تناولنا فى الحلقة الأولى أمس من ملف «عامان على الرحيل» بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل البابا شنودة الثالث - بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وسائر بلاد المهجر – التى ستحييها الكنيسة اليوم، لمحات من حياته منذ الميلاد حتى "التنيح"، وعرضنا بعضا من أقواله المأثورة .. ونقدم فى الحلقة الثانية و«الأخيرة» رصدا لرحلاته الخارجية بالأرقام، وحصر لمؤلفاته فى مختلف المجالات، ومقالات من محبيه، وكشف لغز حالة الحب بينه وبين المصريين. فى رحلة الحياة نعرف كثيرين من الناس، ولكن قليلون جدا من يتركون آثار طيبة فى قلوبنا، وفى رحلة حياة البابا كثير من البشر – مسلمين ومسيحيين - اقتربوا منه بشكل شخصى، لكن الذين أحبهم وفتح لهم قلبه، قليلون جدا .. لذلك حاولنا فى هذا التحقيق كشف سر حب المصريين للبابا من خلال توثيق شهادات من تعاملوا معه عن قرب - الذين أجمعوا على أن البابا أكبر من الكلمات – فى مختلف مناحى الحياة. الموسوعة كان الشيخ محمود عاشور - عضو مجمع البحوث الإسلامية ووكيل الأزهر الأسبق - من المقربين من قداسة البابا وله معه مواقف إنسانية خاصة، ويرويها قائلا: كان البابا موسوعة متكاملة، فعندما كان يحضر مؤتمر البحوث الإسلامية ويشارك فى مناقشة الموضوعات تجده يفهم فى كل العلوم الدينية والدنيوية، لذلك يستحق أن نطلق عليه موسوعة، وكان يهدأ أى فتنة كانت قادرة أن تخلق حرب أهلية ومن أجمل عباراته التى كنت اسمعها منه «ربنا موجود» و «ربنا كبير»، من المواقف الظريفة وخفة دم قداسة البابا أننى ذهبت لحضور إكليل ابنة شخص مسيحى وعندما قابلنى قداسته ضحك وقال لى " أنت جاى تعقد قرآن هانى يا عاشور"؟ ومن مواقفه معى أيضا أذكر أننى سافرت إلى لندن للعلاج، وفوجئت بقداسته يرسل لى 3 قساوسة للاطمئنان على صحتى، فهو لا يفوته شئ، بل كان مجاملا فى كل أحواله، ولم تكن له علاقات طيبه معى فقط بل مع جميع مشايخ الآزهر الذين عاصروه وأخرهم فضيلة الأمام الآكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف. إنسانية حانية ويكشف لنا الأنبا يوحنا قلته - المتحدث الإعلامى للطائفة الكاثوليك - أن قداسة البابا له سمعة خاصة، وهى الإنسانية الحانية، وكانت له مواقف طيبة كثيرة فقد رأيت دموعة تتساقط أمام الفقراء مسلمين ومسيحيين، وشاهدت تعاطفه مع الطبقة الشعبية، وفى أحد الأعياد كنت عنده وكان زحاما شديدا، وقال له بعض الناس ارحم نفسك يا سيدنا " من مقابلة الناس فقال لهم " هؤلاء الناس هم الذين يعطوننا القيمة الحقيقية لرسالتنا، ثم خرج قداسته وصافحهم واحدا واحدا، لأنه كان يضعف أمام الأطفال ويرق قلبه لهم لأنه تربى يتيما لذلك كان يشعر بكل طفل. حكاية البسكويت ومن الذين تقربوا من قداسة البابا الشاعر فاروق جويدة الذى قال: تعرفت عليه فى 1986 واستغرق لقاؤنا 3 ساعات، وشعرت بالجوع، فقلت له: أنت مش "هاتغدينى" ؟ فقال: أنا صائم، فقلت له: وأنا أعمل أيه؟ فقال: أجبلك بسكويت؟ ولكنه كان كريما وقدم لى ما لذا وطاب، "وتغديت" بالكاتدرائية ولن أنسى ذلك اليوم .. وأعترف بأننى كنت أحب البابا وما زلت، رغم أن الناس الذين أحببتهم فى حياتى قليلون جدا، فبعض الناس لا يموتون، مثل الأب والأم، والبابا شنودة أيضا بالنسبة لى فهو الأب الروحى، فالموت هو غياب الجسد، الأبقى هو الروح، وأعتقد أن روحه تعيش معنا ولكننا نفتقده فى مواقف كثيرة. اللقاء الروحى أما الكاتب الصحفى رجب البنا فيقول: كان اللقاء الأول مع قداسة البابا عن طريق المستشار عزيز أنيس بهيئة قضايا الدولة وهو قبطى، وطلبت منه مقابلة البابا شنودة وهكذا كنت من أوائل الصحفيين الذين تعرفوا عليه منذ أكثر من ربع قرن، ونشأت بيننا فيما بعد صداقة قوية حتى أنه عندما سئل عن أصدقائه من المسلمين ذكر أسم رجب البنا، مما أسعدنى جدا، حيث تعود علاقتى به إلى أواخر السبعينيات عندما قابلته فى الكاتدرائية، ثم طلبت منه أن أذهب للدير وقضيت به 48 ساعة، وخصص لى قداسته "قلايى" بالدير، مما أتاح لى الفرصة للحوار معه ومعايشته وأحتفظ بتسجيل عشرات الساعات من هذا الحوار وهى التى جمعتها فى الكتاب الأول بعنوان " حوارات مع البابا شنودة: الاقباط فى مصر والمهجر والجزء الثانى فى الطريق".. وفى الثمانينات اصطحبت مجموعة من زملائى بالأهرام لزيارة قداسته البابا فى الدير وكان منهم دكتور عبد المنعم سعيد وأسامة الغزالى حرب وصلاح حافظ وإبراهيم عمر ومحمود سامى وبهيرة مختار وآخرون، وقضينا يوما كاملا بالدير مع قداسته، وفى أول رمضان بعد هذه الزيارة قام قداسته بدعوتى لإفطار رمضان بالكاتدرائية، وكانت هذه هى الشرارة الأولى للإفطار الرمضانى الذى أعتاد قداسته إقامته خلال السنوات الماضية. مقال ب«الأهرام» ويضيف البنا: عندما توليت مسئولية رئاسة تحرير مجلة أكتوبر فوجئت بالبابا يزورنى بنفسه بالمجلة ويحمل معه الشيكولاتة والورود، ودار بيننا حوار الصداقة التى تجمعنا، وكانت هذه أول زيارة لقداسة البابا شنودة لمؤسسة صحفية، مما جعل من معى بأكتوبر يطلبون منى عمل ندوة معه بالمجلة، ووافق قداسته وتكررت زيارته لى حوالى 15 مرة ثم طلبت دار الهلال ذهابه لها وعمل ندوة أيضا ثم الأهرام والجمهورية، وكان لذلك مردود على جريدة الأهرام التى طلبت منى أن يكون له مقال بها، وبالفعل بدأ يكتب للأهرام فى السبعينيات، وكنت أنا الذى أحضر مقاله وكان يبهرنى جمال خطه وهذا الجمال جعلنى أصور وأحتفظ بالأصل حتى الآن. كنت محظوظة عندما تحدثت مع المستشارة تهانى الجبالى، كشفت لى سر حزنها الشديد على فراق البابا وقالت: علاقتى بقداسة البابا علاقة شخصية وقد كنت محظوظة إذ حظيت بفرصة القرب منه والحوار معه، فهو يمثل لى الأب الذى كنت ألجأ إليه فى أى وقت، فكنت أجده الأب الحنون، العطوف، علاقتى به كمثل علاقة ابنة بأبيها، دائما تحتاج للتحدث معه، وكنت أزوره كل يوم خميس، واراه يعطف على الفقراء المسلمين والمسيحيين، وكان يستمع لهم ولشكواهم، لذلك لم اندهش من الجموع التى احتشدت فى جنازته. لن تعوضه مصر أما دكتور مصطفى الفقى فقال: إن البابا رفض أن تعطى الدولة أجازة رسمية فى " عيد القيامة " لكل المصريين مبررا ذلك بالحافظ على شعور أخواته المسلمين، ومن المواقف التى لن أنساها لقداسته عندما ارسلنى الرئيس السابق حسنى مبارك لاختيار مرشحين مسيحيين للتعين فى مجلس الشورى، وكانت المفاجأة عندما وجدت قداسته يعطنى أسماء مرشحيين مسلمين، فهذا هو البابا شنودة الذى كان يحرص على زيارته كل رؤساء الدول عند زيارتهم لمصر، ، بل كان يستقبل قداسته فى كل بلاد العالم استقبال الرؤساء، فهو الذى يطلق عليه " بابا العرب " لمواقفه تجاه القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا، فهذا الرجل لن تعوضه مصر، ولن يأتى مثله لما تميز به من صفات نادرة أنعم الله بها عليه.