منذ أن غادر الشاعر الصعيدي الشاب، عبد الرحمن محمود أحمد عبد الوهاب الأبنودي، والشهير بعبد الرحمن الأبنودي، قريته الصغيرة في أقصي الجنوب بمحافظة قنا، وجاء إلي القاهرة، وقدّمه الشاعر "الوالد" صلاح جاهين علي صفحات مجلة "صباح الخير"، وهو لم يتوقف -أعطاه الله الصحة والعافية وأطال في عمره-عن الإبداع المتعدد والفن المدهش، والعزف الفريد علي أوتار تكاد تكون تائهة في هذا العالم. جاء الشاعر الصعيدي، بلهجته الحادة، وثقافته العربية العريقة، وتأثره بالشاعر الشعبي المدجج بأثير الشعبية المروية والمحكية بطرق عديدة، والتي تركت في الشاعر الشاب ملامح واضحة وبارزة، وظلت تفصح عن نفسها كلما تقدم به الشعر، وتقدم هو به، الاثنان، عبدالرحمن والشعر، وجهان لا يفترقان، اثنان لا ينفصلان التجديد المستمر في روح الشعر ومعناه ومبناه، والبحث عن هواء جديد تتنفسه الكلمات الطارئة علي لهجة المدينة، هذه الكلمات التي راحت لتتجاوز الأسوار النخبوية، لتتمدد في المدينة كلها عبر الراديو، وبأصوات فنية كبيرة. وعبدالرحمن الأبنودي هو ثالث الشعراء الذين تجاوز تأثيرهم وحضورهم هذه المساحات الضيقة، إلي الشوارع والغيطان والبيوت والأزقة، الأول هو عمنا وجدنا بيرم التونسي، الذي عاش حياة قاسية وصعبة، وظل مطاردا معظم مراحل حياته، ودفع ثمن معارضته وتمرده نفيا وتشريدا وجوعا ومرضا عضالا، انتهي به إلي الرحيل وهو في أشدّ عطائه الفني، وحتي بعد عودته إلي أرض الوطن، ظل يعمل ويكدّ حتي يجد قوت يومه، رغم أن أعظم الفنانين صدحوا بكلماته، مثل أم كلثوم وغيرها، وأهم الملحنين لحنّوا أغانيه مثل زكريا أحمد ورياض السنباطي، ولكنه ظل أسيرا للفقر وللمرض، ولكن كلماته استطاعت أن تنساب بيسر وسهولة وجمال في كل بيوت مصر والعالم العربي. أما الشاعر الثاني فهو العظيم صلاح جاهين، الذي استكمل مسيرة بيرم وبديع خيري، ولكنه جرّب عددا من الفنون، بداية من كتابة القصة القصيرة، والشعر الفصيح، ثم الشعر الشعبي، وبعدها انطلق لفنون السيناريو والأوبريت والصحافة والكاريكاتير والتمثيل والغناء، وكتب هو نفسه عن نفسه "بورتريها" رائعا وجميلا، ليتأمل حالته المتعددة الوجوه، والتي تجمع بين كل هذه الفنون، وأجري حوارا ممتعا بين كل هذه الوجوه للشخصية الواحدة، ولذلك قفز برشاقة الفنان المتعدد من خانات النخبة الخانقة، إلي هواء الشعب والجماهير الواسعة، ولم يتنازل عن ارتقاء فنه، وأصبحت كلماته علي طرف كل لسان، وفي قلب الناس جميعا. وإذا كان بيرم اسكندرانيا ومن حيّ عريق وشعبي هو حيّ السيّالة، وصلاح جاهين قاهري محض وتربي في بيت يحيطه تاريخ سياسي وثقافي من كل جانب، فجدّه الصحفي الثائر أحمد حلمي، ووالده المستشار القانوني الكبير، وكان الضلع الثالث هو الشاعر الشاب عبد الرحمن الأبنودي، الذي جاء من أقصي الصعيد، ومن أسرة دينية عريقة، ووالده كان مأذونا شرعيا، وإماما لمسجد القرية، وكان يعقد القران علي العرسان بطريقة واحدة طوال حياته، ويحسم الطلاق بين زوجين خصيمين بالكلمات نفسها، وكان -كما يحكي الأبنودي في أيامه الحلوة-يقرأ الكلمات بأداء يكاد يكون