(1) كان وقتها في الصف الخامس الابتدائي، ضئيلاً إذا ما قيس بأقرانه، ولم تكن أسنانه اللبنية قد سقطت جميعها عندما رأي لأول مرّة صورة قناع بشري. علي جدار قليل النور بين خزانتين قديمتين، واسعتين ومتربتين، في مكتبة المدرسة، كانت صورة مزججة بإطار خشب رفيع بُنّي اللون، بحجم ورقة كتاب مدرسي. اقترب منها كما لو كان يحلم، كان اسم صاحب القناع مطبوعاً تحته، حروفه رفيعة خفيفة السواد، شبّ علي أصابع قدميه وقرأ. عاد من المكتبة ليسأل أكثر من معلّم عن الصورة، سأل بعد كلّ درس ولم يكن أحد منهم قد رآها من قبل، لم يعرفوا من أين جاءت للمكتبة، ومن علّقها علي الجدار. بعضهم يتفاجأ بالسؤال، ويردد كأنما ليتأكد مما سمع: صورة قناع في المكتبة؟ كاد يتوقف عن السؤال واثقاً أن أحداً لم يرها قبله حتي أخبره معلّم الجغرافيا أنه رآها ذات يوم عندما كان في مثل سنّه، ربما أكبر بقليل، منشورة في مجلة أو كتاب، وكان الاسم مطبوعاً تحتها أيضا، لم تكن واضحة بما فيه الكفاية، لكنها بقيت في ذهنه طويلاً، يفكّر بها في كل وقت، ثم حدّثه عن الملوك الذين لا يرتدون الأقنعة في حياتهم، إنهم يُحبّون أن تظل وجوههم فتيةً، لا تكبر ولا تشيخ، حتي إذا أغمضوا عيونهم وماتوا صُنعت لهم أقنعة وهم لا يشعرون. صمت قليلاً ثم أضاف، كما لو كان يحدّث نفسه: يري الناس أقنعتهم في المتاحف أو في المجلات والكتب، ليتأكدوا أن الملوك أيضاً يموتون. (2) ينزل من غرفته في الليل لغرفة جدّه، يدفع الباب ويدخل غابة الأصوات الكثيفة المتشابكة، شخير الجد يتواصل علي وتيرة واحدة، كأنه يشخر في خط طويل، ومن حوله يتصاعد ضجيج أجهزة الراديو المنثورة في الغرفة، كان الجد يعيش في الغابة منذ كلّت عيناه. يوقد الضوء ويطفيء الأجهزة، جهازاً بعد آخر، ما تصلها يده منها، يرفع الغطاء برفق فيفزّ الجد وينظر نحوه محمرّ العينين، يحدّق إلي وجهه كأنه يراه، ثم يُعيد رأسه علي الوسادة، يسحب نفساً عميقاً ويفتح يديه. يوجعه أن يراه علي هذه الصورة كلما اشتاق له وفكّر به: عينان محمرّتان، لا تريان، ويدان مفتوحتان، واهنتان، بان عظمهما. ذلك ما سيظل يراه سنين طويلة بعد أن يُغمض جده عينيه، ويخبو الوشيش من حوله، ويموت. يتمدّد إلي جانبه وهو يسمع صوت تنفّسه يتداخل مع أصوات الجهازين الموضوعين علي دولاب الملابس، لم تصلهما يداه. كان صوت معلّم الجغرافيا يتردد في ذهنه، كأنه أشعل الموقد ونفخ علي النار بحديثه عن ملوك يموتون، وأقنعة تحكي، وأناس ينظرون. (3) لم تكن الجملة الأخيرة صادقة علي الرغم من دقّتها، وهي تقرّب المعلّم من النار التي اتقدت في ذهن الصبي كما اتقدت في ذهن معلّمه من قبل، تجعله يسحب نفساً وينفخ عليها. إنها تتلاعب بالحوادث، تغيّر ترتيبها، فما قاد الصبي إلي غرفة جدّه هو خوفه مما رأي، وما رآه أعاد علي مسامعه الجملة التي لم تكن قيلت إلا علي صورة القناع، لأن ما عرفه، بعدها، ظل مستوراً في نفسه حتي اللحظة التي دخل فيها الغرفة واستلقي بين يدي جدّه. لم يكشف سره لأحد في المدرسة، ولا حتي لمعلّم الجغرافيا، لأنه لم يكن يملك ما يكفي من الجرأة ليحدّث عنه أصحابه أو يسأل معلميه، ولأنه، وهذا هو الأهم، كان يُحسّه سرّه، ملكه وخاصته، وما عليه سوي كتمانه (4) لم يفارق المكتبة منذ اكتشف صورة قناع الملك فيصل الأول علي الجدار. كان القناع يناديه من خلف الزجاج، يتلاعب في ذهنه مثل ستارة تحرّكها الريح، تلتمع مع كلِّ حركة وتضئ، يسمع نداءه ويُقلقه، كلما عاود النظر إليه، أنه لم يكن يشبه وجوه الناس كثيراً. يصعد السلّم كلَّ يوم تقريباً، مع أي درس شاغر يصادفه، ينطلق أصحابه في الساحة ويتوجّه هو إلي المكتبة، ولما عثر في المكتبة علي مجلة قديمة مصفرّة الأوراق، تصفّح أعدادها وتنفس رائحتها