أعرف أن قلمى لن يرقى إلى أقلام القامات التى كتبت عن الخال، الشهير بعبد الرحمن الأبنودى، ولكنى أريد التوقُّف عند واحدة من أكثر الزوايا التى أثَّرت فى وجدانى، وهى شجاعة الأبنودى الفائقة واستقامته الوجدانية والوطنية، وهو ما توّجه بحق «خالًا» للأغلبية الساحقة من المصريين، مع كل ما يمثّله الخال من معانٍ ومكانة فى قلوب أبناء الشعب، الذى كرَّس الأبنودى موهبته، بل كل خلجة من خلجات قلبه، له وحده.. تعرَّفت على شاعرنا الكبير فى ستينيات القرن الماضى عقب خروجه من المعتقل، وكان مع عدد من المثقفين، من بينهم زوجى الكاتب الراحل علِى الشوباشى. بعد أشهر معدودة شنَّت علينا القوى المعادية حرب 67، فأشعل الأبنودى قلوب الجماهير حماسة وهى تردّد معه: ابنك يقول لك يا بطل، هاتلى نهار، ابنك يقول لك يا بطل هات الانتصار، ابنك بيقول أنا حواليا، الميت مليون العربية، ولا فيش مكان للأمريكان بين الديار. وأيضًا: احلف بسماها وبترابها، احلف بدروبها وأبوابها، ما تغيب الشمس العربية، طول ما أنا عايش فوق الدنيا.. عبَّر الشاعر عن وجدان الشعب وضميره كما أوضحت بجلاء الملايين التى ملأت ميادين وشوارع المحروسة، تقول لأمريكا إن مصر عصية على التطويع أو دخول «حظيرة العم سام». وفى أوائل عام 73، سافرت إلى الخارج وكنت أتابع بذهول تطورات مواقف بعض «الكتاب والشعراء والمثقفين»، ومعظمهم دبج فى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فى حياته، ملاحم عشق، كما قال الشاعر العربى السورى نزار قبانى، فإذ بهم يسايرون الموضة وينضمون إلى «كورس» السب والافتراء والتشويه، الذى تفجَّر فى بدايات الحقبة الساداتية. كان الكثير من هؤلاء لقى تعليمه بفضل ثورة يوليو، واحتل المناصب وجنى المكاسب بفضلها أيضًا، ولكن الوضع كان قد تغيَّر بنسبة 100٪، فتسابقوا لحجز مقعد وثير فى ظل النظام الجديد وبشروطه.. وكان من الطبيعى فى منطق هؤلاء أن يكون الأبنودى «الخارج من زنازين عبد الناصر» من جوقتهم، لكن الشاعر الذى لم يحد أبدًا عن التعبير عن البسطاء، عمالاً وفلاحين ومهمشين، وقف بجسارة وأمانة إنسانية فى وجه الهجمة الشرسة، وتدفَّق شعر الأبنودى كالسيف المشهور فى الأكاذيب وأصحاب المكاسب الصغيرة الفانية، وقد كان هؤلاء يتوهَّمون أن يحذو شاعرنا العملاق حذوهم، خصوصًا وقد ذاق تجربة السجن فى زنازين عبد الناصر، ولم يرفل فى النعيم مثل معظمهم، لكنه فاجأهم بانحيازه إلى الملايين، التى خرجت فى الثورتَين ترفع صور الزعيم وتنادى ب«عيش، حرية، عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية». وعندما «لامَه» من تنكَّروا لكل ما حققته ثورة يوليو، ردّ، وهو الذى عارض الزعيم فى حياته، بقصيدة من أروع ما قرأت، ومنها قوله ردًّا على مَن يطالبونه بسبّ عبد الناصر «خدوا كل اللى حيلتنا من الوفات، اللى اتنهبوا واللى لسّه حيتنهبوا، وردّوا للأمة رجولتها ونخوتها وقُدرتها، ردوها من تابع مذلول، لزعيمة الاستقلال، من قُطعان سايحة.. لرجال، ردوا لها كل اللى سرقتوه من مال، ادفعوا عنها ديون الأطفال، ردوا لها شمس المستقبل، واكنسوا أطنان العتمة من درب الأجيال، أخلاق الشعب اللى انداس، واللى أصبح ناس مش ناس، ردّوا للشعب رغيفه المخطوف، صوته الأصلى وعرقه المسفوف، وبالمجانى.. رجعوا للطفل الكراس، ابنوا على شط النيل المصنع جنب المصنع.. إلخ إلخ»، حتى قال: لو غيَّرتوا الحال، أقسم قُدَّام شعبى أغنّى لكم من قلبى، وعمرى ما أغنّى تانى ل«جمال».. سلام يا خال.