تنامت العلاقات بين تركياوقطر خلال السنوات الماضية لتشكل ما يطلق عليه في الأدبيات السياسية «تحالف مرن» قائم على أساس التوافق حيال قضايا إقليمية معينة وليس وفق هياكل مؤسسية قائمة، فالطموح الإقليمي والمصالح المتقاطعة و«التكامل المفترض» بين دولة إقليمية رئيسية (تركيا) ودولة غنية صغيرة (قطر)، دفع باتجاه تبلور تحالف مشترك تشكلت ملامحه من خلال تنسيق متبادل بشأن العديد من قضايا الصراع في الشرق الأوسط، ورغم أن الطرفين نظرا إلى ذلك باعتباره خلقا لفرص جديدة، فإنه في الوقت عينه طرح إشكاليات عديدة للدولتين.
المحركات الأساسية للعلاقات تجلت الأدوار السياسية لهذا التحالف فى العديد من المبادرات حيال عدد من القضايا الرئيسية، حيث لعبت الدولتان أدوارا تكاملية بارزة حيال أحداث «الربيع العربي»، وارتفعت وتيرة الزيارات المتبادلة وازداد التنسيق المشترك لدعم تيارات الإسلام السياسى وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، وذلك فى محاولة لتغيير أنماط التحالفات الإقليمية وموازنة نفوذ القوى التقليدية بالمنطقة، ولتعظيم النفوذ وتعزيز المكانة، وهو أمر يمكن رصد أسبابه على النحو التالي: «أجندة السياسة الخارجية»- اتجهت الدولتان خلال السنوات الماضية إلى دعم العلاقات مع تيارات الإسلام السياسي، فقد توثقت الصلات بين قطر وجماعات الإسلام السياسى بعد وصول الشيخ حمد بن خليفة إلى السلطة فى الدوحة. وقد وجد العديد من قيادات الجماعة فى قطر - بالمقارنة ببقية دول الخليج - أرضا خصبة للعمل وحرية التحرك لنشر الأفكار، وذلك بسبب أجندات خاصة وتوجهات أيديولوجية مشابهة لدى نخب قريبة من دوائر الحكم دفعت بدورها لأن ترعى القيادة القطرية جماعة الإخوان، سياسيا وإعلاميا. على جانب آخر، فإن تركيا فى ظل حكم حزب العدالة والتنمية ساندت جماعة الإخوان بناء على تشابكات أيديولوجية وروابط تنظيمية، تعود بجذورها لعقود سابقة. وقد أفضى ذلك لأن تسعى لاستغلال «الحالة الإسلامية» التى ازدهرت مع بدايات «الربيع العربي» فى طبعتها الحاكمة أو تلك الجهادية المعارضة، بما يخدم أهداف سياساتها الإقليمية. «التكامل الوظيفى دبلوماسيا»- السمت الرئيسى لتحركات قطر الخارجية هو تجسيدها لما يعرف ب«دبلوماسية الريال»، فى مسعى للتحول من دولة صغيرة إلى فاعل مركزى يمتلك أدوارا سياسية مستقلة تتمرد على سياسات «الاستتباع» حيال القوى العربية التقليدية (مصر والسعودية). وقد لقى ذلك صدى لدى النخبة التركية الحاكمة، التى بغت الانتقال من «دور المراقب» إلى «دور الوسيط» فى بعض الصراعات الإقليمية، و«دور الطرف» فى صراعات أخري، على نحو أفضى إلى حدوث «تزاوج» بين «دبلوماسية الريال» القطرية و«دبلوماسية النموذج» التركية. هذا «التزاوج» عبر عنه تحرك الدولتين للتوسط لإنهاء العدوان على لبنان فى عام 2006، ثم بالمساهمة فى قوات حفظ السلام، والتحرك المشترك فى أواخر عام 2010 وبدايات عام 2011 لحل الأزمة السياسية فى بيروت، والمشاركة بفاعلية فى محاولات إنهاء الانقسام الفلسطيني، والنهوض بأدوار أساسية فى عملية استضافة بعض الفلسطينيين المبعدين فى إطار «صفقة مبادلة شاليت» مع حركة حماس، هذا بالإضافة إلى إطلاق مبادرات مشتركة حيال الصراع فى اليمن وإزاء قضية الصحراء الغربية، ومن خلال المساعدات الإنسانية للصومال. «إستراتيجية إنهاء العزلة»- تتبنى الدولتان مواقف ثابتة حيال التنسيق الأمنى مع الولاياتالمتحدة، انطلاقا من اعتبارات عضوية تركيا فى حلف الناتو وروابطها التاريخية مع واشنطن. هذا فيما تعتمد قطر على الوجود الأمريكى بقاعدة «العيديد» لتحقيق الأمن فى مواجهة التهديدات الإقليمية. وعلى الرغم من أن الطرفين يحاولان إظهار استقلالية التحرك على مسرح العمليات الإقليمي، غير أن التحرك المشترك حيال قضايا المنطقة وإزاء بعضهما البعض ينهى العزلة التى من الممكن أن توسم تحركات أيا من البلدين إذ ما اتسمت بالفردية. «تلبية الاحتياجات المتبادلة»- تتأثر العقلية الاقتصادية التى تتحكم فى توجهات تركيا حيال توثيق العلاقات