وأحسّ بنفسه كما لو كان ينزل إلي سرداب عميق عدداً بعد آخر، وفي السرداب رأي صورة الملك داخل إعلان سكائر لوكس، صنع شركة الدخان الشرقية المحدودة، بعقاله المقصّب، ولحيته، وعباءته، عيناه صافيتان تنظران إلي الجانب، تلتمع في كلٍّ منهما نقطة ضوء، تأكد أن الأقنعة لا تشبه أصحابها، حتي لو كانوا ملوكاً. (5) لما اشتاق لجدّه تداخلت في ذهنه الأصوات، أصوات غريبة متقاطعة، موسيقي ووشوشات، إشارات بعيدة ونداءات غير مفهومة، ورآه مستلقياً علي سريره، مفتوح اليدين، بفانيلته القطنية المبقّعة مأكولة الحواف. إنه أشهر مصلحي الراديو في المعقل، بدكانه شبه المعتم، المطلّ علي النهر. كان يواصل الرحلة معه من البيت إلي الدكان صباح كلِّ يوم من أيام العطلة الصيفية، مروراً بمقهي الحاج خليل الذي يكون خالياً في هذا الوقت من النهار، يراه نظيفاً مرشوش الأرضيّة، ويتنفس رائحة شاي جديد. يعبران جسر الخشب العتيق، من فتحات ألواحه يري الماء خفيف الزرقة، متدفقاً. يجلس أمام الدكان، علي الدكة الإسمنت تحت شجرة البمبر العالية، رائحتها خضراء فاغمة، يُحسّها اسفنجيّة مثل ملمس أوراقها، مترقباً النداء يأتيه في أية لحظة ليرفع جهازاً عن المنضدة، أو يناول مفكاً دقيقاً، أو لفّة أسلاك نحاس رفيعة عارية. كان الجد يعرف مكان كلِّ شيئ في دكانه الضيّق الشبيه بسوق الهرج، يكفي أن يدسَّ يده تحت كومة من بقايا الأجهزة ليسحب ما يريد، ماكنة لحام رفيعة مثل قلم الحبر، أو نابضاً دقيقاً معوجّاً، كانت يده تُبصر الأشياء بعد أن كلّ بصره وأخذ العالم يغيم أمام عينيه. في ظهيرات الصيف يسمع الصبي شخير جدّه بين ضربات ريشات المروحة بعد الغداء مباشرة، وفور انقطاع الشخير يعرف أنه عاد إلي العمل. عند الخامسة عصراً، قبلها بقليل أو بعدها بقليل، يعود بجدّه إلي المنزل، اليد الخشنة التي تُبصر الأشياء تحطّ مثل طائر علي كتفه، تكون لها في تلك الساعة رائحة برادة حديد و ملمس أسلاك نحاس. يتقدم جدّه بخطوة أو خطوتين، يعبران جسر الخشب، مازال ماؤه متدفقاً وقد تغيّرت زرقته، إنه الآن أكثر كثافة، يراه من بين الفتحات ويفكّر بالماء الذي يتحوّل حبراً في الليل. يسأل عن الجسر، عن ألواحه الخشب، وعن الماء الذي يجري، يسمعه جدّه ولا يُجيب. يتوقفان قليلاً في المقهي، يُسلّم الجد علي بعض الجلوس، يحييهم بأسمائهم ويسأل عن الأحوال، ومع استكان الشاي يبدأ بمناقرة الحاج خليل، يسأله عن راديو المقهي وما يأتي به من أخبار، من مكانه خلف منضدة المعدن يردُّ الحاج بأن كلَّ شئ علي حاله إلا الراديو، ثم يرفع صوته ويقول: منذ أصلحته يا أخي وهو لا يبثُّ غير أخبار الحروب، كأنه راديو وزارة الدفاع! بعد عودتهما إلي المنزل بوقت قصير يأكلان عشاءهما معاً، عندها يبدأ الجد بالحديث عن راديو المقهي الذي أصلحه أربع مرّات بلا مقابل وما زال الحاج خليل يشكو أنه لا يأتيه بغير أخبار الحروب، حاج لعوب، وعن الجسر، والنهر، لم يكن لونه يتغيّر أبداً، كنا نشرب منه، ونسبح فيه ونصطاد، كان أوسع مما هو عليه الآن، كأنه شاخ هو الآخر، ضاق مجراه وتبدّل ماؤه. يتوجّه بعدها إلي غرفته التي تضجُّ مثل دكانه بأجهزة الراديو، علي المنضدة الصغيرة جوار السرير، أسفل الشُبّاك، وعلي دولاب الملابس، أجهزة من كلِّ شكل ونوع، يشغّلها جميعاً ويستلقي علي سريره، أصوات غريبة تتقاطع من حوله، وموسيقي بعيدة ووشوشات، تمتليء بها الغرفة وتفيض، إنها الجنّة التي يعود إليها بعد رحلة كلِّ يوم. (6) في تلك الليلة حكي لجدّه، بصوت يغيّبه وشيش جهازي الراديو، عن الملوك الذين لا يشبهون أقنعة موتهم، وعن الوجوه التي لا تكبر ولا تشيخ. كان الجد ينزل في مياه النوم كما نزل إلي النهر يوماً، يسبح ويصطاد، وهو يواصل حديثه من دون أن يسمعه أحد.