كما يقع الأغبياء فى الأخطاء الجسيمة، يقع أيضا الأذكياء فى نفس الأخطاء، ربما أشد، فالمشكلة ليست فى ارتكاب الأخطاء التى لا ينجو منها أحد، لكن المشكلة الحقيقية لخصها العالم البريطانى الراحل «برتراند راسل» أن الأغبياء المتشددين، واثقون من أنفسهم أشد الثقة!، بينما الحكماء فتملأهم الشكوك، فهذه الشكوك هى المنقذ، فتفتح الباب للوصول للأفضل فى الفكر والسلوك فى مختلف مناحى الحياة الحلوة! فالمفكر الاشتراكى «فلاديمير لينين» اقتنع تماما فى بداية القرن ال 20 أن الرأسمالية قد انتهت، بعد أن كشف الغطاء عنها، وأوضح كيف أن الامبريالية هى أعلى مراحلها، فهى تقوم على الظلم واستغلال الكادحين والفقراء، ثم أتى المفكر الأمريكى فرانسيس فوكوياما فى نهاية القرن ذاته، ليعلن نهاية التاريخ بانتصار الرأسمالية، بما تحمله من أفكار تدعم قدرات الفرد وحريته، وقدرتها على قيادة العالم، وكلاهما زعم الوصول لنهاية الاضطهاد الإنساني، أولهما بإزالة الفوارق بين الطبقات، والأخير باستقرار نظام السوق الحرة والديمقراطية الغربية، وأثبتت التجربة أن الفكر لا يعرف نهاية، ويقوم تلاميذ «لينين» بتطوير نظريته لرفع وصمة الشمولية والاستبداد عنها،وتراجع «فوكوياما» عن إمكانية نهاية التاريخ لفكر متسلط، أو ظهور الإنسان الأخير.. إلا يوم القيامة! ثورة الشك المصرية فاجأت العالم عندما انفجرت فى 30 يونيو فحكمة الشك فى الخزعبلات، لم تأت كالمعتاد من المفكرين والمثقفين، ولكنها أتت من مجموع الشعب الذى تفوق على مثقفيه، وقادهم لتفكيك ديكتاتورية الجهل، والثورة على عبودية دولة الخرافة، فثورة (30 يونيو) كانت على أكتاف المصريين فى لحظة ثبات حضارى مركبة، فخداع الشعارات الدينية نجح فى استقطاب البعض لتجربة أبناء الأيدى المتوضئة، لقيادتهم لخير الدنيا والآخرة، وقد ملأوا الدنيا ضجيجا، بتعرضهم للظلم والاضطهاد، وعزل كوادرهم، وإلقائهم فى غياهب السجون على مر العصور، فإذا بالتجربة تكشف الخواء الدينى مع الخواء الاقتصادى والسياسى والاجتماعى والفكرى والإنساني، وأن قدرتهم على حشد العامة وخلق مجتمع بديل للفقراء، لا تعنى قدرتهم على خداعهم كل الوقت، وأن المساندة الخارجية لن تضمن لهم استقرار داخلى، مع شعب كره نفسه تحت حكمهم! فلفظهم بعزم ما فيه، فاسترد وعيه المخدر، تحت وطأة شعارات عاطفية وآمال وهمية وأخطاء تاريخية معقدة، إلا أنه أيضا رفض الحصار الفكرى برسم صورة للإسلام والمسلمين ككتل بشرية تنتمى للماضى وأمجاده، ولا صلة لها بالحاضر ولا علاقة لها بالمستقبل، ثورة الشك أعلنت من قوى الشعب العامل والجاهل والمثقف والأمى والمتعلم، أننا ننتمى لحضارة إسلامية رفيعة أسهمت فى الرقى الإنساني، وثقافة عالمية جديرة بالاحترام، لا بالسخرية والتلاعب بها من أصحاب المصالح العالمية، رفضت « ثورة الشك» نفسية السمع والطاعة، وبتحويل الجهاد