واحدا، والإيقاع لا يتغير أبدا، ولا يداهمه اللحن أو التحريف، ولا طارئ الكلمات، ويصف الأبنودي والده قائلا :"كان والدي الشيخ منضبطا كالسطر المعتدل، منفلتا من المتكرر، يحاول أن يجعل من يومه صورة مطابقة لأمسه، وأي اختلاف بينهما يدخل من وجهة نظره في دائرة الشذوذ كفانا الله شرها". ولا يملّ عبد الرحمن من سرد حياته الواقعية الطويلة، وذلك عبر كتاباته الفريدة، ذات النثر العربي البديع، رغم أنه الإبن الوفي للشعر الشعبي والعامي، والمنفلت من أسر الفصحي، يسرد الأبنودي وقائع حياته شعرا ونثرا وحواديت إذاعية وتليفزيونية، ويستطيع أن يدخل فورا إلي قلب المتلقي القارئ والسامع والمشاهد أو الجالس في حضرته، والمسافات تكاد تكون معدومة بين كل هذه المواضع، فالقصيدة رغم فنيّتها العالية، وحيلها البنائية العديدة، إلا أنها قادرة علي إيهام القارئ بأنها حديث من القلب، ولا تنطوي علي أي معاضلات عويصة، مثل هذه القصائد التي لا بد أنها تستنزف جهدا مضنيا حتي يستطيع القارئ أو السامع لها أن يتابعها بدقة. قصيدة الأبنودي وحكاياته ونثره في كتبه العديدة "الأخطاء المقصودة، ثم الأحزان العادية، ثم أيامي الحلوة"، لا يكاد المرء يبدأ معه فيها، فلا يمل أو يكل من هذا التتبع المفعم بالتشويق، الذي يشبه متابعة فيلم ممتع وآسر. يقول في "أنا والناس" (قابلت ناس كتير وعاشرت ناس كتير قابلت ناس حبوني ..حبيتهم.. وقابلت ناس.. زعلت مع ناس تلاتين سنة واكتر ماشي وعيني ما بطلت بص ف عيون الناس بسطتني حاجات كتير وغنّيت بحاجات كتير وأذتني حاجات كتير. كنت أبقي فرحان ساعات وأبقي زعلان ساعات كله بسبب الناس) الناس هم السلاح الذي خدم فيه الأبنودي، الناس عند الأبنودي هم عالمه الأول والأسير والآسر، ومن أجلهم قرر أن يكون مثل أسلافه العظام بيرم وجاهين، وقرر أن يغني لهم، ويكتب لهم، وينشد لهم، وبذلك لا بد أن يصل بكلماته لهم. "سيرة" حصل عبدالرحمن علي شهادته المتوسطة في مقتبل حياته، قبل أن يستأنفها فيما بعد ليحصل علي ليسانس الآداب، قسم اللغة العربية، والتحق موظفا وكاتبا بمحكمة قنا العمومية، وكان قد نهل من مكتبة والده عيون التراث الديني والأدبي، وكان معه في البلدة نفسها الشاعر الشاب محمد أمل دنقل، كذلك القاص المشاكس والغريب الأطوار يحيي الطاهر عبدالله، وتمرد الثلاثة علي حياة الصعيد القاسية والرتيبة، والتي من الطبيعي أنها ستدفن مواهبهم العظيمة، وتشاء الأقدار أن يلعب المبدعون الثلاثة أهم الأدوار في تطوير فنون القصة والشعر، والشعر العامي، ويصبح للمبدعين الثلاثة مكانات وقامات شامخة، رغم الظروف المختلفة في تصريف الحياة فيما بعد. عبد الرحمن الأبنودي، أصرّ -كما يكتب الراحل سيد خميس- أن يخرج إلي الشارع، ولا بد للكلمة الثورية أن تخرج من هذا النطاق الضيق والخانق، والقاتل للفن والكلمات، فالفن لا يعرف المساحات الضيقة، ولا يعرف الغرف المغلقة، لذلك خرجت كلمات عبد الرحمن الأبنودي من عتمة الخنادق الثقافية، ومن مقاعد المقاهي القليلة التي كان يجلس عليها الكتّاب والمثقفون آنذاك مثل مقاهي ريش وأسترا وايزافيتش، إلي الراديو مباشرة حيث الآلاف بل الملايين من الناس الذين يعمل الأبنودي لهم ومن أجلهم، ويعبّر عن أشواقهم، فغنّي له محمد رشدي "تحت الشجر ياوهيبة ..