مع قطر، بطبيعة الرغبة الملحة لتأمين الاحتياجات من مصادر الطاقة، فتركيا واحدة من كبريات الدول المستوردة للطاقة، حيث تستهلك ما قيمته 60 مليار دولار من النفط والغاز سنوياً، وهو ما يشكل ثلثى العجز الحالى فى الموازنة التركية. ويرتبط ذلك بكون قطر تعد أكبر مركز للطاقة من حيث احتياطى الغاز الطبيعي. وتسعى أنقرة لإنشاء خط أنابيب ينقل الغاز من الدوحة إلى أنقرة كجزء من «مشروع نابوكو»، والذى يستهدف أيضاً إيصال الغاز القطرى إلى أوروبا. ومن العوامل الأساسية التى دفعت بتعميق التعاون بين الطرفين، تنامى الإدراك بالحاجات المتبادلة، ذلك أنه فى الوقت الذى تسعى فيه تركيا لضمان «أمن الطاقة»، فإن الدوحة تستهدف ضمان «الأمن الغذائي»، نظراً إلى أن تركيا تشكل مصدرا أمن للغذاء لما تتمتع به من وفرة مائية وطبيعة جغرافية. معوقات «التحالف المستقر» كانت عملية انتقال السلطة بقطر فى 26 يونيو الماضي، واحدة من أكثر التطورات التى أقلقت تركيا، ذلك أن إدارة الشيخ حمد بن خليفة اعتمدت سياسات مماثلة لمواقف أنقرة حيال ملفات الصراع الإقليمى فى سوريا والوضع فى مصر والأزمة فى قطاع غزة. وقد بدا واضحا أن القلق التركى يرتبط بأن عملية انتقال السلطة فى قطر جاءت فى سياق توتر تشهده علاقات أنقرة بالعديد من دول الخليج لتباين سياسات ومواقف الطرفين حيال عدد من الملفات الإقليمية. وقد تزايد قلق تركيا تأثرا بأن «الحدث القطري» غير الاعتيادى فى سياقه ترافق مع سقوط حكم محمد مرسي، الذى دعمته الدولتان ماليا وإعلاميا ودبلوماسيا واستهدفت أن تشكل معه تحالفا بأضلاع ثلاثة. كما ارتبط ذلك بما سرب عن قيام كل من الرئيس الفلسطيني، محمود عباس أبو مازن، وعضو اللجنة المركزية بحركة فتح، عباس زكي، بنقل رسالة إلى الرئيس السوري، بشار الأسد، مفادها أن الأمير تميم يسعى لفتح خطوط تواصل جديدة مع النظام السوري، وهو ما اعتبر وفق بعض التقديرات التركية مؤشرا دالا على توجه قطرى تدريجى لتبنى مسار مناقض لنمط المواقف وطبيعة السياسات التركية. ومع أن القلق التركى تلاشى تدريجيا باتضاح ديمومة المواقف القطرية المساندة للسياسات التركية. بيد أن التحدى الأكبر بالنسبة للدولتين غدا يرتبط بما باتا يواجهانه من ضغوط كبرى من قبل دول خليجية رئيسية لتعديل مسار سياساتهما الآخذة فى التنافر مع جوهر المواقف والأهداف الخليجية. ذلك أن الرفض الخليجى لمحور تركيا – قطر ومحاولة مواجهته عمليا وإعلاميا لم يعد يرتبط وحسب بمحاولة الدولتين إيجاد قوى إقليمية قادرة على موازنة نفوذ الدول العربية التقليدية، ولكنه بات يسعى لتأكيد انهيار محور «الاعتدال العربي» لصالح قوى إقليمية كانت على هامش الإقليم. وقد ترتب على ذلك قيام كل من السعودية والإمارات والبحرين بخطوة سحب السفراء من قطر، فى تطور دراماتيكى أثبتت فيه الدول الثلاث أن المساومة على مصالحها الأمنية غير ممكنة، وأن سياسات النفس الطويل مع قطر لم تعد بعد مجدية. وفى المقابل من ذلك، فإن دول الخليج مارست ضغوطا سياسية واقتصادية على تركيا لتعديل مسار مواقفها والآخذ فى الاعتبار أنماط المواقف الخليجية من قضايا هى بطبيعتها عربية، وربما تكون التهدئة التركية واردة، ذلك أن «الدرس» الخليجى الأخير لقطر يمثل تعبيرا عن أن ثمة توجها لتوظيف أدوات دبلوماسية وسياسية محلية وإقليمية ودولية ظن إقليميا أنه من غير الوارد إتباعها. مجمل هذه المعطيات قد تدفع بصعوبة تحول محور تركيا – قطر إلى تحالف هيكلي، خلال الفترة المقبلة، لاسيما فى ظل التحديات التى باتت تواجهها الحكومة التركية محليا، وتنامى حدة العداء لمواقفها إقليميا، وتزايد معالم تشكل محور جديد بين كل من مصر والسعودية والإمارات والأردن، بما يمثل عنصرا ضاغطا على الدولتين لتعديل مسار سياساتهما، ذلك أن استمرار سياسات الدولتين على نحو يهدد مصالح دول خليجية رئيسية بالإضافة إلى مصر والأردن قد يفضى لانتقال التهديدات التى أضحت معلنة والتوترات التى لم تعد مكتومة إلى حالة من التوتر المتصاعد والصراع المعلن، ولكن بصورة جماعية.