إلى عدوانية تقتل وتذبح وتفجر، وذهنية التقسيمات المرضية الجالبة للاحتراب الداخلى بين مسلمين وغير مسلمين وسنة وشيعة، وسنة وسنة، وشيعة وشيعة، وكبار وشباب، وذكر وأنثي وأغنياء وفقراء... والحبل على الجرار، فى متوالية لاتنتهى من التفتت، فى انتهازية منافقة لا أخلاقية للسيطرة على السلطة مهما كان الثمن حتى يسود الوضيع ويملك أعناق المطالب الأوغاد، بعد ثورة الشك حدث خروج جماعى من سجن الأيديولوجيا الكاذب إلى الحرية الحقيقية، التى تقوم على المعرفة بكل أدواتها العلمية والفكرية والفنية، فهى الطريق السليم للقضاء على الخوف من الحياة، ذلك الخوف الذى يعزو إليه «راسل» كل الخرافات ويعادله الأديب الكبير نجيب محفوظ بالموت! المعرفة كفيلة بالقضاء على كل السلبيات الفردية والاجتماعية، فترسم طريق الحرية بلا فوضي، والتربية الدينية بلا ضلالات، والسياسة بلا أكاذيب، والاقتصاد بلا فساد، والفن بلا ابتذال، فالتجربة التاريخية التى مرت بها مصر ليست وليدة السنوات الثلاث العجاف الماضية، ولكن على مدى قرن كامل، تخبط الناس من سجن لسجن فى أيديولوجيات شمولية استبدادية تحتكر الدين والوطنية والمثل العليا، وهى سجون لم يعد لها أبواب فى عصر الفضاء المفتوح، فقد فرغت الحدوتة التى يرددها أصحاب كل أيديولوجية أنهم يملكون الحقيقة الكاملة فى غرور يتناقض مع الذكاء الفطرى الذى ألمح إليه «راسل» بقوله لن أموت أبدا دفاعا عن آرائي.. فقد أكون مخطئا. من مصر بدأت الحدوتة الجديدة، كما بدأ فيها حواديت الحضارة الفرعونية والقبطية والعربية من قبل، تقوم الحدوتة الجديدة على مفاهيم عصرية من الانفتاح على العالم للمساهمة الإيجابية فى الحضارة العالمية، بالدفع إلى مفهوم تنافس الشعوب المنتجة حضاريا، لنزع فتيل الحروب وهيمنة حضارة على أخرى بالقوة، وهو دور إيجابى تستطيع أن تقوم به حدوتنا الحضارية، بفتح الباب لثقافة المعرفة التى ترفع قدراتنا الإنتاجية المادية وأيضا الفكرية، والمعرفة لا تتجزأ فتأخذ منها ما يفيد المادة العلمية دون الفكرية، فرفع القدرة الإنتاجية لمؤسسة ما يتطلب البحث فى ترقية نفسية السلطة التى تنتجها، وتخلق ميثاق للشرف الأخلاقى ينظم عملها، لضمان استمرارها وتطورها وقدرتها التنافسية، وهى أمور لا تبدأ من فراغ فلدينا ركائز فكرية عصرية، تم إهمالها والاستسلام للأيديولوجيات السطحية، فتوتة توتة تبدأ الحدوتة الجديدة باحترام العلم والفكر والعمل، لتبدأ بالتعليم خاصة الجامعة التى مات «طه حسين» القامة الفكرية الشامخة محسورا عليها، بعد أن تحولت إلى مدارس مهنية متوسطة حسب تعبيره وكانت قدس أقداس الحرية ومحرابا للفكر، فما عساه أن يقول الآن، لو كان حيا، بعد أن أصبحت معقلا للتكفير وساحة للإرهابيين! أولئك المتمسحين بالدين، الذين ينطبق عليهم ما قيل للبغل من أبوك؟ فقال الفرس خالي! لمزيد من مقالات وفاء محمود