أبي الدور المصري إلا أن يتقهقر ويركن إلي التراجع والانكماش .فمحليا ،تفاقمت العقبات أمام مسيرة الإصلاح السياسي والاقتصادي حتي بدت البلاد وكأنها بصدد ردة سياسية واقتصادية واجتماعية صادمة توشك أن تأتي علي ما تبقي من هامش ثقة بين المواطن والدولة بقدر ما أثارت الطروحات والتصورات ،التي تداعت من مراكز التفكير المرتبطة بدوائر صنع القرار الأمريكية خلال السنوات التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 علي شاكلة "الشرق الأوسط الكبير أو الموسع"بغية إعادة هندسة المعالم الجيواستراتيجية للمنطقة، جدلا حامي الوطيس عمت أصداؤه العالم أجمع ،بقدر ما أثارت حفيظة دول عديدة في تلك المنطقة بغية إعادة ترتيب أوراقها توطئة لتحسين موقعها علي الخريطة المرتقبة لشرق أوسط جديد بدأت ملامحه في التشكل،وإلم يتم الاتفاق علي مسماه النهائي بعد. لقد بدا إذن أن منطقة الشرق الأوسط قد أضحت بصدد صحوة حقيقية هذه الأيام علي خلفية تسابق عدد من الفاعلين فيها حول أدوار إقليمية مؤثرة تتيح لهم تعظيم مغانمهم قدر المستطاع من عملية إعادة هندسة المنطقة . فما كاد العالم يستوعب ذلك الإنجاز المدوي ،الذي حققته دولة بحجم قطر علي صعيد تسوية الأزمة اللبنانية المعقدة والمستعصية خلال الشهر الماضي وإنهاء فراغ رئاسي ناهز نصف العام تكلل باضطرابات أمنية وسياسية داخلية أعادت البلاد إلي سني الحرب الأهلية الطاحنة ، حتي أفاق علي اختراق ملفت سجلته تركيا فيما يخص عملية سلام الشرق الأوسط إثر نجاحها في رعاية مفاوضات غير مباشرة بين الإسرائيليين والسوريين لإحياء عملية التسوية علي هذا المسار المتجمد منذ العام 2000، حيث تتطلع الحكومة التركية الحالية برئاسة رجب أردوغان إلي تحقيق أهداف متعددة من وراء تلك الوساطة ما بين داخلي وخارجي. أما الداخلي منها،فيتمثل في تحسين موقفها السياسي في ظل الدعوي القضائية المرفوعة حاليا ضد حزب العدالة الحاكم وقياداته أمام المحكمة الدستورية العليا طلبا لتجميده ومنع قياداته من مزاولة العمل السياسي بتهمة مناهضة العلمانية والسعي لأسلمة الدولة التركية . أما خارجيا، فتتوخي حكومة حزب العدالة تحقيق اختراق في المسار السوري الإسرائيلي،وإقناع الطرفين بإبرام اتفاق سلام يعيد تركيا إلي صدارة القوي الإقليمية ويبعث الحياة مجددا في الدور الريادي لأنقرة،وذلك من خلال لعب دور مؤثر في تسوية قضايا عربية مهمة كاللبنانية أو السورية،علي نحو يخول أنقره استثماره دوليا في علاقاتها مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. ولم تتورع تركيا عن توظيف كل طاقاتها لإنجاح مساعيها علي هذا الصعيد، بدءاً بعلاقاتها الوثيقة مع طرفي التسوية علي المسار السوري الإسرائيلي، وانتهاء بمواردها المائية الوفيرة ،التي يمكن أن يفضي حسن توظيفها إلي تذليل العقبة الكئود أمام إبرام أي اتفاق سلام سوري إسرائيلي. وفي هذا السياق،تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن خطة تسمي " قناة السويس"يتم بمقتضاها نقل زهاء ثلاثة مليارات متر مكعب من المياه التركية إلي إسرائيل عبر سوريا لتشجيعها علي إبرام اتفاق سلام إسرائيلي سوري.وعلي الرغم من تأكيد خبراء أتراك علي أن تلك الكمية لن تخل بأمن تركيا المائي لاسيما وأنها لن تستقطع من مواردها المائية المستغلة بالفعل ،إذ سوف تستقدم من نهري سيا وجيان التركيين واللذين يتدفق منهما سنويا 14 مليار متر مكعب من المياه تضيع معظمها دونما استفادة في البحر المتوسط ،إلا أن ذلك التوجه التركي ينم عن حصافة وحسن إدارة للموارد و بعد نظر في السياسات. وفي سياق مواز ، كانت إيران تواصل أنشطتها النووية للوصول ببرنامجها النووي إلي آفاق أوسع تحت مظلة من حرص بارع علي عدم تصعيد العناد والتعنت مع الولاياتالمتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية إلي المستوي الذي يقلب السحر علي الساحر. وذلك في تحرك بارع لتعظيم استفادتها من الأخطاء المتتالية للسياسة الأمريكية في المنطقة ،فها هي تنمي نفوذها في العراق وتقايض الولاياتالمتحدة عليه،كما تظهر للجميع مدي تغلغلها في لبنان وتستعرض عضلاتها أمام العرب والعجم. ومن زاوية أخري ،كشرت كل من أنقرةوطهران عن أنيابهما لواشنطن حينما أبدتا استعدادهما لتوثيق عري التقارب والتفاهم الاستراتيجي فيما بينهما وترويض