طلاب «الإعدادية» في البحيرة يؤدون مادة الهندسة.. شكاوي من صعوبة الامتحان    نائب رئيس جامعة حلوان الأهلية يتفقد الامتحانات.. ويؤكد: الأولوية لراحة الطلاب وسلامتهم    جامعة كفر الشيخ الثالث محليًا فى تصنيف التايمز للجامعات الناشئة    وزيرة الهجرة تترأس أول اجتماعات اللجنة العليا للهجرة    تراجع السكر وارتفاع الزيت.. سعر السلع الأساسية بالأسواق اليوم السبت 18 مايو 2024    بطاقة إنتاجية 6 ملايين وحدة.. رئيس الوزراء يتفقد مجمع مصانع «سامسونج» ببني سويف (تفاصيل)    وزير النقل يتفقد «محطة مصر»: لا وجود لمتقاعس.. وإثابة المجتهدين    «أكسيوس»: محادثات أمريكية إيرانية «غير مباشرة» لتجنب التصعيد في المنطقة    مطالب حقوقية بمساءلة إسرائيل على جرائمها ضد الرياضيين الفلسطينيين    ب5.5 مليار دولار.. وثيقة تكشف تكلفة إعادة الحكم العسكري الإسرائيلي لقطاع غزة (تفاصيل)    استياء في الأهلي قبل مواجهة الترجي لهذا السبب (خاص)    إحالة الطالب المتورط في تصوير ورقة امتحان اللغة العربية والملاحظين بالشرقية للتحقيق    غرة ذي الحجة تحدد موعد عيد الأضحى 2024    القبض على 9 متهمين في حملات مكافحة جرائم السرقات بالقاهرة    ضباط وطلاب أكاديمية الشرطة يزورون مستشفى «أهل مصر»    بحضور قنصلي تركيا وإيطاليا.. افتتاح معرض «الإسكندرية بين بونابرت وكليبر» بالمتحف القومي (صور)    صورة عادل إمام على الجنيه احتفالًا بعيد ميلاده ال84: «كل سنة وزعيم الفن واحد بس»    جوري بكر تتصدر «جوجل» بعد طلاقها: «استحملت اللي مفيش جبل يستحمله».. ما السبب؟    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    معهد القلب: تقديم الخدمة الطبية ل 232 ألف و341 مواطنا خلال عام 2024    صحة مطروح: قافلة طبية مجانية بمنطقة النجيلة البحرية    قمة كلام كالعادة!    وزارة الدفاع الروسية: الجيش الروسي يواصل تقدمه ويسيطر على قرية ستاريتسا في خاركيف شمال شرقي أوكرانيا    صحة غزة: استشهاد 35386 فلسطينيا منذ 7 أكتوبر الماضي    ما أحدث القدرات العسكرية التي كشف عنها حزب الله خلال تبادل القصف مع إسرائيل؟    وزير التعليم لأولياء أمور ذوي الهمم: أخرجوهم للمجتمع وافتخروا بهم    اليوم.. 3 مصريين ينافسون على لقب بطولة «CIB» العالم للإسكواش بمتحف الحضارة    وزيرة التعاون: العمل المناخي أصبح عاملًا مشتركًا بين كافة المؤسسات الدولية*    محافظ المنيا: استقبال القمح مستمر.. وتوريد 238 ألف طن ل"التموين"    بعد حادث الواحات.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي    موعد مباراة بوروسيا دورتموند أمام دارمشتات في الدوري الألماني والقنوات الناقلة    موناكو ينافس عملاق تركيا لضم عبدالمنعم من الأهلي    أبرزهم رامي جمال وعمرو عبدالعزيز..نجوم الفن يدعمون الفنان جلال الزكي بعد أزمته الأخيرة    استكمال رصف محور كليوباترا الرابط بين برج العرب الجديدة والساحل الشمالي    جهود قطاع أمن المنافذ بوزارة الداخلية خلال 24 ساعة فى مواجهة جرائم التهريب ومخالفات الإجراءات الجمركية    تشكيل الشباب أمام التعاون في دوري روشن السعودي    طريقة عمل الكيكة السحرية، ألذ وأوفر تحلية    وُصف بالأسطورة.. كيف تفاعل لاعبو أرسنال مع إعلان رحيل النني؟    