سكناك في مطالع القصائد. أنت هو التحولات والجذور والأعماق, سكنت في التعاطف الخفي بين الحزن والأوراق, بين الطير والسفر, سكنت بين الصمت والنعاس والقمر, شاهدت دمع صخرة لما تزل تبكي هناك في بيروت. ووجعا في قلب سوسنة, يقطفها الصبي في الحديقة! ها أنت يامنصور, ياضلع المثلث الكبير. عاصي مضي فصرت كالأعمدة المكسورة. وبعده رحلت أنت. وبقيت فيروز: المجد والظل الوريف والعطور والقيثارة الشجية, صوت السماء حين تنحني لتلمس الجبل, وصوت هذي الأرض حين تسمو كي تعانق السماء. تضم حلم اثنين ذبا, صارا واحدا, لايعرف الواحد من أخيه, كلاهما يبتدع الكلام والألحان, يرتجل الأشواق والأفراح والأحزان, كلاهما يسطع في نبوغه, يضوع في معراجه, في صيغة ماعاش مثلها الزمان. من يبدأ اللحن ومن ينهيه؟ ومن يضخ موجة البداية المثيرة؟, ومن يقول لفظة الختام؟ مثلث من نغم ونور. من عبق طاغ ومن زهور. وأنت يامنصور خدن زهر اللوز والدراق والمطر. وصوت حزن الجبل الأشم, وصوت ما خبأته في لعب الطفولة, ينضح بالحزن وبالشجن. وعندما يأوي إلي الفراش, يحلم كالأبطال. يحلم بالأب الذي يعود. يعود حين تطلع الورود. من صار جذع شجر يعود, هاأنت طفل جالس أمام باب. ترسم في التراب. أشرعة تبحر فيها, حالما بروعة الرحيل والغياب. هذا كلامك الجميل يامنصور, كأسك المسكرة الشراب للصحاب! عبر ثلاثين سنة. عاصي رفيق الرحلة الطويلة. عاصي شقيق القلب والأفراح والأشواق والموال والأحزان, رفيق درب البوح والكتمان, والأوسمة الجميلة. وصوت فيروز المحلق الأنقي, يطير للبعيد, وفي جناحيه كلام لكما, يطفر من دهشته في نغم مباغت جديد. كيف احتملت لحظة الفراق وانطفاءة النصف البديع فيكما؟ كيف استطعت أن تجرجر الخطي, من بعد ماواريته التراب. ودومت برودة التوحد المرير. ساعتها وقفت كي تقول: غاب الذي أنا اسمه الآخر, وهو جزء مني. يأخذ كل عاصي معه, وبعض منصور! وحينما قال لك البيت: خذوني معكم, أعطيته الدمع ورحت. وصرت مصلوبا علي شطآن هذا العالم الحزين, كل هذا العالم الذي مضي, ماعاد مثلما كان, ولن يعود. سافرت في تهدج الأصوات, في جنائز العويل والبكاء, وفي صلاة البسطاء. هاجرت في مياه النهر والبحار, في الشواطئ المبتلة الرمال, في منابت العشب, وفي شموخ الأرز, في غروب الشمس, في أسئلة الأطفال, في قصائد البوح الشجي, في مدارج الصفاء, وانطفاءة النجم البعيد, في دوائر الأحزان. وحينما عدت لنا, صرت الغريب الآخر, تحفر في الصخر ليولد النبت الكلام, تنفخ في الناي لكي ترفرف الألحان في السفوح والوديان, وتلتقي من حولها جدائل النسيم والطيور والرعيان. تدوس فوق الشوك كي تواصل الذي أنجزتماه, تحمل العبء الجليل, شامخا كأنك الزمان, والزمان كله مرتسم لديك في المرآة, قابع هناك في الميزان *** أعزف في نايك لحنا آخر: وجهك مرتفع كالراية, ينظر في وجه الآتي, والآتي نغم منهمر, وكلام يورق مخضرا, أشجارا تورق فاكهة, وربيعا يتوهج أحلاما, وحكايا تلد كنوزا, وفنونا شتي تملؤها حكمة, سقراط, وأشعار أبي الطيب, ووصية حب من قلبك, وبهاء القداس الماروني, وبدائع أخري. كنت تقول: هكذا اليوم أنا. أتوغل في العمر وحيدا, حاملا اسمي معي. ويدي تحمل مشعل عاصي! مازالت كلماتك في سمعي حين حملت رسالة مصر لتكريمك: كيف أكرم وحدي الآن, وعاصي ليس معي؟ في مصر مذاق خاص يعرفه من يبدع لحنا أو كلمة. هذا جمهور راق حساس. يملك قلبا في أذنيه, وتاريخا يركض في دمه, ونزوعا نحو الأعلي والأسمي. كنا في بيروت وكان يقول: سأجئ إلي مصر قريبا, أعرض في الأوبرا أحدث أعمالي. لاتنس عزومة أسماك النيل. أخلفت الوعد, وغبت. وظلت فيروز الأيقونة تشدو بكلامك أنت وعاصي عن مصر: جئت يامصر, وجاء معي تعب إن الهوي تعب قسما بالمبدعي سببا ياحبيبي إنك السبب في ليلة كأنها الحلم البهي في بيروت, أتيح لي حضور إيلا مسرحية الأخ الأصغر إلياس: مؤلفا ملحنا وفيلسوفا, يعلن واثقا وفي انهمار فنه الرفيع أنه امتداد لكما: عاصي ومنصور, الآن لم تعودا اثنين, صرتم ثلاثة العباقرة, وانتصرت جينات رحبانية النبوغ والإبداع والخلود! المزيد من مقالات فاروق شوشة