ليست فحسب الحرفة الإبداعية الأقدم في التاريخ، لكن نستطيع القول إنها الحرفة المعجزة، فحين ينظر صانع الفخار إلى قطعة من الصلصال ويبدأ في تشكيلها مستخدما أقصى طاقاته الإبداعية ليخرج منحوتة فنية من الفخار للاستعمال أو للزينة، ويشعر بروعة ما أنجزه، لا يلبث أن يستفيق ويشعر بالضآلة المتناهية أمام قدرة الله اللا متناهية التي خلقته في أحسن تصوير من قطعة صلصال متشابهة. حين تنظر إلى عم محروس أحمد عبد المجيد شيخ الفخاريين في مصر، تشعر بالأسى على ما أصاب تلك الحرفة، مثلها مثل غيرها من الحرف القديمة الأصيلة التي مضت إلى زوال حين زحف زحام الحياة وضجيجها وتطورها وعبثها ليطغى على الفن والإبداع والجمال، لتصبح صناعة الفخار حرفة «منسية»، ويصبح صانع الفخار كائنا تراثيا لا نراه سوى في الأفلام القديمة أو في المتاحف. ولا تملك سوى الحسرة حين تستمع إليه وهو يتحدث عما آلت إليه حرفته وفنه ومهنته التي توارثها عن أجداده منذ أن تفتحت عيناه في الحياة ليجد عائلته تعمل فيها وتتوارثها منذ دخل عمرو بن العاص مصر، ليقضي خمسة وستين عامًا مع الفخار يتحاور مع الصلصال منذ نعومة أظافره، حتى امتزجت يده بالفخار لدرجة لا تستطيع التمييز معها أيهما أشد صلابة راحة يده أم الفخار الذي يصنعه. يقول «أنا عندي أربعة أولاد وبنت وقبل أن أعلمهم في المدارس علمتهم المهنة لأني أعتبرها شيء من التراث والميراث الذي أورثه لهم، والأهم هما المتعلمان والحاصلن على أعلى الشهادات ماذا يعملون اليوم؟ وأبنائي على سبيل المثال منهم من تعلم وعمل في مهنة أخرى ومنهم من تعلم ثم عمل معي مثل نادر ابنى». لم أدر هل كان عم محروس يتحدث معي أم يحادث نفسه متمثلة في قطعة الصلصال التي يشكلها، مستطردا «نادر ابني عاشق للمهنة ظل يفكر كيف يعلم أبناءه الدارسين في مدارس لغات المهنة التي تربى عليها وعشقها وهم في عصر الانترنت وثورة التكنولوجيا فاقترح على مدير المدرسة عمل رحلة مدرسية مجانية إلى الفخاريين بهدف اللعب والترفيه والتعليم أيضًا، فيقوم الاطفال بعمل أشكال من طينة الفخار (الصلصال) والقيام بالزخرفة عليها ففي هذا الوقت يتعلم الأطفال ويخرجون أيضا الطاقات التي بداخلهم». «أنا أعشق الفخار لأن هناك علاقة قوية بين الإنسان والفخار، فالله سبحانه وتعالى خلقنا من صلصال كالفخار لذا أشعر وأنا أعمل فيه أنه مني»، حكمة بسيطة لخص بها عم محروس تجربته وإحساسه بقيمة حرفته وموهبته، والتي لم يتخل عنها رغم أن الحال الآن مثلما يقول «زفت وليس هناك نفس للشراء عند الناس، ومن لديه نقود سيشتري طعاما لأولاده وليس فخارا للزينة، مصر تمر بظروف صعبة، ربنا يستر على الناس كلها».