1 لم يبق سواي في هذا الحزن, بعد أن أعيتهم فتنة الغدر, وقطعوا الحبل السري بيني ورحم توأمي |رحماك يا كوني فهذا هو فعل خالقي, كأنها كانت هناك, قبل أن تخطئ الهبوط إلينا, فصار موتها ممرا للذهول, شاخت ملامح التسامح داخلي, واسودت مساحة الغفران, علي يمين قلبي أمارات الموت, وعلي يساره سؤال يرتعد, سيظل يبحث عن اجابة. تقنع عصفور باع جناحه ليشتري عشا ضد الرياح كيف الوصول إليك اذن ونحن لا نستطيع التخلص من أجسادنا التي احتلتنا منذ الهزيمة الأولي رغم أننا لحسنا الغد آلاف المرات ولم نجرؤ علي التهامه! ربما لأنه مشتبك بالماضي بطريقة مستفزة. خبراتنا عنه رديئة. لم تصل بعد إلي حد تفاصيل الروح, كحارس ضوء الشمس الذليل, لا يستريح من توصيل الأشعة لأرض لا تجود بثمار. كيف الوصول إذن, ودروب السماء طمست من قطرات الدمع, وأرواحنا سكنتها اليمامات الحزاني؟ الآن,.. لا نبحث عن تعاليم للصغار. يكفيهم أن يعرفوا قصة طفلة قتلتها أيدي رجال, ليجعلوا منها الدرس المستمر علي مر الزمان. لكنك سبب فيما حدث. حين كنت بريئة إلي حد تنفيض الغبار عن ذقنه وقت أن كان يحفر لك قبرا لم يكفك حفنة من ظل الحياة فرحت تلبسينه لونا أبيض آخر يليق ببنت من بنات الحور كأن الطهارة أمر يحتاج لاعتراف كوني 2 علمني موتك الكتابة, أو ربما أردت أن أعذب غرابا لم يعلمهم طقوس دفن العشيقات, أو أردت أن أعذب قلوبا لم تعتصرها شدة البكاء. ماتت لمجرد موت الجسد, وكنت أريد أن أعذبها آلاف المرات لكنك لن تمرقي بالحياة كعابر سبيل, سأخلد قصتك, وأنتقم من الماضي, الذي لم يوصلك لليوم بأمانة فاشربي ما تبقي من لعابك حبيبتي, وكوني علي ثقة أن الكون لن ينتهي.. قبل أن تشهدي بدايته. 3 اطمأني يا صبوح, فمن له أم لا ينوح. ألم تقولي لي هذا عندما سقطت من أعلي سطوح البيت أنا أمك من الآن؟ لكن لم يبق منهم سوي الماضي.. سوي التاريخ. هل لي الآن أن أبوح لك بسر. لأنني أحبك, قررت أن أري الأشياء فقط. بل لابد أن أعرفها, فلم أكف عن اكتشاف الأسرار, ولما شممت منه عطرك, وكان لي حق الاختيار, تزوجته.. لأن معطفه الأبيض لون قلبك, ويرسم وجه فتيات, تحمل طيفك. علي سيرتك, وضع أول قبلة علي جبيني, وبين صمت سري الأول, برهن لي أن الحب لديه أسبابه لينجو, لكن لابد لعقربي الساعة أن يتعانقا, ليستطيعا عبور الزمن بأقل قدر من الخسائر. لي الآن ابنة تشبهك تماما, لها غمازتان تغوي بهما القلوب. تهوي النوم علي الأرض مثلك, وتترك مشروباتها حتي تبرد, أضم كل شعرها في خصلتين لأراك, كأن الزمان لا يفرق بين الأشياء إلا ليعيد إليها وحدتها كلما نويت الاستعداد لنسيانك, ذكرتني قطتك التي مازالت تحتل فراشك, حتي الآن مازلت أحاكي طقوسك, علي الرغم من الدمعة الساكنة بتجاعيد وجهي, علي الرغم من ارتعاشة لحظة عناق طالت, وأنا أفتح دفاتر الحياة الجديدة. الزوج, والأبناء, والسيارة, والسفر, ودنيا كل جمالها كان لابد أن يكون لك. والآن وبعد مرور سنوات كثيرة, أتذكرك كلما رأيت تلك الدمعة المعلقة علي جدار الكون, كلما سألتني ابنتي عن صاحبة الصورة الجميلة, أين هي الآن ؟ يرد أبوها نيابة عني, ليس لأن الدموع خنقتني, بل لأنه نال يوما نصيبا مما كتبته الأقدار علي فتاة تنبأت بموتتها دون أن ترتجل, أو تناجي السماء. دون أن تلوم النجوع عن دفء افتقدناه: راحت تبحث عن الفجر لتهدي الديك حنجرة جديدة. وها أنا الآن.. أجلس أعلي كمية السنوات أنقب عن فعل مستحيل, لكن مادام له قانون, فمن الممكن استعادته ولو بشكل كوميدي, لأثبت براءتك, بعد أن تأكدت من أن كنوز الماضي متكدسة في حصن يمكن اقتحامه بقليل من العلم. ها أنا.. أستنطق حفريات التاريخ, لأعيد للحب اعتباره المفقود علي مر الأزمنة لا بصفته جانيا أدي بقلب بريء إلي ظلمات القبر, بل لأن تاريخ الأفراد أهم الآن من تاريخ البطولات والمعارك. 5 بيني وبين الحقيقة الآن مسافة, لا يتعدي قطرها الصفر, وليس بيننا سوي نبتة فجر. بدا يلوح باطمئنان, بدون أحلام مربكة, أو انتظار وحي. فقط... طرف خيط. قد يكون سوسنة أو صفصافة شكت لك يوما ظلمهم, أو أرق ضاحية هدها جدار خائن, أو أجزاء روح صاحبتك بدرب الرحيل. كل سير البقاء تتعاون الآن لاستردادك, وما اجتمعت أمة علي باطل حبيبتي. شيء واحد ظلت تحوم حوله ملائكة الطابية, بعد أن غادروها ساعة قيلولة قائلين: التاريخ يقول صمتا غير ما يقوله جهرا. مقولتهم التي قذفوها بين تلين ألهبتني, أقنعتني مجددا أن أبحث عن ضفيرة لم تستطع ابتلاعها الديدان. يسمونها سر, لكنها كانت لي قناعة شخصية. تهديني لحلول معقولة لتخليص جسدي من قبضة الأقدار, حتي لا أكون سنة العروسة التي ستهديهم الشمس بها, حين أقرر أن أبعد عن هذا المسير العام. لكنه أمر مجهد. قالها زوجي واستدار: عشنا جميعا يا دكتور وماتت هي, فلا تحرمني من شرف الحزن عليها, وأنت أشد من دعوت لحرب علي جهل القدماء ودرست تأثير الأسطورة بتحريض رثاء فتاة استأثرتك عيونها وتوقدها ذات يوم. أنا معك أقشر برتقالة الحياة لنكتشف ما يغاير ملوحتها حبيبتي. احتضنني أحمد بعمق أسقط أحزاني, وقررنا في هذه الليلة أن نتخلص من خطيئة الكلام, علي أن يعاود ممارسة دور المعلم, لكن في صمت يحافظ علي ثبات الكأس وقت الزلزال. مازلت أعشق سوء فهمك. لأنك المرشد. لا, بل لأنك التلميذة. فصل من رواية بالعنوان نفسه تصدر قريبا عن بيت الياسمين في القاهرة.