و بلدنا ع الترعة بتغسل شعرها جانا نهار مقدرش يدفع مهرها يا هل تري الليل الحزين أبو النجوم الدبلانين أبو الغناوي المجروحين يقدر ينسّيها الصباح أبو شمس بترش الحنين؟ أبداً.. بلدنا ليل نهار بتحب موّال النهار لما يعدّي في الدروب و يغنّي قدّام كل دار". كان ثالث ثلاثة، تعرفت عليهم في ميعة الصبا، أوائل السبعينيات، قُبيل، وبُعيد تفجّر الحركة الطلابية الديمقراطية، التي كانت تطالب بجمع إرادة الأمة، والرد علي العدوان الصهيوني، وطرد جنود الاحتلال الإسرائيلي، الذين كانوا يدنسون التراب المقدس، علي مبعدة مائة كيلومتراً، لاتزيد، عن قلب القاهرة. أول عناصر هذا "المثلث الذهبي": "أمير القصة القصيرة"، وشاعرها البليغ، "يحيي الطاهر عبد الله"، (المولود بالكرنك، عام 1938)، وثانيهما شاعر التمرد والإباء، "أمل دنقل"، (المولود بقرية "القلعة" قنا، عام 1940)، أما ثالثهما فهو "الخال" "عبد الرحمن الأبنودي"، (المولود في قرية "أبنود" قنا، 11 أبريل 1938)، الذي مزق نياط قلب الوطن رحيله، يوم الثلاثاء 21 أبريل الماضي، في لحظة هي الأدق في تاريخ مصر الحديث، بعد عمر حافل بالعطاء والإبداع والبناء، حتي ليصح أن يُطلق عليه، وبحق، أنه أحد معماري الوجدان المصري المعاصر الكبار، وواحد من أهم صُنّاع الضمير الوطني النقي، لأجيال من المصريين، تربت، وستتربي علي غنائه العذب لمصر وأحلامها، واغتنت، وستغتني بما قدمه من ابتهالات خالصة في حضرة الأرض المقدسة، والشعب البسيط الرضي الطيب. وجعي الخاص أنني منذ عشرة أيام وحسب، كنت محظوظاً أن شاركت العشرات من المحبين، يتقدمهم الكاتب والشاعر والمثقف الجميل "شعبان يوسف"، والشاعر المبدع، "محمود الشاذلي"، في الاحتفال بعيد الميلاد الأخير لخالنا العظيم"عبد الرحمن الأبنودي"، في حضرة السيدة المحترمة، زوجته الإعلامية لمذيعة المصرية "نهال كمال"، وابنتاهما: "آية" و"نور"، وحشد من المريدين، والمحبين، والإعلاميين. وقد كان الأبنودي في ذاك اليوم القريب، غاية في العذوبة، والكرم، والجمال، والاسترسال، حيث راح يستدعي من مخزون ذاكرة فولاذية، واعية، لا ينضب لها معين، حكايات لاتنتهي عن "أبنود"، وعن أمه الغالية "فاطنه قنديل"، وعن والده، الشيخ "محمود أحمد عبد الوهاب حسن عطية حسن أحمد عبد الفتاح عمران"!، مأذون القرية المثقف وقارض الشعر، والمثقف، والفقير، وعن كُتّاب القرية الذي كان محل أول احتكاك له بالقراءة والعلم البسيط، وعن رحلة شقائه واغتنائه الوجداني والفكري، وعن رفيقي دربه: "يحيي وأمل"، وعن تجربة السجن عام 1966، وما خلفته من دروس، تلك التجربة التي وصفها بأنها: "عظيمة الشأن، لأن العالم كله يتلخص في عنبر أو زنزانة، ... (وهي) قاسية جداً، لأن الزمن فيها لايتحرك"، (عدد مجلة "الهلال" الخاص: "الخال عبد الرحمن"، يوليو 2008) ". لكن الأهم في تجربة السجن، ألا تُحطم روحك، أو تهز يقينك في الحياة. وأنها تعرفك أكثر وأكثر علي ضرورة الحرية. وكما أثرت تجربة السجن في وعيي ولاوعي"الأبنودي"، فقد كان لتجربتي الحب والحرب بصمتها العميقة في مسري الفكر والوجدان منه: فأما تجربة الحب، فهي حياته ذاتها، وسبب تألقه، وهو القائل عندما سئل عنه: " يانهارلا اسود... أنا أكتر واحد حب الدنيا!"، ويشهد علي ذلك أن أجيالاً وراء أجيال، هزت وجدانها كلمات "الأبنودي" العاشقة، المحبة الشفيفة، الرقيقة العفيفة، لكن، وهنا الأهم، أنه قدم لنا نوعاً جديداً من الحب البسيط الصريح، أو حب البسطاء العفي، في الشمس والنور والهواء، و"تحت السجر". حب مستقيم بلا ميوعة أو هوان، حب صحّي منشر في الروح كنسمة طرية في لحظات العطش والقيظ. أما عن الحرب، فقد كان أكثر ما أبدع فيه "الخال"، في ذلكم اليوم المبارك، هو إفاضته في الحديث عما أتصوره المرحلة الأغلي والأعز في تاريخه العريض الحافل، تلك التي تلت هزيمة 1967، بوقعها الكارثي علي الشعب والسلطة، وبالنسبة لفئة حسّاسة كالمثقفين، بالذات. ولأن "عبد الرحمن" كان" شايل تاريخ مصر فعلاً، لأن أنا مش بتاع نفسي أنا بتاع الناس، وهو ده اللي مبيَّض قلبي!"