محمد صلاح: "تواصلي مع كلوب سيبقى مدى الحياة.. وسأطلب رأيه في هذه الحالة"    متاحف مصر تستعد لاستقبال الزائرين في اليوم العالمي لها.. إقبال كثيف من الجمهور    فيلم شقو يحقق إيرادات 614 ألف جنيه في دور العرض أمس    «السياحة» توضح تفاصيل اكتشاف نهر الأهرامات بالجيزة (فيديو).. عمقه 25 مترا    وزير الري يلتقي سفير دولة بيرو لبحث تعزيز التعاون بين البلدين في مجال المياه    25 صورة ترصد.. النيابة العامة تُجري تفتيشًا لمركز إصلاح وتأهيل 15 مايو    مسئولو التطوير المؤسسي ب"المجتمعات العمرانية" يزورون مدينة العلمين الجديدة (صور)    "الإسكان": غدا.. بدء تسليم أراضي بيت الوطن بالعبور    "الصحة" تعلق على متحور كورونا الجديد "FLiRT"- هل يستعدعي القلق؟    خبيرة فلك تبشر الأبراج الترابية والهوائية لهذا السبب    بدء تلقي طلبات راغبي الالتحاق بمعهد معاوني الأمن.. اعرف الشروط    "الصحة": معهد القلب قدم الخدمة الطبية ل 232 ألفا و341 مواطنا خلال 4 أشهر    ما حكم الرقية بالقرآن الكريم؟.. دار الإفتاء تحسم الجدل: ينبغي الحذر من الدجالين    تراجع أسعار الدواجن اليوم السبت في الأسواق (موقع رسمي)    «طائرة درون تراقبنا».. بيبو يشكو سوء التنظيم في ملعب رادس قبل مواجهة الترجي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 18-5-2024    حادث عصام صاصا.. اعرف جواز دفع الدية في حالات القتل الخطأ من الناحية الشرعية    عاجل.. حدث ليلا.. اقتراب استقالة حكومة الحرب الإسرائيلية وظاهرة تشل أمريكا وتوترات بين الدول    الأرصاد: طقس الغد شديد الحرارة نهارا معتدل ليلا على أغلب الأنحاء    قبل عيد الأضحى 2024.. تعرف على الشروط التي تصح بها الأضحية ووقتها الشرعي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي: عبدالناصر سار في اتجاه معاكس وداس علي كل شيء ليخلد نفسه


قبل أن تقرأ..
لم تجد «روزاليوسف» من هدية تناسب ولاء قرائها لهذه المطبوعة، سوي نشر سلسلة من اللقاءات والحوارات النادرة التي لم تنشر من قبل مع كبار المفكرين والكتاب والأدباء والفنانين، أجراها الكاتب والإعلامي الكويتي الكبير الدكتور نجم عبدالكريم في فترات مختلفة علي مدي أربعة عقود.
التقيته أكثر من مرة وفي أكثر من بلد مرة أصطحبه لعدة أيام في الإمارات ومرة ألقاه في بيته بالقاهرة ومنذ سنتين زرته في مستشفي في باريس ونحن في تواصل دائم منذ ثلاثة عقود.. الصديق عبدالرحمن الأبنودي.. استطعت من خلال حواراتي معه هنا وهناك أن أقدمه لقراء «روزاليوسف» في هذا الحوار.. ونحن أمام عبدالرحمن الأبنودي لابد لحوارنا معه أن يتجه نحو طريقين الأول أبنود في الصعيد والثاني لندن.. ففي أي من هذين الطريقين نبدأ مسيرة الحوار
- هو يعني يا أبنود يا لندن..؟
أين القاهرة وأين هذا العالم الواسع الذي سافرت إليه؟
لأن في أبنود نبدأ مع الشاعر وفي لندن نبدأ مع الباحث؟
- ما الباحث والشاعر؟! كلاهما يخرج من عباءة المفكر أو الأديب.