ياما كلنا برتقان..كحلة عينك ياوهيبة جارحة قلوب الجدعان"..كلمات بسيطة، ولكنها جاءت كاكتشاف فني كبير، أين كانت هذه الكلمات، كيف يكون البرتقال والكحل والأكل، مجالا للأغاني، بعدها صار الأبنودي نجما مباشرة، يغني له عبد الحليم حافظ وشادية وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة . ورغم أن الأبنودي اخترق مجال الغناء، إلا أنه ظل في ساحة الشعر مجددا وجاذبا، وقبل أن يصدر ديوانه الأول "الأرض والعيال"في منتصف عام 1964 ،لفت إليه النقاد بقوة، فكتب عنه كتاب ونقاد كثيرون، ومنهم الكاتب فاروق منيب، كتب مقالا في جريدة المساء تحت عنوان "شاعر شعبي من الصعيد"، جاء في مستهله :"شاب أسمر، حاد النظرات، ثابت الخطوات، لم أستطع أن أحدد الأسباب التي جذبتني إليه بسهولة،هو من الصعيد، له لهجته وعاداته وتقاليده، وأنا من بحري لي عاداتي وتقاليدي ..هو يعيش هناك بين الحقول وفي أحضان الشجر والطير والنبات ..وأنا أعيش في القاهرة بين الشوارع الضيقة ودور السينما وزحمة الأحداث....شئ واحد شدني إليه شدا عميقا ..إنه الطين الذي نشأنا علي أرضه ورضعنا من مائه، إنه طين بلادنا الحبيبة.."، ويسترسل فاروق منيب في قراءة نقدية لقصائد الشاعر الشاب، والتي كانت منشورة آنذاك في الصحف والمجلات السيارة، قبل أن يضمها ديوان، وبالطبع جاءت في دراسة منيب استشهادات من قصائد لم تنضم إلي أي ديوان من دواوين الأبنودي التي نشرت فيما بعد، بداية من ديوان "الأرض والعيال"، الذي كتب له الناقد سيد خميس دراسة نقدية في غاية الأهمية. ويكتب خميس عن أيام التعارف الأولي بينه وبين الأبنودي في مقال كتبه منذ أكثر من عشر سنوات فيقول:عرفت عبدالرحمن الأبنودي -لأول مرة-في بدايات الستينيات، في ندوة الثلاثاء، في رابطة الأدب الحديث، التي كانت في تلك الفترة بمثابة ورشة إبداعية وثقافية لكثيرين من جيل الستينيات، كان عبد الرحمن يؤدي الخدمة العسكرية، ويرتدي ملابس الجيش ويلقي بعض قصائده المبكرة التي تشي بشعر جديد، ربما لم يكتمل بعد، ولكنه يطرق الآذان لأول مرة : "القبر المحشور بالأموات -والليل أتاني لما فات -ووقف بيبص ف خرم الباب أربع مرات ..الكلب بيعوي فوق الحيط.. وترد عليه من شرق السكة كلاب يتجن ..ويهد السقف ..يمطر فوق العيلة حطب القطن".. ..بعد الندوة تصعلكنا في وسط القاهرة طويلا، صرنا أصدقاء، أدركت أن هذا الفتي الجنوبي يملك إلي جانب موهبته الشعرية المميزة، موهبة انسانية لا تتبينها بسهولة، ولا تدركها إلا بعد الوقوع في أسرها، إنها موهبة الاستيلاء علي عواطف من يختارهم لصداقته، مرة واحدة وإلي الأبد!). هكذا كان الأبنودي في بداياته، شاعرا موهوبا، يقطع شوارع القاهرة ومقاهيها ومراكزها الثقافية، يقرأ قصائده الحديثة علي الأصدقاء، ويكتب الأغاني اللافتة والجديدة، والتي يغنيها له مطربون كبار، وفي الوقت نفسه كان ينتمي إلي فريق اليسار الذي يكره الاستبداد والطغيان، ويغني للحرية والحياة والجمال، ويقرأ لوركا وكارل ماركس، وينادي :"ياعمال العالم اتحدوا". ويبدو أن هذه المعادلة المركبة، كان وقعها ثقيلا علي أمن البلاد، إذ أن عبد الرحمن الأبنودي الشاعر والمثقف الأشهر بين جيله، والذي جاء من الصعيد مغتربا، ولكنه أحدث حضورا أكثر من كل كتّاب المدينة القاهريين، ومن الذين جاءوا من قري قريبة من القاهرة، رغم لهجته الغريبة عن أبناء المدينة، وكان كل هذا مثيرا ولافتا ومقلقا للسلطات، فالشاعر الذي كتب في أول ديوان له يقول في مطلعه : "الليل جدار.. إذا يدن الديك من عليه يطلع نهار.. وتنفلت من قبضة الشرق الحمامة أم الجناح أم الجناح أبيض في لون قلب الصغار.. آه ياحبيبتي يام خصلة مهفهفه.. قلبي اللي مرعوش بالأمان.. لسه بيحلم بالدفا.. والشمس كلمة طيبة وفيها الشفا.. قلبي اللي كان قرّب يموت .. لسة بيحلم بالبيوت.. زي الخرز..). هذا الديوان الذي غني فيه للشمس وللقمر وللحرية وللنسيم، وللشاعر الإسباني المغتال لوركا، غني عن الأولاد الحالمين بوطن أخضر حر، مع انتشار أغنيات الأبنودي انتشارا واسعا، مع صداقاته بكل أطياف اليسار مثل صلاح عيسي وابراهيم فتحي وصبري حافظ وجمال الغيطاني وغالب هلسا، الذي كان رأس حربة ثقافية، رغم أنه لم يكن مصريا، ولكنه كان يلعب دورا تثفيفيا وتسيسيا لرفاقه الشباب، وفي منتصف العام 1966، كتب غالب سلسلة مقالات عن الديمقراطية وغيابها في عالمنا العربي، ونشرت هذه المقالات في مجلة "الحرية" اللبنانية، وفي أعقابها بدأت المباحث تعدّ ملفا كبيرا لغالب ورفاقه، وفي أكتوبر من العام نفسه، قبضت السلطات علي هؤلاء الشباب، بمن فيهم الابنودي، وكان القبض علي الأبنودي غريبا ومدهشا، رغم أن أغانيه كانت تملأ الدنيا كلها، كان الأبنودي -حسب مارواه سيد خميس - أشهر من في الحبسة، وكان الحرّاس في السجن يعاملونه أحيانا معاملة خاصة، إلا الضابط الشاب، الذي انتابته سعادة غامرة، عندما تم إيداع الأبنودي في الحبس الانفرادي، لماذا كانت سعادة الضابط الشاب؟ كانت سعادته منطلقة من غيرته من الشاعر الذي لا تكف خطيبته عن سيل الحكايات عن أغانيه التي يغنيها عبد الحليم حافظ، وكان الأبنودي يتعامل مع الجميع مسجونين وسجّانين بالمستوي الانساني نفسه، وظل هؤلاء الشباب قيد الحبس، تحت سلسلة من الإجراءات غير القضائية التي نالت من أجسادهم، ولكنها لم تنل من عزائمهم، وبعد ضغوط مختلفة علي السلطات وإحراجها، أخرجتهم في مارس عام 1967، ليصدر الأبنودي ديوانه الثاني "الزحمة "في نوفمبر 1967، برسومات الفنان الراحل الكبير محيي اللباد، ويكتب تنويها في نهاية الديوان يقول فيه : "لإنه مافيش ناشر رضي يتولاني برحمته.. طبعت الديوان علي حسابي.. ودي إمكانياتي.." وبعد خروج الشباب من المعتقل، ذهب الأبنودي ليقضي وقتا للراحة مع أسرته في بلدته مع والده ووالدته وأهله وناسه ولكن بعد قليل وقعت كارثة 1967، وكانت بوادر المعركة بين مصر واسرائيل واضحة تماما، فمنذ 14 مايو 1967، وتأزم الحالة السياسية، واشتداد التحضير العسكري، وإطلاق التصريحات العريضة في القتال، وتهديد اسرائيل لسوريا، ودخول الجيش المصري لسيناء، ثم إعلان