«مدبولي»: الحكومة ستعمل مع القطاع الخاص لتذليل أي عقبة تواجه قطاع الدواء    البرلمان العربي: نرفض أي محاولات لتصفية القضية الفلسطينية    رونالدو: فخور بتمثيل منتخب البرتغال في اليورو    موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة الشرقية    «الأرصاد» تكشف موعد انكسار الموجة الحارة.. انخفاض الحرارة 5 درجات    جنايات المنصورة تحيل أوراق سائق وابنيه لمفتي الجمهورية لقتلهم جارهم    «حوار من أجل السلام».. انطلاق الدورة ال11 للمهرجان الدولي للطبول الأحد المقبل    ساوثجيت يعلن قائمة منتخب إنجلترا ل يورو 2024    القنوات الناقلة لمباراة الأهلي والزمالك في دوري المحترفين لكرة اليد    النواب يوافق علي موازنة القومي لتنظيم الاتصالات للعام المالي 2024/2025    دعاء اشتداد الحر عن النبي.. اغتنمه في هذه الموجة الحارة    الكشف الطبي على 609 مواطنين بالقافلة الطبية المجانية بالإسماعيلية    أبو علي يتسلم تصميم قميص المصري الجديد من بوما    «نجم البطولة».. إبراهيم سعيد يسخر من عبدالله السعيد بعد فوز الزمالك بالكونفدرالية    تعرف على تطورات إصابات لاعبى الزمالك قبل مواجهة مودرن فيوتشر    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى.. والاحتلال يعتقل 14 فلسطينيا من الضفة    الجيش الإسرائيلى يعلن اغتيال قائد وحدة صواريخ تابعة لحزب الله فى جنوب لبنان    مصدر سعودي للقناة ال12 العبرية: لا تطبيع مع إسرائيل دون حل الدولتين    زوجة المتهم ساعدته في ارتكاب الجريمة.. تفاصيل جديدة في فاجعة مقتل عروس المنيا    "السرفيس" أزمة تبحث عن حل ببني سويف.. سيارات دون ترخيص يقودها أطفال وبلطجية    النطق بالحكم على مدرس الفيزياء قاتل طالب الثانوية العامة بعد قليل    جيفرى هينتون: الذكاء الاصطناعى سيزيد ثروة الأغنياء فقط    تأجيل محاكمة 12 متهمًا في قضية رشوة وزارة الري ل25 يونيو المقبل    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    السيسي يستقبل مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية ويؤكد على دورها في نشر وتعميق المعرفة والعلم    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    كيت بلانشيت.. أسترالية بقلب فلسطينى    برلمانية تطالب بوقف تراخيص تشغيل شركات النقل الذكي لحين التزامها بالضوابط    أمين الفتوى: قائمة المنقولات الزوجية ليست واجبة    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    رئيس الوزراء يتابع عددًا من ملفات عمل الهيئة المصرية للشراء الموحد والتموين الطبي    أفضل نظام غذائى للأطفال فى موجة الحر.. أطعمة ممنوعة    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    السيسي: مكتبة الإسكندرية تكمل رسالة مصر في بناء الجسور بين الثقافات وإرساء السلام والتنمية    مراسل «القاهرة الإخبارية»: المجاعة تعصف بغزة بعد منع إسرائيل لدخول المساعدات    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    تفاصيل حجز أراضي الإسكان المتميز في 5 مدن جديدة (رابط مباشر)    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    المالية: بدء صرف 8 مليارات جنيه «دعم المصدرين» للمستفيدين بمبادرة «السداد النقدي الفوري»    أفعال لا تليق.. وقف القارئ الشيخ "السلكاوي" لمدة 3 سنوات وتجميد عضويته بالنقابة    في اليوم العالمي للشاي.. أهم فوائد المشروب الأشهر    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    هالاند.. رقم قياسي جديد مع السيتي    وزير التعليم: مدارس IPS الدولية حازت على ثقة المجتمع المصري    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    أسعار طن الحديد فى مطروح وسيوة اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    صعود جماعي لمؤشرات البورصة في بداية تعاملات الثلاثاء    «ختامها مسك».. طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان اللغة الإنجليزية دون مشاكل أو تسريبات    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    روسيا تفشل في إصدار قرار أممي لوقف سباق التسلح في الفضاء    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    حسام المندوه: الكونفدرالية جاءت للزمالك في وقت صعب.. وهذا ما سيحقق المزيد من الإنجازات    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو نهضة حقيقية لليسار العربي
نشر في الأهالي يوم 09 - 06 - 2011


حتي لا نجلد أنفسنا
يقول الاستاذ كريم مروة، في مقدمة كتابه "نهوض اليسار العربي"، إن فكرته الأساسية تدور حول ضرورات التعلم من أخطاء التجارب الثورية السابقة حتي يمكن بناء يسار عربي جديد. ومن ثم، يعرض في عجالة، لتاريخ الثورات القديمة التي بدأت بثورة سبارتكوس، مرورا بالثورات التي شهدها العالم الإسلامي مثل ثورتي الزنج والقرامطة، وصولا إلي كوميونة باريس وثورة أكتوبر الاشتراكية.
