تزوج الصالح نجم الدين الأيوبي من شجرة الدر, فصنعا مجدا عظيما بيضا به وجه مصر, في واحدة من أحلك لحظاتها, بعدما استطاعت تلك المرأة أن تهزم الفرنجة وتأسر ملكهم لويس التاسع في دار ابن لقمان. ثم دار الزمن دورته, مصر اليوم تعصف بها ظروف مشابهة, لكن الصالح نجم الدين صار مسجدا ولم يتبق من شجرة الدر سوي شجرة توت عقيمة, تشرف علي المسجد بحسرة وألم, ومازالت مصر تبحث عمن يبيض وجهها ويقيل عثرتها, تماما كما يفعل مبيض النحاس, يجلو الصدأ ويعيد البريق. بحثنا عن المبيض وبعد جهد جهيد وجدناه مفترشا الأرض, تحت ظل شجرة توت قرب ساحة مسجد الصالح نجم الدين, بوكالة باب الزهومة, في حارة الصالحية, المتفرعة من شارع المعز لدين الله الفاطمي..شعبان عيد عمره64 عاما, قضي منها خمسين عاما مبيض نحاس وهو واحد من قلائل لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة في مصر يعملون في حرفة أوشكت علي الانقراض, لم تمنعه الظروف المعاكسة عن أن يقطع كل يوم25 كم بين قريته والعاصمة, فمهنته هي حياته. يضع الحاج شعبان أدواته: موقد, رمال, قصدير, حمض الكبريتيك, فرشاة للتنظيف وقابض حديدي لإمساك قطعة النحاس, ثم يردد يا مسهل قبل أن يوقد النار ويلعب بالجمر, فينفخ في النحاس قبسا من الجمال والفن. في البداية سألته عن أصل هذه المهنة وتاريخها؟ قال: في كل بيت مصري كانت الأواني النحاسية لا غني عنها, وبصفة خاصة في جهاز العروسة والتي كان أهلها يتباهون بما تم شراؤه من نحاس أو ذهب, وقيمة وزنهما حيث كان شراء النحاس يتم بالقنطار. في الريف, كان يتم تقدير العروسة بما يقدم لها من نحاس أو ذهب حيث يتم الاتفاق بين أهل العريس وأهل العروسة علي ذلك فهو مدعاة للفخر بين العائلات. وكانت الأسر في الماضي تحرص علي أن يكون للنحاس بريق مثل بريق الفضة حتي يشعر الضيف بنظافة البيت ومن هنا كانت مهنة مبيض النحاس. وكان صاحب البيت إذا لاحظ أن بعض الأواني اعتلاها بعض الشوائب نتيجة للتفاعلات الكيمائية, كان يخرجها لمبيض النحاس ليتم عمل البياض لها من خلال تسخينها وتنظيفها بماء النار ثم بعد ذلك يتم تسخينها مرة أخري وطلائها بمادة القصدير المختلط بالرمال. كنت أقوم بتبييض أواني المنزل كاملة التشت وأواني الطبخ والأطباق والمصفاة وفوقهم الملاعق والشوك بملغ زهيد الآن وهو خمسة عشر قرشا وكنت في قمة السعادة بهذا المبلغ الذي يكفي بيتي لعدة أيام, أما الآن ممنوع التعامل بالقرش, ويترحم الحاج شعبان علي هذه الأيام ويقول: يا ريت الأيام دي ترجع تاني. وعن أهم الأسباب التي ساهمت في انقراض هذه المهنة يقول: الألومنيوم هو السبب فبمجرد ظهوره في بداية السبعينيات وانتشاره في الاستخدامات المنزلية وأواني الطبخ وأيضا ارتفاع أسعار النحاس مقارنة بالألومنيوم, وكذلك عدم حاجة الألومنيوم للتلميع مثل النحاس, وأيضا ظهور الأطباق البلاستيك للمائدة, الملامين, كل هذا أثر في المهنة ولكن يبقي النحاس هو الأفضل في طهي المأكولات, لأنه لا يتفاعل معها مثل الألومنيوم أو الحديد, فرغبة الناس في اقتناء الأرخص جعلتهم عرضة للأمراض التي تسببها الطرق الجديدة في الطهي.