يسير أمامنا علي عجلاته.. ينقلب, أو يحترق, أو تنفصل عرباته.. يختنق الركاب, أو يقفزون من شبابيكه وأبوابه, أو ربما لا يسعفهم الوقت فتكون نهايتهم أشلاء علي قضبانه..وهنا ينفجر الإعلام, ويثور بشدة الرأي العام, ونظل نبحث عن المسئول, فهو تارة الوزير الذي سرعان مايستقيل, أوعامل المزلقان, أو السائق. أو طرف آخر مجهول... وننسي دائما من قبل أن تحترق أجساد الركاب في يوم العيد داخل قطار الصعيد أن نبحث فيما وراء مشهد سير القطار علي القضبان, وأن نتطلع لمشاهد أخري كثيرة تجري في الخفاء هناك علي بعد نحو ثمانين كيلو مترا علي طريق أسيوط الغربي, يتحدد مصير القطار وصلاحية الفرامل والعجلات, هناك تستبدل قطع الغيار, ويتم التأكد من وصلات العربات.. لذا إلي هناك ذهبنا وقضينا يوما كاملا مع عشرات العمال والفنيين داخل ورش أبو راضي بمركز الواسطي, تحدثنا أيضا مع المسئولين, واكتشفنا حقائق كثيرة منها ماهو مؤلم أو موجع, ولكنه في النهاية يشكل جزءا كبيرا من واقع السكة الحديد. قبل أن نبدأ جولتنا علي الطبيعة كان لابد ان نتزود بمعلومات وأرقام حول عملية الصيانة في ورش أبو راضي, وفي المبني الواقع علي بعد أمتار من الباب الحديدي جلسنا في مكتب المهندس وجدي المرسي مدير عام الورش لنعرف منه أن الورش وهي الرئيسية في هيئة السكة الحديد مسئولة عن إجراء ثلاثة أنواع من الصيانة أو العمرة بلغة عالم القطارات, لنحو110 عربات شهريا, أهمها العمرة العمومية وتتم كل18 شهرا ويتم فيها فك أجزاء عديدة من القطار لإجراء صيانة دقيقة لها, حيث يتم فصل الصندوق الذي يشمل العربات ومحتوياتها من الكراسي والشبابيك ودورات المياه والأبواب عن شاسيه القطاروعجلاته( البوجي) حيث يذهب الشاسيه لخط إصلاح يتولاه فنيون متخصصون, بينما يذهب العجل لخط آخر, كما تتم فيها صيانة الفرامل, والبوجي وهو وفقا لكلامه أخطر جزء في القطار لأن أي مشكلة في العجلات أو الشاسيه يمكن أن تؤدي لحوادث مروعة, وهنا علمنا أن العجل هو من أغلي القطع في القطار التي لا تتوافر إلا بالاستيراد من دول كالبرازيل وتشيكوسلوفاكيا, وكما علمنا فإننا بعيدون تماما عن مجرد التفكير في الإقتراب من تصنيع عجل القطارات في مصر لأنها صناعة ذات مواصفات عالية لا نملكها, ولا نملك سوي أن نعيد خرط العجل في موعد العمرة المعتادة, حتي يعود له صفاؤه ونعومته واستقامته, إلي أن يصل لمرحلة لا يجدي معها الخرط وهنا يكمل محدثنا نبحث عن قطع الغيار ونصطدم بمشكلات السعر الباهظ بالإضافة لتأخر عملية الإستيراد بسبب عدم توفر الإمكانات, حتي عملية صيانة العجل بالخرط تواجهها مشكلات منها: قدم المخارط وتهالكها حيث أن عمرها يعود إلي تاريخ إنشاء الورش في عام1986 ورغم أن هناك خطة لتحديثها إلا أنه من الأفضل تغييرها تماما, ولكننا نصطدم مرة أخري بمشكلة الامكانات وهنا يؤكد أن الإمكانات الفنية المتوافرة تسمح بأداء وجودة أعلي في الورش لكن الإمكانات المادية هي العائق. وسألناه حول المرحلة التي يصل فيها القطار لمرحلة التقاعد قال ان القطارات في مصر ليس لها عمر افتراضي إلا إذا تعرضت لحوادث نتج عنها إنحناء الشاسيه أو حدثت به تآكل فهنا يتم تخريدها أي بيعها خردة.. لكن بصفة عامة لا يوجد عمر افتراضي للقطارات في مصر مادامت صالحة للعمل وتخضع للصيانة الدورية اللجان صك ضمان ولأن محاولة البحث عن أي أسباب محتملة للحوادث تشغلنا