يستخلص المؤلف من ذلك أن كل هذه الثورات فشلت، نتيجة اسباب بنيوية تخص كلا منها علي حدة. ولكن السبب المشترك بينها جميعا، بما فيها ثورة أكتوبر الاشتراكية، أنها جميعا لم تتعلم من أخطاء السابقين عليها. (ولا أدري ان كان ذلك ينطبق علي الثورات الأولي في التاريخ أم لا!!!).
ولقد جاء دورنا - حسب الاستاذ مروة - لنتعلم من أخطاء السابقين حتي لا نفشل مثلما فشلوا. ورغم هاجس اليأس وروح القنوط المسيطرة علي أجواء الكتاب، فأنني قد تصورت في هذا السياق إننا بصدد الحديث عن رؤية ثورية جديدة، وبالتالي من المحتم علينا أن نقوم بجرد حساب الثورات السابقة لكي لا نقع في نفس أخطائها وننتهي إلي ما إنتهت إليه، وإذ بي أجد أننا أمام حالة من الرفض لفكرة الثورة نفسها.
وهنا يجدر بنا القول : إن من يتابع بعض المثقفين اليساريين وبعض الحركات والأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية والعالم، سيجد شيئا قريبا من هذه الحالة من الإحباط والجزع التي انتابتهم، خاصة بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي. وربما أيضا بسبب عجزهم المزمن وهزائمهم المتكررة أمام تحديات واقعهم المحلي، في الآن نفسه. الأمر الذي أدي ببعض هذه الأحزاب إلي تغيير أسمائها وخلع تسميه "الشيوعية" عنها، وكأن هذه التسمية كانت مرتبطة بمجرد وجود هذا الكيان العملاق (الاتحاد السوفيتي)، أو كأنها كانت مفروضة عليهم فرضا، فقبلوها علي مضض، وعندما حانت الفرصة وانهار هذا الكيان العالمي تخلصوا منها الي غير رجعة. وحتي بعض الاحزاب الأوروبية التي كان إسمها يحتوي علي كلمة "العمال" اكتفت دونها بكلمة "الاشتراكي"، مثل حزب "العمال الاشتراكي المجري" الذي غير اسمه ليصبح "الحزب الاشتراكي المجري" فقط، مما يشير إلي تخل واضح عما تدل عليه كلمة العمال من التزام (ما) بالدور القائد والأساسي لهذه الطبقة في عملية التغيير، ويشير أيضا الي تخل معلن عن أيديولوجيا الاشتراكية العلمية المستمدة من الفلسفة الماركسية اللينينية، باعتبارها أيديولوجيا التغيير التي يمثل العمال العامل الرئيسي لها. وكذلك كان الأمر لدي بعض أجنحة الحزب الشيوعي الايطالي والبولندي .. الخ. والأمر نفسه لدي بعض الأحزاب الشيوعية العربية.