إذا سنبدأ بلندن التي أقمت فيها لسنوات.. هل لنا أن نعرف السبب؟
- أولاً: صارت لندن بالنسبة لي أبسط من قريتي أبنود لأنني ذهبت فيها إلي أماكن لم يعتد العرب زيارتها.. والحقيقة أن فترة اغترابي بإنجلترا كانت مشتركة بينها وبين تونس حيث كنت أعد دراستي عن السيرة الهلالية.. وكان في تونس الأستاذ طاهر كيكة رحمه الله ومن خلال موقعه كوكيل لوزارة الثقافة التونسية وشاء القدر أن يكون والده ممن عملوا وخاضوا في السيرة الهلالية فتحمس للتعاون معي وسهل لي الكثير من الأشياء في معرفة تضاريس تونس وجغرافيتها وقراها الصغيرة وأطرافها البعيدة فكنت أقضي فيها أشهراً في الصيف لجمع المعلومات ثم أذهب إلي إنجلترا وكان لي هناك صديق يرعاني ويحدب علي هو الكاتب الكبير الطيب صالح وكنت موزعاً بين محبين وكلاهما يغير من الآخر كيكة يغير من الطيب ولندن والطيب يغير من كيكة وتونس وكنت أقضي بين هذين المكانين معظم أشهر السنة منغمساً من رأسي حتي أخمص قدمي بل غائصاً حتي شوشتي بالسيرة الهلالية التي أنجزت منها سبعة أجزاء ومازلت مستمراً فهي لا تنتهي وأستطيع أن أقول بكل فخر: إن دراستي لهذه السيرة تعد الأكثر اقتراباً من أحداثها الحقيقية بعد أن اختلطت فيها الكثير من المبالغات والخرافات التي خضعت مع مرور الزمن للخيال الشعبي.
ما بين لندن وتونس ألم يكن لباريس نصيب في هذه الرحلات؟
- بالطبع.. فلا غني لباحث مثلي عن الثقافة الفرنسية وعن مثقفي شمال إفريقيا الذين تأثروا بزخم الفكر والثقافة الفرنسية فأصبح البعض منهم من عمالقة الأدب الفرنسي بينما هم من أصول عربية.
ألم تتأثر بتلك الثقافات وأنت هناك؟
- نعم.. وكتبت ديوانا هو «صمت الجرس» له نكهة مختلفة عن دواويني السابقة ربما لأنه لامس الحداثة أو ما يسمي بمدرسة الحداثة.
هل نضرب مثلاً ببعض أبيات من هذا الديوان؟
- أشكو إليك يا فارسي المجيد
يا من علي جبلك بعيد مرتفع أو مستريح في ظل مهرك العنيد
يا مسلة الفرعون
تراب البيد
يا من علي أعلي ما في الدنيا بتتسمع ميلاد البحر
وشمعة النور الوليد
هل لقي هذا الديوان إقبالاً من القراء؟
- طبع أربع مرات والأربع طبعات نفدت.
هل كان يحتوي علي إسقاطات سياسية؟
- عندما نشر هذا الديوان تحايلت علي الرقابة الخارجية وعلي الرخصة من الأزهر مستغلاً سقف الحرية الشكلية لطباعة الكتب ربما كان من الممكن أن تكون علي بعض قصائده اعتراضات فيما لو نشرت في الصحف أو أذيعت في الراديو أو التليفزيون لكن نشره ككتاب لم يعرضه للقمع.
هل تعرضت بعض دواوينك الأخري للقمع؟
- طبعاً.. أنا حياتي كلها سلسلة من المعاناة في هذا والشاعر أو المبدع أو الكاتب بشكل عام الذي لا يعاني الاصطدام بهذه القوي القمعية أو جهات سلطانية متعسفة تمنعه يخيل إلي أن إبداعه يكون أشبه بماء البئر كلما تشرب منه تشعر بالعطش أو مثل ريم البحر يعني لا تصدقه بعينيك وتأتي تمسك به بيديك لا تجده!.
هل هناك قمعيون اعترضوا طريقك؟
- لو لم يكن هؤلاء موجودين لما ظهرنا نحن وقد عانيت منهم منذ الديوان الأول «الأرض والعيال» وظللت أكدح لأشهر وأشهر كي أخرجه من براثن الجهات الرقابية وقد فكرنا أنا وصلاح جاهين أن ننشئ داراً للنشر باسم «دار ابن عروس» علي اسم الشاعر الشعبي «أحمد بن عروس» وخططنا بأن تهتم هذه الدار بإصدار الدواوين التي تكتب بالعامية وبعد أن أصدرنا ثلاثة دواوين هي «الأرض والعيال» و«صياد وجنية» للسيد حجان فما كان منا إلا أن أقفلنا هذه الدار لأننا اكتشفنا أنا وصلاح جاهين أن الجري وراء الإجراءات الرقابية والقمعية والإجراءات البيروقراطية لاستخراج نسخة لطباعة ديوان تجعلنا نمضي الأشهر وراء الأشهر وتكون النتيجة الإحباط تلو الإحباط.. ففشل المشروع.
هل ما يتعرض له الشاعر عبدالرحمن الأبنودي من قمع يكون له تأثير علي ولادة قصيدته.. بمعني أنك تضع في اعتبارك تلك المواجهات التي أدت إلي تلك الإحباطات مما يدفع بالقصيدة أن تتراجع ولو قليلاً أي تحني هامتها كي تجتاز العواصف؟
- إن أجمل ما في هذه الدنيا هو أن الإنسان يشعر أنه يصارع قوي حقيقية مرئية بالعين ملموسة باليد فيستعد لها بينما هناك قوي غير مرئية يخطط لها البعض ولا يواجه العدو الواضح الذي يكيل له الضربات وأنا كل ما عانيت من تلك الضربات كلما ارتفع صوتي معلناً موقفي وكل مواقفي الحقيقية ما تفجرت إلا في وجه عدو حقيقي يقف قبالتي من هنا فإن القصيدة لا تخرج متخاذلة أو تحني رأسها للعاصفة إنما تخرج لهدف محدد تسعي إلي تحقيقه ولذلك أنا لا أؤمن بالشاعر الذي لا يقول كلمة مسئولة كلمة هي أقرب ما تكون إلي الطلقة بل هي الرصاصة التي تتفجر في وجه الفساد فنحن جيل الستينيات تربينا علي هذا الواقع.
ماذا تقول في الأجيال التالية عليكم؟
- تجد الكثير منهم الآن كتاب رواية كتاب مسرح كتاب سينما فنانين تشكيليين ما يطرحونه من قضايا صارت تمنع من أن تعانق فيها مشاكل الناس البعض منهم رضخ ونسي أن الإبداع الملتزم هو جزء من التنفس لاستمرار الحياة.. يعني يتوحد المبدع خارج الورق وما بعد الورق.
ألاحظ أن عبدالرحمن الأبنودي مازال يصارع خارج الورق وما بعد الورق؟
- في الواقع أنا لم أعد أكتب يعني قضية التعنيف والمسك بالخناق قد جعلتني في حالة من التحدي الدائم لأن العدو في حالة مصالحة مع الحكومات، والحكومات نفسها في حالة مهادنة الدنيا كلها كالبركة الراكدة والحياة ليس لها طعم كبير وبالتالي تأثر إبداع نوعية المبدعين لا شك أن حالة فقدان الجدوي والطعم والمعني من الكتابة في الوقت الحاضر في مرحلة أقرب ما تكون إلي القرار المؤجل.. نمر في فترة تأمل فكما قال الشاعر ينطبق علي هذه الفترة: الشعر شارد في الجبل مني
عملت أنا هجان ورحت وراه
فتشبيه الشعر الهارب بالجبال والشاعر يجري وراه.. أنا أظن أننا في ظل الأوضاع العربية الحالية نعيش في مثل هذه الحالة.