عدنا نسأل المهندس وجدي عن ضمانات أن تتم العمرة علي أكمل وجه لكل القطارات وجاءت إجابته ملخصة في كلمتين: الفحص والاختبار مؤكدا أن هناك لجان فحص جزئي ومفتشي جودة لكل مرحلة, بالإضافة لتفتيش خارجي من الهيئة, كذلك يتم عمل اختبارات عن طريق أجهزة ومعدات تختبر صلاحية الفرامل وتختبر احتمالات وجود أي شروخ خفية في العجل أو أي قطعة, ويفسر لنا الفارق الذي نراه بعد خروج عربات القطار من مرحلة التجديد والصيانة إلي أن يعود إليها مرة أخري بسلوكيات المواطنين, التي تفسد الكثير من الإصلاحات والتجديدات بأسرع وقت وأكثرها تأثرا هي زجاج الشبابيك ودورات المياه التي تصاب بالتلف بعد أول رحلة أو رحلتين للقطار. الورش بريئة وبمجرد أن طرحنا ما قاله أحد المسئولين عقب واقعة قطار البدرشين من أن القطار كان خارجا منذ فترة وجيزة من ورش أبوراضي فاجأنا رمضان شاكر رئيس اللجنة النقابية للعاملين بالورش بتدخله في الحوار نافيا بحدة وضع الورش ككبش فداء لأي أخطاء أو حوادث, مؤكدا أن أحدا لا يملك أن يحاسب العاملين والفنيين بالورش علي ظهور أي مشكلة بعربات القطار بعد خروجه من الورش!! ولما استنكرنا كلامه أوضح لنا أن هناك لجان فنية علي أعلي مستوي من هيئة السكك الحديدية تقوم بعمل معاينة شاملة لكل عربات القطار وفحص أجزائها قبل التوقيع علي محضر بتسلمها, مؤكدا أنه حال اكتشاف اللجنة أي عيب أو مشكلة فإنها تصر علي إعادة العربة وعدم تسلمها, ولكن مادامت تسلمتها فلا يجوز القول بأن الورش مسئولة بعد ذلك, لافتا النظر إلي أن العربات بعد خروجها تتعرض للعبث إما من الركاب أو من بعض اللصوص والعابثين الذين يقومون بفك أجزاء من القطار أثناء تخزينه( مبيته) بغرض سرقتها أو إحداث أعطال وحوادث, وهنا تقع المسئوليةعلي عملية الصيانة اليومية التي تكشف علي سلامة القطار وترابط أجزائه قبل خروجه في كل رحلة. الحديث عن السرقات جعلنا نكتشف أن الورش تعاني أيضا مشكلات غياب الأمن, فاللصوص يتسلقون الأسوار ليلا ويسرقون المحولات وكابلات الكهرباء. الجزرة لاتزال موجودة فجأة وقبل أن نغادر مكتبه تذكرنا الجزرة البطلة الشهيرة لحوادث القطارات المتكررة في التسعينيات, والتي يستطيع أي راكب أن يعبث بها كي يوقف القطار في المكان الذي يريده, وكانت المفاجأة أن الجزرة لا تزال موجودة في قطاراتنا ولكن تم إخفاؤها منذ عامين فقط بطريقة ما, رأينا أنه من الأفضل ألا يتم الكتابة عنها حتي لا يكتشفها أحد ويتسبب في المزيد من الحوادث. الإنبطاح أرضا تحركنا خارج الجدران إلي الفضاء الرحب إلا من سقف حديدي عال يظلل منطقة الصيانة, أو صالة العمرة الرئيسية كما قال لنا المهندس مجدي رمزي مدير الورش وهو يرافقنا في جولة امتدت ساعات لتفقد أرجاء أكبر صالة صيانة علي مستوي الشرق الأوسط تبلغ مساحتها نحو75 فدانا, علي الجانبين اصطفت عربات القطارات البعض منها يبدو كالحا باهتا تتناثر علي أرضيته أكوام من كسر الزجاج, والبعض الآخر يبدو كعروس ارتدت زيها المزخرف بأبهي الألوان, ومابين المشهدين رحلة شقاء وعناء ليس فقط لأن العمل في هذا المجال مجهد وشاق, ولكن بسبب أمور كثيرة منها نقص قطع الغيار ومستلزمات الصيانة والإحلال, هكذا قال لنا بكلمات منفعلة الكثير من العمال والفنيين ومنهم: محمد فتحي الذي انتظرناه ليستطيع الخروج إلينا من تحت إحدي العربات حيث كان منبطحا أسفلها من أجل تركيب