وفي هذا السياق يمكن ادراج عدد من الكتاب و لمفكرين العرب، ذوي التاريخ الفكري والتنظيمي الماركسي، ممن تملكتهم نزعة المبالغة في جلد الذات، التي تعدت حدود النقد الذاتي الضروري والمطلوب، الي حد اهالة التراب علي كل منجزات الأحزاب والحركة الشيوعية العربية، بل الفكر الماركسي ذاته. مثلما فعل الدكتور عبدالحسين شعبان في كتابه: "تحطيم المرايا"، الصادر عام 2010. غير أن (التحطيم) عنده لم يكن منصبا علي (مرايا) الايهام والتخييل المجافي لحقائق الواقع والذي يقوم بديلا عنه، (وتلك كانت بلا شك أحد أمراض بعض فصائل اليسار العربي بدرجات متفاوتة وفي أحيان معينة)، وبالتالي يعني تحطيمها تحطيم الخيالات والأطياف والأوهام. إنما يتم هذا (التحطيم) بهدف تحقيق نوع من المراجعة الشاملة، المصحوبة بنوع من الادانة الممرورة لكل الممارسات والأفكار الكلية والجزئية علي حد سواء. وصولا الي نوع من التبشير بالعودة الي "الوضعية" ومغازلة أكثر أشكال الفكر البرجوازي بؤسا ورجعية.
النقد ضرورة
وأنا بالطبع لست ضد المراجعة والنقد الابداعي لمسيرة الوعي والممارسة النضالية لحركة اليسار العربي أو في أي مكان آخر، فهذا يمثل الضمان الوحيد للمجاوزة والتصويب، ولكني بالطبع ضد هذا الذي يمكن تسميته فقدان الاتزان وفقدان البوصلة، اللذين يؤديان بنا الي الهرولة المذعورة المتخبطة النادمة الي أحضان أعدائنا علي وجه التحديد، متخلين عن قدراتنا علي التقييم العلمي الجدلي، الواعي والملتزم بالرؤية الاستراتيجية للفكر اليساري.
وهنا دعوني أعبرعن خشيتي من أننا قد وصلنا، علي أيدي هؤلاء "المجتهدين المراجعين"، إلي مرحلة التخلي المعلن عن المنطلقات الأساسية لمسألة وجود اليسار في حد ذاته. والاقتراب التدريجي نحو نوع من الليبرالية ذات البعد الاجتماعي في أفضل الأحوال.
إن رسالة اليسار في جوهرها انما هي العمل علي بناء حضارة إنسانية جديدة وأفق مجتمعي جديد للبشرية، ينتفي فيه الاستغلال والقمع والقهر، وتتفجر فيه الطاقات والملكات البشرية الكامنة التي يجري طمسها وتشويهها وتحويلها إلي طاقات تدميرية في ظل المجتمع الطبقي الرأسمالي القاهر، مسلحين بالوعي الجدلي العلمي وبقوانين الحركة التاريخية والاحتماعية، وبالمعرفة العميقة بالخصائص النوعية لقوي وتناقضات الواقع الاجتماعي المحدد بحدود الزمان والمكان ومقدار التطورين الاجتماعي والمادي.
مجتمع لا طبقي
وإذا تم تناسي هذه المهمة، الثورية بالمعني الكامل والمباشر للكلمة، فانه من المحتم علي قوي اليسار أن تبحث لنفسها عن تسمية أخري. فلقد قامت هذه القوي من أجل مواجهة حالة طبقية اجتماعية وانسانية محددة، ترتكز علي الاستغلال الجائر لطاقات الطبقات العاملة وممارسة القهر والعدوان علي الشعوب كافة. وهذه القوي اليسارية منحازة اجتماعيا علي نحو صميمي للطبقات المنتجة والشرائح الاجتماعية المقهورة، ومنحازة انسانيا للشعوب المظلومة الباحثة عن الحرية والتقدم والتحقق الانساني.
وبالطبع، فان البعد الأخلاقي واليوتوبي المرتكز علي الحلم بمجتمع لاطبقي تسوده قيم الحرية والعدل، والتبشير بالانتصار النهائي والحتمي لقوي التقدم، قائم بلا شك في جوهر الرؤية اليسارية. ولكن التحليل السياسي لاينطلق من هذا البعد باعتباره واقعا فعليا، ولكن باعتباره ممثلا للبوصلة الهاديه ذات المقومات الأخلاقية والانسانية بالمعني الدلالي العام. وإنما يجري التحليل، موضوعيا، علي أساس من المنهج العلمي الجدلي والفكر العقلاني المنهجي، الذي يتعامل مع ما يطرحه الواقع من ظواهر وتناقضات حقيقية وفعلية.