كيف انتقل عبدالرحمن الأبنودي المواطن المصري ابن أعماق الصعيد من تصوير معاناته كمصري إلي الجريان خلف القصيدة الهاربة منه والتي يتناول فيها هموم الوطن العربي بأكمله؟
- الإجابة تجدها في ديوان صدر لي هو «الاستعمار العربي» أناقش فيه قصة العامل المصري وهجرته إلي العالم العربي وماذا وجد فيه؟.. أناقش فيه قضية فلاحينا المساكين الذين لم يكن يخطر علي بال الواحد منهم أن يبتعد عن قريته حتي لو انطبقت السماء علي الأرض وفيهم أناس لم يذهب الواحد منهم إلي المدينة التي تبتعد عن قريته بضعة أمتار لتعلقهم بقراهم ولتعلقهم بثقافتهم التي ظلوا يحافظون عليها منذ قرون وإذا بباب الهجرة يفتح علي مصراعيه حيث هناك من يحرضهم علي الخروج من عالمهم الواسع في قريتهم إلي العالم الأضيق في وطنهم العربي وإذا بهم قد تغيروا وتغيرت أشياء وأشياء في حياتهم التي اصطبغت بالتراجيدية الإنسانية، هؤلاء الفلاحون الفقراء عادوا إلي قراهم يرتدون ملابس الشامواه وماركات الكريستان ديور وساعات من الماركات العالمية فصارت حياتهم عبارة عن تليفزيونات وفيديوهات وكاسيت وإذا بهذا البيت الطيني الجميل والصحي قد أصبح مبنياً بالخراسانات قبيحة الشكل وأصبح الواحد منهم يجلس علي البلكونة ويشرب مرطبات من معلبات وزجاجات المياه الغازية المختلفة فاختلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية اختلالاً عجيب الشأن وبالتالي اختل النسق الحضاري لهؤلاء البسطاء الذي كانت تحكمهم قوانين وأعراف محددة وبدل ما كان الواحد يتحدث عن الزراعة والسنابل والخضروات الطازجة صار يتفاخر بما لديه من معطيات الحياة الاستهلاكية فعبد الرحمن الأبنودي لم يخرج من ريف الصعيد وقضية الإنسان في الصعيد فديوان «الاستعمار العربي» يظهر لك الخلل الذي فصم عري البني الاجتماعية التي كانت قد تأسست علي قيم نبيلة وعريقة لدي الإنسان المصري في الصعيد.
من خلال هذا الشرح واضح أنك مستفز ومحبط مما حدث لهذا الإنسان الفلاح.. هل هذا الاستفزاز والإحباط ولد في داخلك قصيدة أو قصائد؟
- موضوع كهذا يدخل كفكرة ضمن دائرة علماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد ولكن الذي لفت نظري وأزعجني أن هؤلاء الناس أقصد الفلاحين كانوا يعيشون علي التراث يعني عندهم مناطق إبداع محفزة منتجة مدهشة وأنا أحد تلامذتهم فضربوا بكل ذلك عرض الحائط وخلفوا كل ذلك التراث وراءهم، فالواحد منهم صار يتسمر أمام التليفزيون لساعات وساعات ملتزماً الصمت وبالتالي فإن مناطق الإبداع النشطة لديهم قد تعطلت عن العمل فهذا الذي كان يقول: «أنا كل ما قول التوبة يابوي ترميني المقادير» يأتي وينتظر الأغنية التي كتبتها أنا أو غيري ويتفرج عليهم مثل القرود وهو في رأيه أنهم مثل القرود.
أوتلومهم.. أليسوا ضحايا؟
- أتفق معك.. الفلاح لا ذنب له، رجل انفتح أمامه باب رزق ونحن قد حشونا دماغه بأفكار طيبة عن أمته العربية وعن الأخوة العربية وعن القومية العربية وعن الوحدة العربية فذهب وعاد مختلفاً مفرطاً في أشياء كثيرة هناك والبعض منهم دفع ثمناً غالياً وهناك من عادوا جثثاً مكدسة بصناديق اتجهت بهم من المطارات إلي المقابر.. وهناك من فقدوا حقوقهم وعرقهم وتعبهم لسنوات وسنوات.
هل للشعر موقف ثابت؟
- ماذا تعني بالموقف الثابت؟!.. الشعر أيام العهد الملكي كان يختلف عن الشعر الذي ظهر أيام عبدالناصر ويختلف كذلك عن الشعر الذي ظهر أيام السادات.. ثم إن الشعراء أولاد وأحفاد من سبقوهم ممن عبروا عن عصورهم يعني بيرم التونسي يعتبر والد فؤاد حداد وعبدالله النديم يعتبر والد التونسي ونحن منذ أن وجدنا، وجدنا هذا الميراث مثل الراية جيل يسلمها للأجيال التي تأتي من بعده هذا جانب من الجانب الآخر، الثقافات حينما تذهب وتأتي مكانها ثقافة أخري أيضا تكاد أن تتشابه مع الحالة الشعرية فثقافة الستينيات تختلف تماما عن الثقافة المطروحة هذه الأيام.. مثلاً: العصر الذي نعيشه يعتبر عصر إعلانات الألبان والمشروبات، إعلان عن الاستهلاكيات بكل جدارة بينما أيامنا كانت المطبعة تعطيك كتاباً في كل ست ساعات وكان الذي لا يقرأ يجد نفسه منعزلاً عن الناس لأن الذين يقرأون يناقشون أما الآن فالتعامل بالدولار والحديث عن الدولار هو القاسم المشترك والغالبية العظمي من المستهلكين، والمؤسف أن الكتاب هو الآخر أصبح مرتفع الثمن.. فأين يتجه الإنسان؟.. يتجه إلي الثقافة السهلة ثقافة التسطيح والتهميش والتجهيل ثقافة التليفزيون أو ثقافة الاستهلاك.