سحب قوات الطوارئ الدولية، وبعدها إغلاق خليج العقبة أمام السفن والملاحة الاسرائيلية قاطبة، بعدها توالت الانباء الكثيرة للتعبئة العامة للقوات المسلحة.. إذن الحالة كانت جيم كما يقولون، والشعب كله متوتر، ومن الواضح طبعا أن اسرائيل كانت تجر مصر إلي هذا الفخ الحربي، وبالفعل انجرّت مصر حتي وقعت الواقعة، وكان أحمد سعيد يهتف في الإذاعة بالانتصار، وبعدها أعلن جمال عبد الناصر التنحي، وتخرج الجماهير في مظاهرات حاشدة، مطالبة بهدفين، الأول هو عودة جمال عبد الناصر إلي السلطة فورا لتحمله مسئولية ماحدث، أما الهدف الثاني كان العودة مرة أخري إلي ساحات القتال مع اسرائيل، لمحو آثار العار الذي لحق بالبلاد . وعلي هذا الإيقاع بدأت السلطة تنشد أملا جديدا في تجاوز ماحدث، والتحضير بالفعل وقدما نحو ترتيبات أخري لإحراز نصر علي اسرائيل، وبناء عليه تم استدعاء كافة الطاقات القتالية والشعبية، وبالتالي الفنية والثقافية . وفي ذلك الوقت اتصل المؤرخ الفني بعبد الرحمن الأبنودي في البلد، وذلك عبر الكابينة العمومية هناك، وعلي إثرها جاء الأبنودي إلي القاهرة ملبيا نداء الوطن، وكتب أكثر الأغاني حماسة :"اضرب ..لجل الولاد اضرب..لجل الربيع اضرب.. لجل الجميع اضرب"، وكان يخاطب الجيش والشعب والرئيس في وقت واحد، ويخاطب الضمير المعذب، والذي آلمته هزيمة لم تكن في الحسبان علي هذا النحو. ثم كتب يخاطب الرئيس مباشرة :ولا يهمك ياريس م الأمريكان ياريس .."، ثم كانت أغنية "بالدم حناخد تارنا ..بالدم نعود لديارنا .."، وجاءت الأغنية العظيمة التي مازال كل مصري ينشدها في كل الأزمات :"أحلف بسماها وبترابها ..أحلف بدروبها وأبوابها ..ماتغيب الشمس العربية طول مانا عايش فوق الدنيا .."، وكان عبد الحليم متماهيا في الأغنية، ومتفوقا علي نفسه وعلي تاريخه الفني كله، فشدا وصدح وصال وجال، للدرجة التي كانت الأغنية في كل بيت، وعلي كل لسان، ثم جاءت أغنية "إنذار يااستعمار ..بترول مافيش ..قنال مافيش .."ثم "يابركان الغضب ..ياموحد العرب "..ثم "ابنك يقولك يابطل هات لي انتصار".. وهكذا استطاع الأبنودي أن يشعل الناس والجماهير المحبطة حماسا، ولعبت أغنيات عبد الرحمن الأبنودي دورا يشبه دور البطولة المطلقة في مدّ الوجدان المصري الذي كاد أن ينهار، بقبلة حياة مرة أخري، وكانت هذه الأغنيات تذاع بكثرة علي خطوط الجبهة المصرية، مما زاد أبطالنا البواسل في حرب الاستنزاف حماسا وإنجازا، حتي حرب 1973 التي انتصر فيها المصريون الفقراء والغلابة، من أبناء الفلاحين والعمال والموظفين المصريين علي الأسطورة الغبية المسلحة بكل أدوات الشر. وفي ظل كل هذه الكتابات الفنية والشعرية والنثرية، لا ينسي الأبنودي الحرب الاجتماعية الضروس، الدائرة بين طبقات ناهبة لعرق الفقراء، وهؤلاء الفقراء الذين تستنزف دماؤهم يوميا، ويتحول عرقهم إلي حسابات بنكية دائما، الأبنودي أنشد للفلاح وللعمال وللسد العالي وللحب وللجمال، وكتب ضد الاستبداد والطغيان والديكتاتورية..ولانملك إزاء كل هذا سوي أن نقول له في عيد ميلاده الذي يوافق 11 أبريل ..كل سنة وانت طيب ياخال.