ولذلك فانني أتفق مع الأستاذ كريم مروة تماما في فكرته عن أهمية عدم جواز القفز علي الواقع وضرورة التعامل بشكل مرحلي مع متغيراته. ولعل هذا ليس بالكلام الجديد. لكن في حالة تناسينا للرؤية الاستراتيجية التي قام علي أساسها فكر اليسار، فسنواجه بالحتم مشكلة مفهومية كبيرة، تتمثل في عدم انطباق "المفهوم" علي "الماصدق"، بلغة أهل المنطق، أي سنصبح أمام تسمية لاتنطبق علي المسمي.
الآخر.. أي آخر؟
لقد ركزت صفحات الكتاب كثيرا علي كلمة "النهضة"، مؤكدة أنه يتعين علينا (الآن) الإسهام في تحقيق نوع من النهضة الشاملة، علي مستوي التحرير السياسي والدعم والمشاركة في - الحركات التضامنية والاجتماعية والشبابية.. الخ. وبالرغم من أن ذلك يتوافق مع فكرة اليسار، علي وجه عام، فإنه لا يمثل جوهر الفكر اليساري ولا يجسد المقولة الأساسية لحركة اليسار. وغني عن القول إن اليساريين هم من أكثر من عملوا علي دراسة التراث وابراز الجوانب التقدمية الكامنة فيه، وبشروا بمجانية التعليم، ودافعوا عن حرية التفكير والتعبير، واحترام الآخر والاقرار بحقه في الاختلاف. ويقفون وحدهم تقريبا، الآن، الي جانب قضايا المرأة وفي مواجهة مصادرة الابداع وقمع الأفكار. فاليسار علي مدار تاريخه كان تنويريا ونهضويا .. لكن التنوير والنهضة بأي اتجاه ؟! فهل يمكن مثلا الاتفاق مع تطويع فكرة "قبول الآخر"، علي طريقة بعض الاتجاهات التي ظهرت حديثا، لتعني (بذلك الآخر) العدو الصهيوني وتنادي بالتطبيع معه والتغاضي عن سياساته العدوانية، وتري أن اقامة سلام معه (علي هذه الوضعية) يعد أمرا ممكنا، بل حضاريا؟! اننا هنا نخلط الأوراق والموضوعات ببعضها البعض، ونزيف المفاهيم والمعاني الحقيقية لفكرة الاختلاف. فنحن نؤمن طبعا بحق الإختلاف لكن ذلك لا يعني، باي حال من الأحوال، الإيمان بحق الآخر في قتلي ومحو حضارتي وسحق شعبي. ونحن نؤمن بحق الأمريكيين في العيش بالطريقة التي يفضلونها، لكننا بلا شك لا نؤمن بحقهم في السيطرة علي العالم والهيمنة علي ثقافاته ومقدراته وتحويله الي مزرعة خاصة يديرون شئونها بما يخدم مصالحهم.
أن مبارحة المنطلقات والمفاهيم النظرية الأساسية والمواقف الجذرية الرئيسية والمواقع والخنادق التي انطلق منها اليسار تعني إننا بإزاء عملية خلط أوراق تخلو من البراءة. ورغم انني أقدم كل الاحترام والتبجيل لكل من يري نفسه إصلاحيا وليبراليا، الا انني أبدي بالغ التعجب من أن يطرح ذلك الشخص نفسه باعتباره يساريا دون أن تشغله القضية الاجتماعية وقضية بناء أفق إنساني جديد عادل ومتحرر من القمع والقهر والتبعية للامبريالية.
ونحن لا نكرس الميل إلي التجريم والتخوين، لكن إذا لم نربط هذه المحاولات (التحطيمية) ببعضها البعض، ولم نقدم لها قراءة سياقية متكاملة، ربما نصل في النهاية إلي نوع من الاستدراج نحو عملية تزييف وتفريغ كاملة لمحتوي ومعني اليسار. وهذا ما لا نتمناه ولا نسمح به في الحقيقة.
