتى العميق لراوية رياض السنباطى الابنة الكبرى للموسيقار التى ولدت كما يحسب والدها السنين فى موسم «سلوا كئوس الطلا» وهناك شقيقتها رفيعة التى ولدت مع قصيدة «كيف مرت على هواك القلوب»، وميرفت التى جاءت فى عام «جددت حبك ليه»، ومحمد الذى ولد فى موسم «سهران لوحدي»، وأحمد من ولد مع قصيدة «ولد الهدي» وناهد صغرى كريماته من جاءت مع أغنية «يا ظالمني».. مع راوية البكرية ألمس حرص والدها على الحس الشعبى فى موسيقاه الشعبية وكأنها من تلحين الشعب كله، وكأن البلاد كلها تغنى اللحن بصوت واحد متعدد الطبقات مثل أغنيته «وحوى يا وحوي» و«على بلد المحبوب» التى تمثل الحنين الجارف للديار.. الأب ذو المواعيد المقدسة حتى يقال عنه مواعيد سنباطى أكثر من مواعيد إنجليزي، وقد أتى أحد الصحفيين إليه بعد موعده بثلاث دقائق فخرج إليه يقول: أنا مش موجود، وكان إذا لم يجلس إلى عوده يعزف على جميع الآلات الموسيقية فى غرف البيت: الماندولين والبيانو والناى.. وكان مصيفنا الأول فى هانوفيل العجمى عندما كان الشاطئ شاغرا ليجلس متأملا بحور الماء والرمال.
وأنا وأنت وهو وهى وكلنا عندما لمس الحب قلبنا غنينا مع ألحان السنباطى فى جلسة أمام موج البحر وتحت الشجر وفوق الجبل وفى زورق يتهادى بين شطين وميه: وأقول لك إيه عن الشوق يا حبيبى. عايزة أعرف لتكون غضبان أو شاغل قلبك إنسان. حيرت قلبى معاك. دليلى احتار وحيرنى. أطفئ لظى القلب بشهد الرضاب فإنما الأيام مثل السحاب. لست أنساك وقد أغريتنى بفم عذب المناداة رقيق. عودت عينى على رؤياك. من أجل عينيك عشقت الهوى. سهران لوحدى. والموج يناغى النسيم يحكى له قصة هوانا. والقلب يعشق كل جميل. واثق الخطوة يمشى ملكا. ظالم الحسن شهى الكبرياء. أولى بهذا القلب أن يخفق وفى ضرام الحب أن يحرق. ما أضيع اليوم الذى مر بى من غير أن أهوى وأن أعشق. أين منى مجلس أنت به؟! كيف ذاك الحب أمسى خبرا وحديثا من أحاديث الجوى. حتى الجفا محروم منه. أنا اللى أخلصت فى ودى وفضلت طول العمر أمين. ياللى كان يشجيك أنينى. بفكر فيك وأنا ناسى. أغار من نسمة الجنوب على محياك يا حبيبى. أكاد أشك فيك وأنت منى. وما أنا بمصدق فيك قولا ولكنى شقيت بحسن ظنى. وإذا ما التأم جرح جَدَّ بالتذكار جرح. جرح الأحبة عندى غير ذى ألم. هجرتك. قصة الأمس. قصة هوايا. يالذكراك التى عاشت بها روحى على الوهم سنينا. ذكرياتى عشت فيها بيقين وهى قرب ووصال. اذكرينى كلما الفجر بدا. يصعب على أقول لك كان وأفكرك بليالى زمان وأوصف فى جنتها وأصور. حديث الروح. يا فؤادى لا تسل أين الهوى. يقول الناس إنك خنت عهدى ولم تحفظ هواى ولم تصنى. أجبنى إذا سألتك هل صحيح حديث الناس. خنت؟!.. ألم تخني؟!.. هجرتك والأسى يدمى فؤادى وصنت كرامتى من قبل حبى. لما انت ناوية تهاجرينى أمال دموعك كانت ليه؟!. أروح لمين وأقول يا مين ينصفنى منك؟! وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. لا يا حبيبى. أنا لن أعود إليك. لسه فاكر قلبى يديلك أمان. أراك عصى الدمع شيمتك الصبر. آه من قيدك أدمى معصمى. يا حبيبى كل شيء بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء. ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء، فإذا أنكر خل خله وتلاقينا لقاء الغرباء ومضى كل إلى غايته لا تقل شئنا فإن الحظ شاء. فتعلم كيف تنسى وتعلم كيف تعفو. أقبل الليل. ويسهر المصباح والأقداح والذكرى معى وعيون الليل يخبو نورها فى أدمعى.. الحب كده!
وبصوته الربانى المعطر بالموهبة الخصوصى بنعومة الحرير وملمس الابتهال ورهبة المحلق فى دعائه لخالقه يغنى السنباطى ما لم تستطعه جميع الحناجر التى خلع عليها ألحانه. تنساب العبارات والعبرات فى الأعماق وعلى الأسطح عندما يغنى حاشدا مجامع حرقته ولوعته وورعه وصلاته ونسكه وتقواه ليرفع رسالته الوجدانية فى خشوع للسماء: إله الكون سامحنى أنا حيران..
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.