هل حدث تغير عند الشاعر الأبنودي.. يعني هل هناك تغير ما بين أبنودي الستينيات وأبنودي التسعينيات؟
- بصراحة.. الأبنودي هو الأبنودي متفاعل دائماً مع أحداث يومه، وبصراحة الشاعر اليوم يحتاج إلي قدرات تفوق قدرة البشر كي يخترق القشرة الإعلامية اللعينة يا رجل أنا جئت إلي القاهرة كي أدخل الجامعة أنا وصديقي الشاعر «أمل دنقل» وما هي إلا أيام حتي وجدنا أنفسنا نذهب إلي رابطة الأدب الحديث ونطرق أبواب جميع النشاطات الأدبية والفكرية والثقافية بل نساهم في بعض فعالياتها وعندما أرسل لي الوالد أربعين جنيهاً كمصاريف للجامعة وكنت قد تيقنت بعد أن يئست ألا مكان لي في الجامعة ذهبت إلي سور الأزبكية المكتظ بشتي أنواع الكتب وكان هذا السور من معالم مصر الحضارية الكتب القديمة بقرش أو بقرشين وأغلي كتاب بخمسة قروش فما كان مني إلا أن جئت بصندوق ضخم واشتريت بالأربعين جنيهاً كتباً وأخذت الصندوق إلي الصعيد وهذا هو الصندوق الذي نمي ملكة الموهبة الشعرية لدي بالحصيلة الثقافية التي هيأتني كي أكون شاعراً فكيف يمكن لي أن أتغير عما كنت عليه؟.. لا يا صديقي أنا لم أتغير بل ازددت تشبثاً بالقراءة والتعايش مع أحداث العالم التي تقذف لنا في اليوم الواحد بزخم من المعارف التي لا حصر لها ولا نهاية.. للأسف إن الكثير ممن يفترض أنهم يسيرون علي نهجنا لم يتتبعوا الأسس التي أسستنا وتأسسنا عليها.
من تقصدهم هم من أجيال التسعينيات والألفين؟
- نعم.
أليس من مسئوليتك الأخذ بأيديهم؟.. صلاح جاهين كان يفعل ذلك، وبيرم كان يفعل ذلك، وفؤاد حداد أيضاً فهناك الكثير ممن يدينون لهم بالفضل؟
- ما أريد أن أقوله لك في المثل السابق علي سؤالك والذي جئت به علي حكاية الصندوق هوأن في الستينيات لم يكن هناك من أحد يمد يده لأحد ولكن أنا أحياناً كنت أضم يدي إلي هؤلاء لأنهم حمايتي لأنهم هم الدفاع عني نحن في الستينيات كنا نحارب ضد عدة جبهات الاستعمار من جهة والصهيونية من جهة والجهل والتخلف من جهة والرجعية من جهة، كانت حياتنا ثورية في كل ما نعمل علي الصعيد العربي فمصر كانت تتبني مشروع القومية العربية، كان لابد للعرب أن يسمعوا موال النهار وأبوالمسيح والأغنيات التي سهرنا ليالي وأسابيع وأشهر مع عبدالحليم حافظ لنظهرها للناس، هذه الأشياء الحقيقية لم أكن أنا الذي كتبتها، الواقع كتبها من خلالي يعني فترات تصنع المعبرين عنها فالظروف الموضوعية هي التي دفعت بي أن استقيل من وظيفة كاتب جلسة في المحكمة في الصعيد وكل واحد من أبناء جيلي إما استقال أو ترك دراسته وجاءوا، القصاص قصاص والرسام رسام والشاعر شاعر والصحفي صحفي وكانت تدفعنا دوافع أكبر منا.