تطلعاتهما الاستراتيجية ،التي طالما اكتست نزعة تنافسية ،في مسعي منهما لتلافي التهميش وتعظيم مكاسبهما من التركة العراقية ،والتصدي للعبة الهندسة السياسية والاقتصادية طائفية الطابع ،التي تجريها إدارة بوش هناك بغير مراعاة لمصالح أنقرةوطهران ،خصوصا فيما يتصل بالمسألة الكردية والنفط في عراق ما بعد صدام ،حيث طفقت كل من طهرانوأنقرة تتباريان في تكييل ضرباتهما العسكرية الموجعة داخل الشريط الحدودي الذي يتموضع في ربوعه مقاتلو حزب العمال الكردستاني المحظور بشقيه التركي والإيراني المتمثل في "حزب الحياة الحرة _ بجاك". وما بين تغول إسرائيلي ،صحوة تركية ،صعود إيراني وطموح قطري ،أبي الدور المصري إلا أن يتقهقر ويركن إلي التراجع والانكماش .فمحليا ،تفاقمت العقبات أمام مسيرة الإصلاح السياسي والاقتصادي حتي بدت البلاد وكأنها بصدد ردة سياسية واقتصادية واجتماعية صادمة توشك أن تأتي علي ما تبقي من هامش ثقة بين المواطن والدولة .ولم يكن الوضع أحسن حالا علي الصعيد الخارجي ،الذي عكس جمود السياسة الخارجية المصرية بجريرة غياب الرؤية الاستراتيجية وتآكل القدرة علي المبادرة وشيوع ردود الفعل اللحظية التي شابتها العفوية في أحيان كثيرة، إلي الحد الذي جعل القاهرة تستمرئ الإبقاء علي التوتر العبثي في علاقاتها مع الإدارة الأمريكية الراهنة لمديات غير مسبوقة دونما اكتراث منها لما يمكن أن يتمخض عنه ذلك من تداعيات سلبية علي المصالح الوطنية المصرية ،مستعيضة عن تجشم معاناة بلورة صيغ وبدائل ملائمة لتجاوز هذا المأزق بترديد شعارات بتبريرات من قبيل الإستقلالية والسيادة ورفض التدخل في شئون البلاد الداخلية ،إلي جانب شيء من الرهان علي تغيير الإدارة الأمريكية الراهنة مع نهاية العام الجاري،ظنا منها بأن إدارة مغايرة بمقدورها أن تعيد إكتشاف الدور الإقليمي المصري ومن ثم تهرع نحو رد الإعتبار للقاهرة غير عابئة بإهتزاز الركائز الأساسية لذلك الدور. وفي حالة أقرب إلي غياب القراءة المتفحصة لطبيعة التغيرات في موازين القوي الإقليمية ،ما برحت مصر الرسمية مكبلة حيال القوي الإقليمية الصاعدة. بل الأدهي من ذلك أن دوائر رسمية مصرية لا تكف عن ترويج وتسويق طروحات استعدائية من قبيل أن إيران تشكل تهديدا للأمن القومي المصري والعربي بسبب طموحاتها النووية وتطلعاتها للهيمنة علي المنطقة عبر تكوين ما يسمي ب "الهلال الشيعي". هذا في الوقت الذي تخطت دول مجلس التعاون الخليجي ،التي طالما إعتبرت إيران مصدر التهديد الأول لها ،حواجز عديدة وطفقت تتباري في توثيق عري التقارب معها عبر إبرام الإتفاقات الأمنية والإقتصادية معها ،علاوة علي التنسيق المشترك لوضع التصورات الإستراتيجية الإقليمية حول أمن منطقة الخليج. وعلي صعيد مواز، سمحت طهران بإطلاق الإتصالات السرية المباشرة وغير المباشرة مع كل من واشنطن وتل أبيب علي قدم وساق ، في أوربا وأمريكا،بغية البحث عن سيناريو بديل لذلك التصادمي العدائي و التوصل لصيغة ملائمة لعلاقات تعاونية براجماتية بين ثلاثتهم ،من شأنها أن تقود إلي تسوية مقبولة للقضايا الخلافية العالقة بينهما وفي صدارتها البرنامج النووي الإيراني ونفوذ إيران في سوريا ولبنان والعراق. وحالة توصل أولئك الأطراف إلي تلك الصيغة،فلن يكون أمام القاهرة مندوحة عن الإنزلاق في براثن التهميش والعزلة عن محيطها الإقليمي والدولي ،لا سيما وأن أي توافق أو تفاهم إستراتيجي يجمع قوي دولية كالولاياتالمتحدة وإقليمية بوزن إسرائيل ،إيران وتركيا من شأنه أن يوجد أرضية صلبة و يؤسس لقاعدة متماسكة يمكن الإنطلاق منها لبلورة صيغ تفاهمية ملائمة لكافة الملفات المعقدة والمزمنة في المنطقة بما فيها الصراع العربي الإسرائيلي وقضايا المياه وسباق التسلح وأمن الطاقة وغيرها بمنأي عن أي دور مصري، أثقل كاهل القاهرة إثر فقدانها جل مقوماته ومتطلباته،وعجزها عن إيجاد ركائز وأسس بديلة له تتماشي وحقبة جديدة جد مغايرة لما كان عليه الحال قبل زهاء عقد مضي من الزمن. الأمر الذي يهدد بسحب ما تبقي من بساط تحت أقدام القاهرة،التي ألفت البقاء أسيرة أزمات اقتصادية وسياسية داخلية، واستسلمت للإخفاق في تحقيق المواءمة بين إلتزامات قومية باتت عبئا سياسيا وأخلاقيا عليها، واعتبارات مصلحية وطنية ملحة عجزت عن صيانتها ،وتحديات دولية بدت أقل جاهزية للتعاطي معها.