عند بقعة من أطهر بقاع الأرض.. في رحاب السيدة زينب الطاهرة المطهرة بنت بنت النبي.. كان موعدنا.. هكذا اختارت صاحبتنا الناشطة الثورية التي تحرش بها من لا قلب لهم ولا خلاق ولا خلق في ركن مدلهم من أركان ميدان التحرير في ليلة ظلماء غاب عنها القمر.. وانزوي الحق ورفيقه الخير في مكان قصي.. بعيدا عن أعين الدهماء.. صلينا العصر جماعة.. وتلفت حولي في حيرة.. كيف التقي بمن قاست وتعذبت وتلطمت.. وسط هذه الجموع التي يجمعها نداء الحق ومقام آمن طاهر مطهر من حقد الحاقدين وكيد الكائدين.. فلا لقاء ولا مكان يجمع الرجال والنساء معا.. فالسائر عند المقام الطاهر المطهر يفرق بين الجمعين؟ وجاءتني رسالتها علي الموبايل دون كلام: لنصلي معا أمام المقام صلاة الطهارة من كل ذنب عظيم أنت مع الرجال وأنا في صف النساء.. وصليت أنا ودعوت من ترقد في قلب المقام راضية مرضية أن تحرس مصر.. وتحرس أمنها وخبزها وليلها ونهارها من كل شيطان أثيم.. إنسا كان أو جنيا.. وإن كان كيد الإنسان أشد هولا من كيد الشيطان.. وأمر سبيلا.. وتزيل عنا الغمة ونلم ما تبعثر من شمل وشتات الأمة.. وخرجت من المقام الطاهر المطهر إلي حرم الجامع واتجهت إلي القبلة.. يظللني فيض من الإيمان برحمة قادمة لا محالة.. والصبر علي الشدائد والمحن.. وأن الفرج آت لا ريب فيه.. كما تغيب الشمس في الليل.. فإنها حتما ستشرق بالنور بالضباء بالحياة في الصباح.. الثريات المعلقة في سقف الجامع تلون بنورها الخلق والجدران والنفوس بمظلة بيضاء من مئات المصابيح كأنها تقول لهم: بعد الظلمة والعتمة.. دائما يهبط طائر الأمل مغردا متنقلا من فرع شجرة إلي غصن مورق إلي عش دافئ يلم الشمل ويطعم الفم ويجمع الصحبة.. وبينما أنا سارح في ملكوت الله في رحاب مقام الطاهرة المطهرة.. جاء من خلفي من يمسك ذراعي ويقول لي: امرأة طيبة تطلبك ياهذا.. التفت إليه بسؤال: تطلبني أنا؟ قال: نعم.. اتبعني.. عجل ولا تؤخر.. سرت وراءه بنفس خطاه وكأني مربوط معه بخيط سحري غير مرئي.. دخل من باب صغير وأنا خلفه تماما وقدمانا حافيتان تغوصان في سجاد المقام اللين الهين.. الباب الصغير قادنا إلي صالة رخامية كان واقفا علي بابها سيدة وقور في يديها تتدلي سبحة طويلة وعلي وجهها عبق الوقار.. وطيب المشيب.. تعلو رأسها طرحة بيضاء كبيرة.. قالت لي في ابتسامة ودودة: نحن في انتظارك يا ابني.. أنا وهذه الشابة الطيبة.. تأملت من تقف إلي جوارها.. وجه في لون اللبن الحليب.. وعلي رأسها طرحة خضراء.. عرفتها من صوتها الذي حدثني نبراته في مستشفي قصر العيني قبل أيام قلائل.. قلت لها: هكذا أنت.. لقد أحسنت اختيار المكان والصحبة.. المكان الطاهر المطهر والصحبة الطيبة التي تفيض خيرا وتقي.. مالت السيدة الطيبة علي كتفي وقالت همسا: لقد حكت لي الصبية كل شيء.. وعليك الآن أن تستمع إليها هوينا هوينا.. وهي صادقة كل الصدق.. والله يتقبل الذنوب جميعا والله غفور رحيم. قالت كلماتها.. ومضت.. وتركتنا معا داخل أطهر الأمكنة وأعظم المقامات. ......... ........ وظهورنا تستند إلي جدار صاحبة المقام.. سألتها: أنت إذن ياعزيزتي من هذا الحي الذي ينتسب إلي أطهر النساء في الإسلام؟ قالت: نعم.. لقد ولدت هنا.. وهنا أمضيت طفولتي.. وسنوات دراستي.. حتي تخرجت في الجامعة.. وأنا أكاد أعرف كل طفل هنا وكل شيخ وكل امرأة وكل فتاة.. وهم يعرفونني.. ولطالما شاهدوا صوري علي شاشة التليفزيون وأنا أجري حوارات ولقاءات كلها عن الثورة وعن مصر وعن أحوال خلق الله الغلابة المظلومين أمثالنا؟ أسألها: يعني أنت تضعين نفسك في صف الغلابة والمظلومين؟ قالت: وهل هناك من جري ذبحه ظلما وعدوانا أكثر مني؟ قلت لها: يا بنت مصر الطيبة.. غير بعيد عن هنا.. مقام شجرة الدر أعظم امرأة حكمت مصر بعد الملكة حتشبسوت.. والتي قادت جيوش مصر إلي نصر عظيم علي جند فرنسا وأسرت ملكهم لويس التاسع في دار ابن لقمان في المنصورة. تعالي نمشي الهوينا حتي مقامها العظيم... وفي الطريق وسط قوم مصر البسطاء أحكي لي ما جري لك في الميدان.. ولن يكون بالقطع أكثر جرما وإجراما مما فعلوه بالملكة شجرة الدر.. قالت: لا أريد أن أتذكر أو أستعيد شريط ما جري لي في آخر الليل في ميدان الحرية والكرامة.. بعد أن حوله الكفرة المرقة والمسجلين خطر إلي حفلة لأكلة لحوم البشر في غابات افريقيا.. وهم يتصايحون ويدورون حول الضحية التي أوقدوا النيران من حولها.. ثم بدأوا يلتهمون لحمها قطعة بعد قطعة.. هكذا فعلوا بي.. نزعوا عني ثيابي كلها بالمطاوي والسكاكين.. ثم راحوا يغرسون سيوفهم وخناجرهم في لحمي.. وأنا أصرخ ولا مغيث بعد أن أحكموا بأجسادهم دائرة حلقة بشرية من حولي.. وأنا اصبح واستحلفهم بالله أن يتركوني.. وإذا جاء أحدهم ليسأل: ماذا يجري هنا؟.. قالوا له: ده واحد حرامي بنأدبه وبنضربه عشان يحرم! أسألها: أمال فين الأمن.. فين الشرطة؟ قالت: الشرطة.. لا تدخل الميدان كله وحتي شارع الشيخ ريحان وميدان سيمون بوليفار وحتي آخر شارع قصر العيني.. ولو دخل عسكري واحد أخذ نصيبه من الطوب والزلط وقنابل المولوتوف.. وربما رصاصة خرطوش لا أحد يعرف من أين خرجت ومن أطلقها.. لتحمله عربات الاسعاف.. حيا مصابا.. أو فاقد الحركة والروح أحيانا! قلت: يعني الشرطة من بعيد لبعيد؟ قالت: أيوه لا حس ولا خبر.. بس تملأ السما كلها علينا بغازات القنابل المسيلة للدموع.. تخنق كثيرا.. وساعات بتموت! ......... ......... وصلنا إلي مقام شجرة الدر.. مقام عربي الطراز رائع التصميم.. كان محط اهتمام وسهر الصديق الفنان فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق.. وقد زرناه معا بعد الانتهاء من بنائه بلونه الأبيض الجميل.. وقال لي يوما ونحن تحت قبته المملوكية الطراز: هذا مقام أعظم ملكات مصر الحديثة.. والتي أخفت خبر موت زوجها السلطان الصالح أيوب.. وقادت جيوش مصر في حربها مع جيوش لويس التاسع ملك فرنسا الذي وقع أسيرا في قبضة يدها.. ولم تتركه يرحل إلا بعد أن دفع الفدية ذهبا وعدا ونقدا! قالت محدثتي التي غدروا بها في الجانب المظلم من القمر أقصد ميدان التحرير: هذا مقام شجرة الدر سلطانة مصر العظيمة.. هل هي مدفونة هنا.. أقصد هل هذا مثواها وقبرها؟ قلت لها: لقد سألت الفنان فاروق حسني ثاني أعظم من جلس علي كرسي وزير الثقافة في بلدنا بعد العبقري الفذ ثروت عكاشة.. نفس السؤال فقال لي ونحن نقف ذات مرة معا هنا.. كما نقف أنا وأنت الآن: أبدا.. لقد تجمعت عليها جواري ضرتها بمكيدة منها وضربوها في الحمام بالقباقيب حتي لفظت أنفاسها.. ثم القوها عارية في مزبلة الدراسة! قالت: ياه انها موتة شنيعة قوي لسلطانة مصر العظيمة.. لقد فعل المجرمون من البلطجية والمسجلين خطر الذين تسللوا إلي الميدان بي كما فعلوا بشجرة الدر.. ولكن الحمد لله الذي ساق لي شباب الثورة لينقذونني من بين براثنهم علي آخر رمق! تساقطت دموعها غزيرة ساخنة.. لتبلل شفتيها.. قبل أن تقول: ستظل الثورة حية متيقظة.. وسوف تنجح في القضاء علي مؤامرات من يكيدون لها كيدا.. ونحن فتيات الثورة حتي نخاف ولا نذهب إلي ميدان التحرير.. الذي سجنوه هو الآخر ولن ترهبنا أفعالهم قاتلهم.. الله.. في كل دار وكل قرار.. ......... ......... غير بعيد عنا رفع المؤذنون آذان المغرب من فوق مئذنة السيدة نفيسة.. ذهبنا عدوا حتي لحقنا بالصلاة في موعدها.. ودعونا في مقامها الطاهر.. أن يغفر لنا ذنوبنا.. وخطايانا..اللهم آمين.. ثم خرجنا إلي طريق العودة.. نفس طريق المجيء.. ونحن نمشي الهوينا في طريقنا إلي حي فتاتنا سألتها: هل حكيت لأمك ما جري لك؟ قالت: لا.. سألتها: ولا لاخواتك أو أي مخلوق؟ قالت: لم يحن الوقت بعد! سألتها: هل ستعودين إلي الميدان وتكررين نفس سيرتك الأولي مع الثوار؟ قالت: لن أتركهم ما حييت.. في الميدان سآخذ بتاري من هؤلاء الدخلاء الذين يريدون للثورة أن تنتهي وللثوار أن يذهبوا إلي دورهم.. الثورة يا عزيزي ستظل حية.. بنا أو بغيرنا.. وسلام يا صاحبي! قبل الزمان بزمان امرأة واحدة انقذت بحسن ادارتها وحكمتها.. وطنا بحاله.. واليوم الرجال يصنعون الفوضي الحمقاء والعصيان الاخرق! ........ ........ لوحت لي بيدها وبعينها وبفؤادها.. قبل ان تبتلعها ظلمة المساء.. قلت في نفسي بعد أن ودعتها: شجرة الدر لم تمت.. فقد وجدنا لها حفيدة! [email protected]