، فبينما اكتأب البعض من أكثر المبدعين عطاءً وحساسية، أو اعتكف البعض الآخر يأساً وإحباطاً، وهرب الكثيرون للميتافيزيقا والغيبيات، خرج من أعماق "الأبنودي"، بجسدة الأسمر النحيل، مارد العناد المصري، والصلابة الصعيدية، وانطلق يجوب مدن القناة، وقري "الشط" التي يربض علي جهتها المقابلة الموت والاحتلال، يعايش النهر والبشر، الشجر والحجر، الدم والتراب، يستنهض الهمم، وعزيمة المواجهة، ويستقطر روح المقاومة، ويشحذ إرادة الانتصار": " يابيوت السويس يابيوت مدينتي، استشهد تحتك وعيشي إنت"، " والله ليطلع النهار ياخاله، والله ليطلع النهار ياخال"، "أحلف بسماها وبترابها، أحلف بدروبها وأبوابها، أحلف بالقمح وبالمصنع، أحلف بالمادنه وبالمدفع، بولادي، بأيامي الجايه، ماتغيب الشمس العربية، طول منا عايش فوق الدنيا". ومن وحي هذه اللحظات الخالدة الملهمة، انخرطت مصر بكليتها، في هتاف حنجرة عملاقة واحدة تقول: "لا" للقنوط، و"لا"للانكسار، ولا للتراجع، والقبول بنتائج الهزيمة، التي لم يكن الشعب طرفاً في صنعها، ف "أنا ماانهزمتش لأني ماحاربتش، ماحدش قاللي حنحارب. ماحدش نزل للشارع يسأل الناس..أنا كل مهمتي الناس. الناس ليه تنهزم؟!، إذا كانت القيادة انهزمت الناس ليه تنهزم؟!"، (مجلة "الهلال"، المصدر السابق). في هذا النص تتردد بقوة كلمة "الناس". وهذه الكلمة المفتاحية هي سر عظمة الأبنودي وشفرة بقاء اسمه وخلود شعره: وليس صدفةً أن هؤلاء "الناس" أحبوه دون رياء أو تزلف، لأنه كلمهم، بإخلاص وصدق، عن حياتهم وهمومهم، وبحروف لغتهم التي هي سر وجودهم، و"كل لفظة منها لها تاريخ"، وتفاعل معهم بلكنة حديثهم التي لم يصطنعها، وبمفردات أيامهم الفقيرة القاسية، التي لم يخجل منها، أو يتكبّرَ عليها، وهو وصف نفسه وحدد ملامح علاقته بهم: "أنا ابن الفلاح المصري الذي كان يغني تحت الشواديف، ووراء السواقي"، ولذلك أنفق سنوات طويلة من عمره لجمع وتنظيم واحدة من أهم حكايات "الناس"، "السيرة الهلالية"، وكان يوصينا دائماً بأن يكون هؤلاء "الناس" بوصلتنا، وقبلتنا: "لو مش نازلين للناس، فبلاش، مادام الدايرة ماكاملاش. لو مش نازلين للناس، فبلاش والزم بيتك، بيتك بيتك، وابلع صوتك، وافتكر اليوم دا، لأنه تاريخ موتي و موتك". ومن فيض لحظات ذوبانه في "ناس أبنود"، و"ناس السد"، و"ناس القناة"، و"ناس مصر"جميعها، قدم لنا "الأبنودي" مجموعة من قصائده الخالدة، جمعتها مجموعة من الدواوين التي لا تُنسي: "جوابات حراجي القط"، "بعد التحية والسلام"، "وجوه علي الشط"، "أحمد سماعين"، وغيرها. ولأنه مسَّ شغاف الفؤاد من هؤلاء "الناس"، وخلق جسوراً حقيقية للوصول إليهم، وهبوه عن استحقاق وجدارة لقب "الخال"، الذي يُعَرِّفُهُ، الأستاذ "جمال الغيطاني"، فيذكر أنتتتت " الخال عندنا في الصعيد مصدر رحمة. لايطمع في ميراث، ولا يُقاسم اليتامي ماورثوه عن الأب". لقد أصبح، علي حد تعبير الأستاذ "يوسف القعيد"، "خال من لا خال له، أو خال من له خال، وأصبحت الكلمة وكأنها جزء من إسمه". كانت العرب في الأزمنة الغابرة، إذا ظهر لهم شاعر في مطبوع في القبيلة، تنحر الذبائح، وتولم الولائم، وتُقيم الأفراح، لأنها كانت تعلم أنه سيكون راية من رايات فخرها، وعلم من أعلام سؤددها ومجدها. واليوم رحل شاعرٌ فحلٌ من عيون شعراء أمتنا. بل رحل "الشاعر"...فنكِّسوا الأعلام!.