هل اختفت تلك الدوافع؟
- بكل أسف.. ماتت الكثير من الدوافع وهذا أمر محزن عدونا الذي هو المحور الرئيسي استسلمنا أمامه قطراً بعد قطر حتي أصحاب القضية أنفسهم انتهوا إلي شيع وأحزاب والتفتوا إلي خصومات بين بعضهم البعض والعدو سائر وفق تنفيذ مخططاته المدروسة.
أيائس أنت؟
- لا أريد تكرار الكلمات المعلبة «لا حياة مع اليأس.. ولا يأس مع الحياة» ولكني أتساءل أين هو الهدف أين هو المشروع الذي أفنينا شبابنا بالعمل علي تحقيقه؟.. لا يوجد!.. فالآن أنت ممكن أن تأتي وتجمع حولك عدداً من الشعراء وتتحدث إليهم في الصناعة الشعرية.. «يا ابني هذا البيت مكسور!».. يا ابني هنا الموسيقي الشعرية مختلة».. «يا حبيبي عليك باللغة اللغة هنا ضعيفة».. أو «أن هذه لغة صلاح جاهين فابحث لنفسك عن لغتك الخاصة».. إذا كان ما تقصده بسؤالك عن الذين أأخذ بأيديهم فأنا كثيراً ما أفعل ذلك ليس في مصر وحدها فحسب لكن في كل مكان في الوطن العربي.. لكن الأهم من كل هذا وذاك أن الحوافز قد ماتت تماماً هي الأخري.. لأن مرحلة وجود عبدالناصر كانت شيئاً مهماً لتحفيز الناس للسير معه في المشروع.. رغم أننا كنا نصارع حتي ضد عبدالناصر نفسه لأننا كنا نحلم أكثر وأثبتت الأيام أننا كنا علي حق وأن عبدالناصر كان لابد أن يضع جذوره داخل الناس ويتفرغ من أجل تقوية الجيش يعني الجيش الشعبي وليس أن يأتي رئيساً بعده ويدوس علي كل شيء.. ويمسح كل شيء.. ولكي يخلد نفسه سار في اتجاه معاكس للمشروع الذي أفنينا شبابنا من أجل تحقيقه.. للأسف هذا الذي أوصلنا إلي تطحلب النبات السلطوي الفوقي أي طالع إلي فوق الماء وليس ضارباً جذوره في الترعة.
عبرت عن ذلك؟
- الحواجز أكبر من كل الأحلام
واسمك من اسمي واسمك
من جهلي وجهلك واسمي واسمك
مش حتعلمني أكتر ما تعلمت
روح علم أبوالواد والبت
إللي حيرميهم فيلم العبرة
يصيبه بكرة
ولحد دلوقت ما يعرفش إزاي يكتب وإزاي يقرا
إزاي يعشق وإزاي يكره
ولا عنده فكرة عنك
أو عن بكرة
لا أنا ولا أنت نجحنا في تغيير الفكرة
هل هذا الإحباط أحال ما بينك وبين القصيدة لتتجه لكتابة الأغنية؟
- بالعكس.. أنا مؤمن بالأغنية لأنها أكثر تأثيراً من القصيدة أولاً: الأغنية تطارد السامع في التاكسي وعند الحلاق وفي الشارع وفي المقهي.. ثانياً: الأغنية الواحدة أطبع بريعها ديواناً كاملاً من الشعر وهي فن خفيف الوزن تنتقل إليك وتكون طيعة بين يديك وفي وقت لا يستغرقك الكثير.. ثالثاً: الأغنية أخطر من القصيدة لأن القصيدة لا يستمع إليها أحد إلا إذا نشرتها أو انتقلت بين الناس لتلقيها عليهم بنفسك الأغنية لبست الكاكي وحملت السلاح في فترات النضال.
ماذا عن دور الأغنية في 1973 أعني في معركة العبور؟
- بصدق أقول: ظهرت ظواهر غنائية أشبه بالميكروبات أشبه بالخلايا السرطانية في الجسم والذين تولوا أمرها أدعياء معدومي الثقة ومعدومي الهدف صنعوها بلا خوف علي الأوطان بلا خوف علي البشر فتحولت إلي فن استهلاكي مثل زجاجات المياه الغازية مثل السجائر يعني أنت تدخن السيجارة وترمي عقبها ثم تسير فليس هناك من يفكر في أن يدخن هذه الأعقاب من بعدك.. فالأغنية أيام النضال في التجربة التي عاشها الأبنودي مع بليغ حمدي مع عبدالحليم حافظ والنابعة من الفلكلور المطور هي شبيهة أيضاً بالأغنية التي ارتدت الكاكي وناضلت.
