قبل أن تقرأ.. لم تجد «روزاليوسف» من هدية تناسب ولاء قرائها لهذه المطبوعة، سوي نشر سلسلة من اللقاءات والحوارات النادرة التي لم تنشر من قبل مع كبار المفكرين والكتاب والأدباء والفنانين، أجراها الكاتب والإعلامي الكويتي الكبير الدكتور نجم عبدالكريم في فترات مختلفة علي مدي أربعة عقود. في الحلقة الرابعة تتحدث سيدة الشاشة فاتن حمامة كما لم تتحدث من قبل.. نريد أن نمر مرور الكرام علي تلك المقدمات التي اعتادت التمهيد للشخصيات المراد التحاور معها.. لسبب بسيط جداً: هو أننا نتحاور مع " فاتن حمامة".. فماذا يمكن أن نقول عنها؟ يكفي أن نذكر اسم فاتن حمامة لترتسم في أذهان القراء فوراً تلك الصور المختزنة في ذاكرة كل منهم عنها.. ولهذا نبدأ الحوار مباشرة.. أستاذة فاتن.. منذ متي بدأ حبك للسينما؟ هل أحببتها عندما دخلت الي صالاتها وأنت طفلة؟ - لقد أحببت السينما من قبل أن أدخلها، وكنت أعشقها وأنا طفلة تشاهد أحداثاً علي شاشة كبيرة، وكانت تضع نفسها بين الأحداث التي تشاهدها، لدرجة الانفعال الذي يكاد أن يصبح حقيقة.. كنت أعيشها حتي بعد أن تضاء أنوار الصالة. معني هذا أنك كنت تتابعين السينما، وأخبارها.. وتعرفين نجومها الذين تتعايشين معهم في خيال اليقظة؟ - لا.. لم أكن في ذلك الوقت أتابع أخبارها، بمعني المتابعة الواعية والمدركة ، وإنما لم أكن أجد مانعاً - في ذلك الوقت - من الذهاب الي مشاهدة فيلم في الصباح، ومشاهدة فيلم آخر بعد الظهر!.. فهل هناك متابعة لطفلة في سني أكثر من هذه المتابعة؟ معني ذلك أنك دخلت إلي الاستوديو للتمثيل أول مرة أمام عبد الوهاب، وكانت الصورة مكتملة بالنسبة لك باعتبار أنك كنت تتعايشين مع الأحداث السينمائية في خيالك، وقد جاءتك الفرصة لتجسيد هذا الخيال الي الواقع؟ - ما تقوله مبالغ فيه فدخول الاستوديو لأول مرة بالنسبة لي كان عبارة عن لعبة.. أي والله لعبة! هذا الأمر يحتاج منك إلي أن تشرحي لنا هذه اللعبة؟ - أولاً: لقد تعودت علي التعامل مع المخرج الذي كان يلبي لي كل طلباتي.. فقد كان يتعامل معي كطفلة لها خصائص الطفولة التي لا غني للأطفال عنها! في حين كنت أراه يصرخ، ويكون في حالة عصبية مع الآخرين من فنانين وفنيين.. ولكن عندما يتعامل معي فكان يبتسم، ويحضر لي الهدايا، لدرجة أنني كنت أتسبب في وقف التصوير أحياناً لكي ألعب الحبل قليلاً أو ألعب بالكرة قليلاً.. تخيل عشرات الفنيين والفنانين يتوقفون عن العمل الي أن أنتهي من لعبي! ... ومن هنا اعتبرها لعبة، وهذا ما قصدته عندما قلت إن البداية كانت بالنسبة لي عبارة عن لعبة إذن لماذا، وأنت الفنانة السينمائية الأولي في الشرق العربي تشعرين الآن بالرهبة في الأيام الأولي من دخولك الاستوديو؟ - الرهبة حالة تنتاب كل الفنانين عندما يقدمون علي عمل جديد.. ومصدرها أن الفنان يحتاج الي وقت كي ينسجم ويتفاعل مع الدور الذي يؤديه.. ولذلك فإنني أحتاج الي يوم أو يومين في العمل لكي أمسك البداية، وأسير بالشوط حتي نهايته في حالة من الانسجام الهارموني، وبحالة انفعالية تخدم الشخصية التي أجسدها علي الشاشة.. فكما تعلمنا في المعاهد الفنية: أن الفنان يقرأ النص أولاً، ويستوعب هذا النص ثانياً، ثم يتعايش مع ما فيه من شخصيات وأحداث.. وفي النهاية يؤدي دوره وفقاً للاستيعاب والمعايشة لكي يبدع في أدائه.. وكل هذا ليس أمراً هيناً فلابد من الرهبة. هل حدث للأستاذة فاتن أن تعايشت مع أحد الأنماط الانسانية التي قامت بتمثيلها، ثم استمرت بمعايشتها لهذه الشخصية بعد انتهاء تصوير الفيلم؟ - والله.. علي حسب الشخصية والنمط الذي كنت أؤديه في هذه الشخصية.. ففي بعض الأدوار الدرامية كنت أُصاب بحالة من الاكتئاب لعدة أيام بعد انتهاء التصوير. طيب، في حالة قيامك بدور فلاحة، وهذا الأمر يقتضي إتقانك لهجة الفلاحين فهل تبقي جذور هذه اللهجة معك لتتحدثين بها في حياتك العادية بعد انتهاء تصوير الفيلم؟ - يا أخي.. ما أنا فلاحة!! أعني أن تتحدثين في بيتك ومع أفراد عائلتك بألفاظ مرتبطة ببيئة هي ليست من بيئتك، يعني لا يمكن أن تأتي علي لفظة (البلاّص) أو (الزير).. وغير ذلك من الألفاظ لعدم تطابقها مع البيئة التي تعيشين فيها. - شوف يا سيدي.. إحنا ناس فلاحين، والفلاحة موجودة مغروسة في داخلي، حتي علي صعيد النسب العائلي، دع عنك أبي وجدي.. يعني جيل ما بعد منتصف القرن العشرين.. وستجدنا كلنا من الفلاحين.. ولهذا لا أجد غرابة إن كنت أتصرف في عفوية وبساطة الفلاحين وأنا ضمن دائرة البيئة التي أعيشها. مادمنا نتكلم عن حياة الفلاحين في الأنماط السينمائية، والأدوار التي أديتها.. هل تشعرين أن هذه النماذج الإنسانية قد كان لها تأثير علي حياتك؟ - لقد تعايشت مع الفلاحين كثيراً منذ دعاء الكروان، مروراً بالحرام وحتي أفواه وأرانب، فوجدت نفسي أميل إليهم كثيراً وأحبهم وأحب بساطة الحياة الطبيعية غير المصطنعة التي يحبونها.. ولعلي لا أبالغ عندما أقول إنني أفضل حياة الفلاحين وما فيها من صدق ومحبة علي حياة أهل المدن والعواصم المليئة بما لا أريد أن أذكره.. فكلما أذهب إلي القري وألتقي الناس هناك.. أجدهم ألطف بكثير من أبناء المدن.. وقد كونت صداقات حميمة مع الكثير من عمال التراحيل عندما كنت أعمل فيلم (الحرام). هل تكونت هذه العلاقات بينك وبين هؤلاء الفلاحين وهم يعرفون ويدركون من هي فاتن حمامة؟ - إطلاقاً.. لأنه عندما كنا نصور فيلم الحرام، لم يكن التليفزيون منتشراً، وقليل من كان يملك جهاز راديو، ولعلي لا أبالغ عندما أقول: إنهم كانوا يعتقدون أنني واحدة منهم. وهل كنت واحدة منهم فعلاً بعد انتهاء أدانك لدورك؟ أعني من حيث اللبس وطريقة الأكل والتصرف بشكل عام؟ - بصراحة.. أنا كنت أقوم بعملية الغش منهم ومحاولة تقليدهم في طريقة أكلهم وشربهم وقعودهم وطريقة كلامهم.. فاقتربت منهم أكثر وكانوا يحكون لي حكاياتهم وأستمع إليها.. حتي كدت أن أصبح واحدة منهم دون أن يدركوا هم ذلك؟ بمناسبة الحديث عن المرأة الفلاحة، وبحكم تجربتك معها، كيف تقارنينها مع المرأة في المدينة؟ - بحرص شديد أقول حتي لا يزعل مني أحد، وأستخدم تعبير: (يمكن) تكون المرأة أو بنت البلد في المدينة تجنح الي غير الحقيقة أحياناً، يعني قد تضطر للكذب لكن المرأة الفلاحة أكثر حرصاً علي الأمانة والصدق، وإن كانت لا تخلو من بعض اللؤم أحياناً. أستاذة فاتن، الذي يشاهدك علي الشاشة.. يشعر أنك لا تمثلين الدور حتي يصل الي قناعة أن هذه السيدة التي أمامه هي ليست ممثلة، وإنما هي تجسد حالات من الواقع المعاش بعيداً عن المبالغات، والتمثيل الذي يقوم به البعض من الممثلين؟ - لا تنسي أنني أحمل علي أكتافي خبرة سنوات طويلة، ووصلت إلي مرحلة اذا لم أقتنع فيها بالدور، وأتفاعل معه وأتعايشه وأستطيع أن أؤديه بنجاح.. فليس من الممكن أن أقنع الذي أمامي به. ... فأولاً قناعتي أنا بالدور.. وهذه قد تكون صعبة جداً في كثير من الأحيان في بداية الطريق، إذ لم يكن بمقدوري أن أشترط قبول هذا العمل ورفض ذاك.. أو أن أرفض ما يعرض علي من أدوار، أما الآن فأنا في موقف يسمح لي باختيار ما يتناسب معي من الأدوار.. وكم من الأدوار قمت بأدائها وأنا غير مقتنعة بها، ولعلي لا أذيع سراً عندما أقول: إن تداول أدواري القديمة والتي لم أكن مقتنعة بها من خلال الفيديو، هذا التداول يؤرقني ويقلقني.. ولكن عزائي أن الذين يشاهدونني في أدواري الأخيرة، ويقارنون، ويدركون الفرق الشاسع بينها وبين تلك الأدوار.. لا شك أنهم سيكونون قناعة في داخل أنفسهم، ويرجعون ذلك الفرق للظروف الموضوعية التي كانت تحيط بتلك الأعمال، ولهذا فأنا لا أقبل الآن أي عمل ما لم أكن مقتنعة به جداً جداً.. هل تتم قناعاتك وأنت تطالعين الورق المقدم إليك؟ أو أثناء التصوير، أم بعد انتهاء التصوير؟ - هناك حقيقة، لابد أن يدركها كل إنسان.. وهي: أن أهم عوامل النجاح للفيلم هو الورق.. الورق وليس بمعناه المجرد - الورق الذي أعنيه هو السيناريو المحتوي علي صور مكتوبة للشخصيات وللأحداث الي جانب المؤثرات الأخري من صوت وإضاءة وspecial effect فعندما تقرأ السيناريو وتشعر أنك أمام أحداث حقيقية وأشخاص حقيقيين، وتقتنع بذلك اقتناعاً كاملاً.. فبالتأكيد إن ذلك الشعور سينعكس علي المشاهد. بالطبع العوامل الأخري مثل قدرات المخرج، وحُسن اختيار طاقم العمل من الفنيين، إلي جانب المشاركين من الممثلين، فهذه العوامل كلها تساهم في تقديم عمل جيد، يريح الفنان والمشاهد علي السواء. أين يكمن ضعف العمل السينمائي؟ - هناك عوامل كثيرة تساهم في ضعف الأعمال السينمائية: - - العمل السينمائي تماماً كالعملية الجراحية الخطيرة جداً، فأي خطأ فيها قد يؤدي الي الموت والهلاك.. أروي لك أشياء بسيطة: .. هل يعقل أن فلاحة مصرية، تضع علي عيونها رموشا اصطناعية ، أو تظهر علي الشاشة وعلي شفتيها من الألوان الحمراء الفاقعة! أو أن تكون تسريحة شعرها مطابقة لآخر صيحات التسريحات. .. وهل يعقل أن تكون الفلاحة المطحونة ما بين الحقول وعمل البيت ترتدي ملابس قد خرجت من الكوّاء لتوها؟ .. للأسف هذه الأشياء البسيطة وغيرها لا يراعيها البعض، مما يصبغ صناعة السينما بالاصطناعية وبالتالي يفقدها مصداقيتها لعدم تطابقها مع الأحداث والأنماط البشرية التي تصورها في الفيلم. أستاذة فاتن.. لقد طبقت ما تفضلت بالإجابة عنه في السؤال السابق في فيلم (أفواه وأرانب) من خلال لفة الطرحة التي كنت تقومين بلفها.. إلي جانب إصرارك علي الاهتمام بكل هذه القضايا الصغيرة وبدقة.. ربما يكون ذلك مصدراً للازعاج عند بعض الفنانين والفنانات الآخرين؟ - ليس مصدراً للإزعاج فقط، إنما البعض منهم قد اتخذ مني موقفاً والبعض (زعل)!!.. ولا أريد أن أذكر لك الذين صمموا علي الزعل، وإنما سآتي علي ذكر فنانتين أنا أحبهما كثيراً وكانتا قد عملتا معي.. مثل الفنانة رجاء حسين، وبالمناسبة هي واحدة تُعد من أفضل الفنانات وقد كانت تقوم بدور أختي التي يفترض أنها معذبة وفقيرة ومغلوبة علي أمرها.. وعندها كثير من الأولاد.. رجاء.. وجهها جميل، ولما دخلت الاستوديو وجدت أنها قد وضعت مكياجها.. ورتبت ملابسها بصورة لا تتناسب ووضعها الاجتماعي والشخصية التي تقوم بتمثيلها!! فقلت لها: يا رجاء لا يمكن لك أن تكوني بهذه الملابس وهذا الماكياج، وأنت انسانة تعيسة ومعذبة، فنظرت إلي بعد تفكير.. وتأكدت أنني أسعي لمصلحتها ومصلحة الدور والشخصية التي تمثلها وبالتالي الفيلم ككل.. وفعلاً كانت رجاء لطيفة جداً.. إذ بادرت الي تقطيع الجلابية (وكرمشتها).. وقلت لها: لا يجب أن تكوني حلوة بهذا الشكل.. فذهبت (ولخبطت ماكياجها) فكانت متجاوبة معي في الدور الذي كنا فيه عبارة عن شقيقتين يدور بينهما شجار وعراك.. وكان من أبدع المشاهد في هذا الفيلم.. .. وهناك فنانة أخري أحبها وأعزها جداً، وهي المرحومة وداد حمدي أيضاً لعبت معي دور فلاحة مغلوب علي أمرها في هذا الفيلم، ولما حاولت أن أتوجه لها بالنصيحة كما فعلت مع رجاء حسين.. للأسف غضبت، وتصورت أنني أتدخل فيما لا يعنيني، فمثل هذه الأشياء التي يكون مصدرها الحرص علي العمل، وأن تكون المشاهد صادقة، نجد أن البعض من الأصدقاء الأعزاء يغضبون ويزعلون. .. أعود للإجابة علي سؤالك: إن أسباب نقط الضعف في السينما.. كثيرة ومنها عدم اهتمام الفنان نفسه كبعض النماذج التي جئت علي ذكرها. أستاذة فاتن.. عن السابق يؤكد أن الحوار مع النجوم الذين لهم خبرة يصيب وأحياناً يخيب، فتجربتك مع الفنانة رجاء حسين ووداد حمدي.. كيف ستقابل، إذا ما أردنا أن نطبقها علي النجمات الجدد اللواتي يرين أن الرموش الاصطناعية وآخر التسريحات والطلاء بالألوان الفاقعة، جزءاً مهماً من حياتهن؟ - يا سيدي.. ليس هناك ما يمنع من استخدام كل هذه الأشياء علي شرط أن يكون ذلك ملائماً مع الدور.. ودعني أقول لك أكثر من ذلك: المسألة ليست رموشا طويلة وتسريحة، وإنما عندما يثق الفنان في عمله بكل احساسه، ويؤمن به.. ربما لا يجد النجاح الكافي عند الجمهور عندما يعرض هذا العمل، وإنما تأكد تماماً أن العمل الصادق لابد أن ينجح يوماً ما حتي لو بعد سنوات! وهذا ما حدث لفيلم (الحرام).. فالحرام فشل حينما عُرض في السينما، ولكن بعد كذا سنة عُرفت قيمة هذا الفيلم وأُعيد تقييمه.. المهم.. إيمان الفنان بعمله. غريب ما حدث لفيلم الحرام، لكن دعاء الكروان لقي النجاح منذ العروض الأولي؟ - طبعاً.. بسبب الظروف الموضوعية والزمانية لكلا الفيلمين. أستاذة فاتن.. هل ما زالت تتابعين مشاهدة هذه الأفلام عندما تظهر في التليفزيون؟! - نعم.. قطعاً الحرام مازلت أتفرج عليه.. وأحبه ودعاء الكروان لازم أجلس أشاهده حتي نهايته، وكأنني أراه للمرة الأولي! وبقية الأفلام؟ - أفلامي أنا؟!.. نعم؟ - بعضها أكرهها.. هل لدي الاستاذة فاتن مكتبة فيديو لكل أفلامها في المنزل؟ - ولا حتي صورة لأي فيلم من الأفلام! لماذا؟ - خلاص.. اللي فات.. فات وانتهي، المهم الذي سيأتي.