الوعي المحافظ
نعم، ان اليسار في أزمة لابد أن نعترف بذلك (رغم أن الواقع بعد الثورات العربية قد يطرح احتمالات أخري ايجابية لم نتيقن منها بعد)، لكن من الضروري أيضا أن نقوم بتشخيص العوامل الموضوعية الحقيقية التي أفضت إلي ذلك، حتي يمكن التعامل معها والتغلب عليها. مع الوضع في الاعتبار أن أسباب هذه الأزمة ليست واحدة لدي جميع القوي اليسارية في شتي البلدان العربية. وأتصور أن القول بغير هذا يعد تعميما مخلا. كما أنه ليس كل اليسار في العالم مأزوما، فيسار أمريكا اللاتينية وبعض بلدان آسيا مثلا لا يمكن اعتباره في وضع الأزمة. وحتي اليساريين في أوروبا ليسوا في أزمة بهذا القدر الذي نحن عليه.
إن أزمتنا، في رأيي، تتعلق بعدد من العوامل، منها الثقافة الماضوية الحاكمة والوعي المحافظ السائد والموروث، المتحالفين مع القمع التاريخي المنهجي والمنظم، والتحريض الديني الجهول والمزور علي اليسار وفكره، القمع والتحريض المتلازمين مع كل السلطات التي مرت علي بلادنا طوال تاريخنا الحديث. كما تتعلق، بذات القدر، بتكتيكات اليسار التي أخذت، منذ لحظة التكوين والنشأة، منحي نخبويا وفوقيا، وربما يعود ذلك إلي قيام اليسار منذ بدايته علي أكتاف بعض العناصر المثقفة وذات التعليم الأجنبي، وليس علي أكتاف عناصر طليعية من العمال والفلاحين، الأمر الذي جعله غير شعبي بدرجة معينة.
إلا أن ذلك لا يعني بأي حال أنه لم يكن مؤثرا. فلقد وقف اليسار وراء رواج كثير جدا من المفاهيم والأفكار والقيم الثورية التي حكمت مصر وأجزاء من العالم العربي منذ نشأته وحتي الآن، مثل: "الإشتراكية" و"العدالة الاجتماعية" و"العقلانية" و"المنهج العلمي" و"حرية المرأة" و"حقوق العمال والفلاحين" .. الخ. فلقد أسست وأصلت الجهود الفكرية والنضالية التي قدمتها حركة اليسار المناخ الفكري والسياسي الذي قامت في اطاره ثورة 23 يوليو والحقبة الناصرية، وما لحقها من ثورات عربية.
ولولا ما حققه اليساريون المصريون والعرب من انجازات فكرية، من أجلها سالت دماؤهم وتقطعت جلودهم تحت السياط في السجون، ما كان لأحد أن يتشدق ويتفاخر بهذه المفاهيم التقدمية التي جري حفرها في مجري الثقافة المصرية والعربية.
إذن فقد حقق اليسار المصري والعربي تأثيرا قويا في مجري الحياة وعلي كل الصعد. وإن لم يكن ذلك هوالتأثير المرتجي الذي يمكن من خلاله أن يصبح اليسارأحد اللاعبين الرئيسيين في الحركة السياسية الوطنية. لكن ذلك لا يعني أن التاريخ قد صودر علي هذا النحو والي الأبد، وإنه قد تعين علينا الاستقالة من دورنا التاريخي ولم يعد أمامنا سوي امكانية أن نلحق بأذيال عربة الليبرالية الكهلة (رغم ادعائها الظفر) حتي يكون لنا مكان.
فاليسار قائم وضروري وحتمي مادام هناك ظلم وقهر وفقر واستغلال وعدوان وصهيونية وامبريالية واستيطان .. الخ، ومادامت البشرية لاتزال تمتلك القدرة والجسارة علي اجتراح حلمها البهيج في عالم تظلله رايات الحرية والعدل. وسينتصر اليسار طالما كان بقي اليساريون الحقيقيون المؤمنون ب والمخلصون ل دورهم التاريخي، القادرون علي تقديم قراءة علمية جدلية لواقعهم، وتشخيص التناقضات الرئيسية الحاكمة لهذا الواقع، وقوي التغيير الحقيقية فيه، والانخراط بينها واقناعها بجدارة الفعل الثوري وعدم الاستعلاء عليها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.