قبل أن تبزغ شمس يناير علي الضفة البحرية للترعة توجه المراسل (الصحفي) إلي تعريشة اللبلاب حيث يرابط منذ الأمس لمتابعة كارثة غرق المعدية في ترعة الإسماعيلية. وتوارت الضفة القبلية في ضباب البكور ولكن من هناك كانت تعبر النداءات والعويل فتصل إلي المدخنين أسفل تعريشة اللبلاب وقد بحت بعد ليلة من الفزع والتفجع. ودارت الجوزة علي المسهدين ممن يتابعون الأحداث وتطلع أقرب المدخنين إلي الجريدة بين يدي الصحفي وهتف إن الخبر منشور بالصفحة الأولي.. ثم تهجي كلمات المانشت الأحمر: عدد الضحايا واحد وعشرون غريقا بينما الناجون عشرة فقط!! والتفت الصحفي فرأي المتحدث عاملا يرتدي (عفريتة) مبللة من ثياب العمال ويحشر رأسه في طاقية حال لونها هي طاقية عمال الإنقاذ النهري. وبرز من الضباب عجوز يتوكأ علي عكاز خشبي ويلف رأسه بتلفيعة مهترئة تخفي عينيه فتقدم من الدكة التي جلس إليها المدخنون وهو يصدر من فمه الذي يخلو من الأسنان حشرجات تتضمن عدد الجثث التي تم انتشالها قبل طلوع الشمس. وأشار العامل إلي الجريدة وصاح بالأعرج أن ينظر إلي صورة المعدية وقد انتشلتها رافعة لنش الإنقاذ.. وقرأ الصحفي أسفل الصورة كتب إلينا حسن مالك أن واحدا وعشرين مواطنا لقوا مصرعهم في كارثة غرق معدية ترعة الإسماعيلية أمام مصنع شبرا الخيمة وذلك حوالي الساعة الثالثة إلا ربع بعد ظهر أمس. وتناول الأعرج جوزة قدمها له الجرسون ثم سأل إن كان المحرر اكتفي بالكتابة عما حدث بالضفة القبلية أم كتب أيضا عما حدث بالضفة البحرية!!! وصاح به عامل النصبة أن يلم لسانه خيرا له.. بينما انفلت لسان الجرسون: الأعمار بيد الله يا معداوي!! وانتقل الصحفي إلي فقرة أخري من الخبر تقرأ خرج العمال من المصنع قبل موعد ورديتهم اليومية من أجل الذهاب لمشاهدة مباراة الكرة بين فريق المصنع وفريق المقاولين وذلك لتشجيع فريقهم حسب تعليمات المسئولين بالمصنع. وأشاح الأعرج ثم أهدر: كلام جرايد يكتبه الأفندية في المكاتب ليتسلي به الأفندية فلن يجرؤ أحد أن يكتب عن السفاح الذي يرعب الجميع في هذه الأيام. وألفي الصحفي لسانه ينفلت فيسأل الأعرج مستنكرا: أتقول السفاح؟؟ ورغم اعتراض عامل النصبة وتحذيرات الجرسون أجاب الأعرج: نعم.. أقول السفاح وعوضي علي الله يا سيدنا الأفندي. وساد الصمت لحظة أسفل التعريشة وسمع الحاضرون صوت الأعرج كمن يراجع نفسه: كنت أقول لن يظهر رجل يخبر عنه لن يظهر رجل واحد يخبر عنه قبل موتي.. ولما زاد وجوم المدخنين ناح العجوز فقال إنه بلغ من العمر أرذله ولن يترك خلفه بنتا ولا ولدا وسنفضح أبا جنزير ويبلغ عنه النيابة. وتحشرج صوته من شدة الإنفعال فصاح: وليبلغه علي من يسره منكم أن يتخلص مني!! ولاحقه عامل النصبة: أفلت مرة منذ سنين لكنك لن تفلت هذه المرة يا معداوي!! ولم يبال الأعرج بل استطرد مخاطبا الصحفي سواء كنت من المخبرين أم من المحققين يا سيدنا الأفندي فها أنا ذا أعلن لك اسم السفاح علي رؤوس الأشهاد. وانحني الحاضرون كل فوق الجوزة التي يدخنها. وانقشع الضباب وشاهد المدخنون من فرجات أوراق اللبلاب الخضراء الجموع التي تعول وتنوح علي الضفة الأخري. وعاد الأعرج للتفجع عيل ترفعه قدماه خضعت له المرافق ونامت عن فجوره وشروره نقطة البوليس فماذا تفعل الأرملة وارثة المعدية (بعد أن مات زوجها) وماذا تفعل ابنتها؟؟ تزوجته الأرملة حتي تتقي شروره ولكنه طلقها في الصيف الماضي.. طلقها منذ نضجت ابنتها فقد زاغت عيناه عن مفاتنها. وتمالك الصحفي أنفاسه ثم سأله: وما دخل هذا في غرق المعدية.. وكيف لا يعرف العمال الخطر من زيادة الحمولة؟؟ ولاحقه العجوز مستنكرا غفلته فصاح: الزحام يذهب العقول يا إخواننا ألا تعرفوا ما هو الزحام ألا تعرف ما هذا الزحام يا سيدنا الافندي هل صادفت عقلاء في أي زحام؟ إنه الزحام منذ أيام الانتخابات والزحام أيام الكرة؟؟ وسأل عامل الإنقاذ الأعرج فقال: إن كان يقصد أن رجال هذه المنطقة ينقلبون عيالا يتقافزون أحدهم علي الآخر وتكون خفة عقولهم هي سبب غرقهم في كل مرة؟؟ واستشاط الأعرج من سفه عامل الإنقاذ فراح يسأل الجمع إن كان العمال قد راجعوا أنفسهم أيام الانتخابات فقالوا: لنستمع إلي تحذير المعداوي حتي لا تغرق بنا المعدية؟؟ وإن كانوا راجعوا أنفسهم بالأمس فقالوا: لسنا في حاجة إلي أبي جنزير لندرك الخطر من شحن المعدية بضعف حمولتها؟؟ ولما لم يجبه أحد استرد في المرة السابقة ألفيت مخلوقات هائجة تهجم علي صارخة: بالروح بالدم.. بالروح بالدم.. ثم تجتاح المرساة فتدفعني إلي الترعة.. وكان يمكن أن تفرم عظامي بين المعدية والمرساة لولا لطف المولي فلم تسحق إلا ركبتي هذه!! ونسمع صوتا يقرأ وبدأت النيابة في التحقيق لمعرفة أسباب الغرق والقبض علي الجناة وقاطعه الأعرج وهل خشب المعدية الذي نخره السوس ومساميرها التي أكلها الصدأ من الأسرار التي تخفي علي النيابة؟؟ وهل ألاعيب اللبوءة الكبيرة وابنتها مع الخاسر البائر تخفي علي الحكومة؟؟ ونهره عامل النصبة فصاح به أن يفيق من هلوسته أو يغادر المكان فورا فلا المعلمة ولا ابنتها لهما دخل بالكارثة. وناح الأعرج نواحا فاجعا ثم أشهد الحاضرين فأقسم أنه لن يخالف ضميره حتي لو وضعوه في الأغلال ولن يكذب عقله بعد أن طرده الخاسر (أبو جنزير) من الخص وتوعده بكسر رجله الثانية إن عاد للساحل مرة أخري. واتجه الأعرج إلي الصحفي متوسلا: ألقي بي سيدنا الأفندي في عرض الطريق فلم يعد لي مكان يأويني ثم أقسم أنه رآه بعينيه يقتفي أثر ابنة المعلمة إلي داخل الخص بعد أن ترك المعدية بدون ريس.. ولم ينتبه بعد ذلك إلا علي الصراخ والعويل. وتأمل الصحفي التضاريس التي لوحتها عوامل التعرية في هذه المنطقة بوجه الأعرج.. وتفحص العينين اللتين أعشتهما أحداث الماء واليابسة ثم تساءل إن كان العجوز قد أصاب عقله حقا خرف الشيخوخة أم خف عقله بسبب الزحام؟؟ وهمس عامل النصبة للصحفي مشيرا إلي الأعرج فقال إنهم قبضوا عليه أيام غرق جمهور الانتخابات أيام كان ريس المعدية ولكنهم أطلقوا سراحه بسبب كسر ساقه وهو يباشر عمله. ولاحقه عامل النصبة فهمس الصحفي محذرا إن الأعرج سيشنقوه إذا لم يمسك لسانه ليخلصوا الخلق مما يثير من شائعات.. وسب الأعرج عامل النصبة وراح يشهد الحضور علي ماضيه قائلا إن المحكمة برأته لأنه أصيب وهو يؤدي واجبه في خدمة الشعب فهو لم يزغ من واجبه ويتسلل كاللص إلي الخص كما يفعل الخاسر في أيامهم هذه!!؟؟ وسخر بعض المدخنين من كلام الأعرج فترحم أحدهم علي الزمن الأمثل وترحم آخر علي الزحام الأمثل. وهتف عامل النصبة فرق بين زحام الماضي وزحام هذه الأيام يا جماعة ولاوعه الجرسون متندرا فسأل إن كان ثمة وجه للمقارنة بين غرقي بالروح بالدم!! وغرقي بيب بيب أهلي!!!