ما تريد الوصول إليه من كل هذا هو الصدق أو اللاصدق في الأغنية؟
- تماماً.. يعني نحن بدأنا بأغاني مثل «آه يا ليل يا قمر» و«عدوية» و«تحت الشجرة يا وهيبة» و«آه يا اسمراني اللون» كل هذه الأغاني لقيت نجاحاً منقطع النظير لأنها تحمل طابع الصدق وفي أيامنا في عز الظلام الحالك أغني موال «النهار» وأقول: أبداً بلدنا للنار وأرفض الهزيمة ما أريد الوصول إليه أن الإنسان عندما يدخل معركة قد يخسر بعض الشيء ولكن لا يمكن أن يكسر إيمانه بالشيء الذي دخل معركة من أجله هذا ما أريد أن أقوله نحن لعبنا هذا الدور نحن ربطنا بين الناس وبين إيمانها بعقيدتها للغد فكانت الأغنية المرتدية الكاكي الصادقة وليست الأغنية «الهبلة» ليست الأغنية الاستهلاكية ولذلك لا أحد يجدني الآن في هذه السوق فأنا لا انتظر أن تفتح أجهزة الإعلام الرسمي أبوابها لواحد مثلي لأنها لا تسوق إلا الزيف والتطبيل والدجل.
هل ما تقوله ينطبق علي الأغنية فقط؟
- غالبية فنون صناعة الإعلام الرسمي سواء في المسرح أو السينما أفلام مقاولات ومسارح الضحك والتهريج وصناعة نجوم يطبلون للنظام، أنا مؤمن بدور الفن إيماناً كبيراً.
ما العمل إذاً في ظل هذه الأوضاع؟
- لن نقف مكتوفي الأيدي أنا أنجزت الليلة المحمدية وكانت متميزة عن السائد والرائج في الأسواق وعندما تتاح لي الفرصة أقدم أشياء تليق بالمجتمع الذي أحبه وأحب أن أعطيه ما يستحقه من الفن فيما مضي كنا نقضي ما يقرب من العام أنا وعبدالحليم وبليغ علي أغنية واحدة إلي أن يخرج عبدالحليم ويغني «الهوي هواي» بعد سنة من العمل المتواصل.
لا شك أنك افتقدت عبدالحليم وبليغ؟
- الأمة العربية كلها افتقدتهما عبدالحليم الله يرحمه كان يؤمن بعمل الورشة والفرق بينه وبين الآخرين مثلاً: عندما يهاتفني هاني شاكر ويقول لي: نريد منك أغنية ومعي الملحن فلان الفلاني ويأتي هذا الملحن ثم يأخذ الكلام ويبدأ بالتلحين ويذهب ليلحن الكلمات عبدالحليم لم يكن يفعل ذلك كان يهاتفني في الثالثة صباحاً ونلتقي نحن الثلاثة ونتداول فيما وصل إليه اللحن من نغمات أو تغيير في الألفاظ أو في الآلات لذلك كنت كثيراً ما أنفجر وأصرخ يا ناس عايز أرتاح!.. يا ناس عايز أنام!.. ولكن عندما يظهر العمل للناس ونتذوق جميعاً حلاوة النجاح يهون بعد ذلك كل شيء.. صدقني إذا قلت إن أغنية واحدة مع عبدالحليم حافظ كانت تحول بيني وبين قراءة «200» كتاب أو من الممكن أؤلف ثلاثة كتب.. كنت أقول دائماً: إن قصيدتي إذا نشرتها إحدي الصحف فإن عدد قراء تلك الصحيفة لا يتجاوز عشرات الآلاف من القراء لكن قصيدتي التي يوزعها عبدالحليم حافظ تصل إلي ملايين الناس بل إنها تبقي خالدة.
أستاذ أبنودي.. ممكن أسألك سؤال آخر؟
- اسمع بقا يا خال.. أنا تعبت.. وقلتلك كلام كتير.. خلاص بقا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.