وتربيط عدة مسامير, علمنا أن وظيفته فني تاني براد وأنه بعد خمس وعشرون عاما يتقاضي160 جنيه حوافز, و1100 جنيه راتبا, ويعمل قرابة12 ساعة يوميا مستلقيا تحت القطار, يقول: أبحث عن القطع والمسامير في العربات الخردة وأعيد تركيب الصالح منها لإصلاح عربات أخري, وهكذا يفعل معظم زملائي, نحن نعمل في أسوأ ظروف وبأقل دخل ووسط مخاطر وإذا أصيب أحدنا لا نجد من يسعفه, وقد رأينا زملاء لنا ماتوا أمامنا, نحن أيضا نأكل ونشرب علي حسابنا ونذهب لمأموريات عمل من جيبنا, وعندما نمرض لا نجد علاجا لنا سيارة إسعاف ثابت محمد حسين عضو اللجنة النقابية لعمال الورش قال لنا: لا نطلب سوي سيارة إسعاف لأن كل يوم هناك إصابات والمركز الطبي متهالك, وهناك الفا عامل بورش أبو راضي يأتون من مناطق عديدة ويعانون السفر ومشقة الانتقالات خاصة في حالة تأخر العمل وأيام المواسم والأعياد فيضطرون للمبيت بالورش داخل عربات القطار, برغم أننا طالبنا باستغلال قطعة أرض في مواجهتها ملك للدولة لبناء مساكن للعمال,وبالفعل صدر تخصيص ولكن تجمد الأمر دون مبرر. فرامل الونش!! كلما تحركنا داخل الصالة كلما استمعنا لشكاوي ومشكلات بعضها كان متكررا مثل قطع الغيار, وبعضها كان يختلف, وداخل القسم الخاص بخرط عجلات القطار وقفنا نتعرف من المهندس إيهاب إسماعيل رئيس قسم العجل علي مشكلاته والتي لخصها بقوله: ممكن أقعد سنة أنتظر العجل الجديد!! وفجأة سمعنا جلبة صوتا عاليا يطلب منا الابتعاد وكانت المفاجأة أننا كنا نقف علي سير أرضي لأحد الأوناش الذي يمر حاملا قطعا ضخمة من العجل وأجزاء القطارات, ابتعدنا ومع ذلك توقف المسئول عن الونش لنعرف من جمال عبد النبي أن لديه مشكلة في صيانة الأوناش الضخمة بالورشة, وأصر علي أن يلتقط زميلي له صورة وهو يحمل الفرامل المعطلة لأحد الأوناش, وهنا تذكرنا المخاطر التي تحدث للعمال والفنيين بسبب كثرة تحرك الأوناش الضخمة في كل إتجاه حتي من الأعلي حاملة عربات القطار والقطع الثقيلة, وبرغم ذلك وكما يقول المهندس مجدي رمزي فهم لا يتقاضون بدل مخاطر. مجموعة من العمال التفوا حولنا لنرفع صوتهم مطالبين لهم بالتأمين لأنهم يعملون باليومية منذ عدة سنوات يتقاضي الواحد منهم نحو ثلاثين جنيها وليس له أي حقوق أخري, ولا أمل في التعيين برغم أن العمل بالورش يحتاجهم بشدة حوادث البوجي كان لا يمكن أن نختم جولتنا بالورش دون أن نمضي وقتا إلي جوار البوجي ذلك الجزء الأخطر في حركة عربات القطار كما قيل لنا سلفا.. وبدا المهندس سيد عبد العزيز رئيس قسم البواجي كأنه في انتظارنا ليحذر من أمر خطير شرحه لنا علي الطبيعة, يتعلق باختصار بسهولة العبث بتصميم نوعية العربات من طراز بوجي( يوآي سي) والتي تظهر أجزاء التأمين بها مكشوفة ومنها مسمار غفير وخابور والعبث بها يؤدي لمشكلات خطيرة والحل كما ذكره أن نعتمد فقط علي موديل بوجي( الجانز) لأنه يؤمن هذه الأجزاء ولا يجعلها مكشوفة لأي عبث. انتهت جولتنا وغادرنا مركز الواسطي لتبدأ الأسئلة تتراص داخل أذهاننا, لماذا نترك عمال وفنيون في أخطر وأهم عمل يمس سلامة القطارات يعانون هكذا ؟ ولماذا لا يكون لدينا رصيد كاف من قطع الغيار؟ لماذا لا نولي وجوهنا تجاه الورش واحتياجاتها ونستفيد من خبرات فنية تتعطل بسبب نقص الإمكانات؟.. ليتنا هذه المرة نبدأ الإصلاح ليس من فوق القضبان ولكن إن جاز التعبيرمن مطبخ القطارات.