لم يكن قد تجاوز السادسة والثلاثين من عمره حين حالفه الحظ, وأصبح بين عشية وضحاها, مفكرا مثيرا للجدل, فقد تمكن من اللحاق بقاطرة تاريخ الثورة الديمقراطية المنتصرة في شرق أوروبا. ولم يكتف المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما بذلك, وانما أطل علي الجماهير من نافذة القاطرة وتجاسر علي القول.. لقد وصل القطار الي المحطة الأخيرة.. محطة انتصار الديمقراطية والرأسمالية علي النظم الشمولية, والشيوعية.. وهذه هي نهاية التاريخ! وفي تلك الأيام التاريخية من عام الثورة وانهيار سور برلين سنة9891, نشر فوكوياما مقالا كان عنوانه مثيرا نهاية التاريخ, وأشار فيه الي أن الصراع بين الأفكار والايديولوجيات الكبري قد انتهي بفوز مبين للديمقراطية والرأسمالية. وبلور فكرته هذه في كتاب نشره عام1991 تحت عنوان: نهاية التاريخ والانسان الأخير. ورحبت العواصم الأوربية بفكرة نهاية التاريخ, بينما كانت أمريكا تنفرد بقمة العالم باعتبارها القوة العظمي الوحيدة, بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. غير أن نهاية التاريخ بدت وكأنها فكرة دعائية استلهمها فوكوياما من الملفات السرية لوزارة الخارجية الأمريكية التي عمل في كواليسها فترة من حياته, وكان القصد تنصيب أمريكا علي عرش الدنيا. ولم تمض سنوات قلائل حتي تبين صدق الانتقادات التي وجهت الي فوكوياما, خاصة عندما التحق بركب عصابة المحافظين الجدد التي احاطت بالرئيس جورج بوش الابن. ونفذت مخطط القرن الأمريكي الذي استهدف الهيمنة علي العالم عقب هجمات سبتمبر علي أمريكا, وبدأوا بالحرب علي الارهاب في أفغانستان ثم العراق. ونصب بوش نفسه رئيسا لزمن الحرب. والزحف علي العالم بدعوي نشر الديمقراطية والرأسمالية. غير أن مشروع بوش تعثر بسبب ضربات المقاومة العراقية, واضطر فوكوياما الي القفز من سفينة رئيس أمن الحرب. وانتقد سياساته في كتابه ما بعد المحافظين الجدد.. أمريكا في مفترق الطرق وما لم يذكره فوكوياما في كتابه أن أمريكا لم تكن في مفترق الطرق بسبب فشل حروبها العدوانية, وانما كانت كذلك بسبب تعثر الرأسمالية الأمريكية. فقد حولها رجال البنوك والأعمال الي كازينو للقمار والمضاربات. وهو ما أفضي إلي أزمة النظام المالي العالمي في سبتمبر.8002 ولم يعد ممكنا منذ ذلك الحين الحديث عن الرأسمالية باعتبارها نهاية لتاريخ الفكر الاجتماعي والاقتصادي. وبدأ مفكرون وباحثون في أوروبا وأمريكا وبلدان شتي يدعون الي العودة للاشتراكية الديمقراطية علي النمط الأوروبي. ولا يزال الجدل مستمرا. لكن فوكوياما نأي بنفسه عن هذا الجدل. وعكف علي دراسة أصول النظام السياسي والتحول التاريخي للمجتمعات من القبلية الي الدولة. وكأنه قد اختار الخروج من جدل الأفكار الكبري. هذا شأنه. غير أن فوكوياما في غمار بحثه عن القبيلة والدولة, لم يفطن الي أن قاطرة التاريخ تحركت من جديد, عندما هبت رياح الحرية من ميدان التحرير بقلب القاهرة ابان ثورة يناير. ليس في هذا القول غلو ولاشطط. ففي ميدان التحرير تجلت أروع ثورة شعبية بكل اكتمالها وجلالها. وكان عنوانها, ولايزال, الديمقراطية والعدل الاجتماعي. فهما جناحا طائر الوطن. ويحلو لطائر الوطن الجميل أن يهبط علي سارية سامقة كتب عليها جدنا العظيم رفاعه رافع الطهطاوي العدل أساس العمران. وانطلاقا من العدل والديمقراطية تبدأ السطور المضيئة للتاريخ الجديد للدنيا وحضارتها الآتية.. وما عدا ذلك باطل وقبض الريح. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي